لا تشاؤم مفتعلٌ ولا تثبيط للعزائم ولا دعوة الى الاستسلام، لكن العرب مقبلون على خسارة اختبار القدس، بل لعلهم خسروه فعلاً. هذا هو الواقع بكل بشاعته وفجاجته وآلامه. ولم يبقَ لهم سوى الحدّ من الخسائر، إنْ استطاعوا، فقد رأوها آتية، ولعلهم استدرجوها من دون أن يتقصّدوا ذلك. وفي اجتماع وزراء الخارجية العرب ظهر التباين في المواقف بين فئات من العرب: الهاجسون بالتهديد الإيراني، والمخصّبون بالخطاب الإيراني، والمنشغلون بجبالٍ من المآزق والهموم الداخلية، والمعوّلون على الولايات المتحدة ولا يستطيعون مواجهتها، والمراهنون على أدوار أوروبية أو روسية – أو حتى إيرانية- مع علمهم بأن أميركا لبّت منذ تسعينات القرن الماضي شرطاً إسرائيلياً جرّفت بموجبه كل الأدوار الأخرى أو تستخدمها صُوَريّاً عند الضرورة كديكورات للإيحاء بأن «المجتمع الدولي» يبارك سياساتها، أي سياسات إسرائيل.
سقطت المطالبات بـ «المقاطعة» لأن الدول التي تجرّأت وأقدمت عليها سابقاً، بإشهار «سلاح النفط» وغيره، دفعت أو بالأحرى دفّعتها أميركا الثمن. وسقطت خيارات المقاطعة السياسية لأنها، وإنْ بدت ممكنة وتمّ اتّباعها فعلاً، لا تحول دون أن تكمل أميركا وإسرائيل ما بدأتاه من تصفيةٍ مبرمجة للقضية الفلسطينية، التي لم تعد منذ زمن «قضية العرب المركزية»، لا بقرار اتخذه العرب بإرادتهم وكامل وعيهم، بل لأن «قضــــايا» كثــيرة طرأت وأشعرتهم بالأخطار ذاتها التي عانت منها فلسطين وشعبها. والأكثــر واقعية أن العرب وجدوا أن القضية الفلسطينية منذ تذرّع بها صدّام حسين لغزو الكويت ومنذ تأبطها زعيم «القاعدة» لشرعنة إرهابه لم تعد صالحة للتوظيف والاستخدام في الحفاظ على الأنظمة، وأنهم منذ تخلّوا مجبرين عن خيار الحرب وأدخلوا القضية في نفق المفاوضات، آملين بـ «حل سلمي» يطوون به صفحتها، باتوا يدركون الآن أنهم لم يحسنوا إدارة الحرب ولا أجادوا إدارة معركة السلام، وليس خافياً أنهم مدعوون الآن الى إدارة الضعف والعجز بالتنازلات، حتى لو كانت تتعلّق بالقدس التي لطالما توارثوا التثاقف في شأن أهميتها التاريخية ورمزيتها الدينية وهويتها العربية وكونها تختصر في ذاتها قضية فلسطين، بل كرامة العرب…
كل ذلك لم يتغيّر. كان صحيحاً وسيبقى. إلا أن مبدأ «الضرورات تبيح المحظورات» أصبح عنواناً للتفلّت واللامبالاة واستسهال التهاون وتسهيله على الآخر في الموقع المعادي. ومع ذلك، لمَن يتعجّلون التخفف من أعباء فلسطين والفلسطينيين، وقد أصبحت لديهم «قضاياهم»، لا بدّ أن يتذكّروا أن الأنواء والعواصف والمخازي التي مرّت بها هذه القضية هي التي قادت المنطقة العربية الى ما تشهده اليوم، لأنها بلغة العصر وقوانينه الأممية قضية شعب يريد التخلّص من الاحتلال/ الاستعباد/ الاستبداد ويطمح الى حريته وتحصيل حقوقه والعيش بكرامة. وعليهم بالتالي أن يحذروا تعجّلهم وتهافتهم، لا لشيء إلا لأنه قد يرتد عليهم في «قضاياهم» نفسها، فمَن يضمن «ألاعيب الأمم» وتقلّبات المصالح. نعم، لا أحد يتوقّع من العربي المنكوب في سورية واليمن والعراق وليبيا، أو المأزوم في لبنان، أن يتناسى مآسيه ومعاناته ليقدّم عليها أي قضية، لكنه يدرك في أعماقه أنه إذا سُحق الحق في مكان فإنه لن يدرك حقوقه ولن يحقّق أيّاً من طموحاته أبداً. ولا يعني ذلك سوى أن الغلبة ستبقى سموم المشاريع والخطط الخارجية وأمراضها طالما أنها ترتع في الانكشاف العربي المفتوح أمامها ولا مناعة عربية ذاتية تصدّها، سواء كانت إسرائيلية أو إيرانية أو أميركية، ولا فارق بينها، فمهما تصادمت اليوم في الظاهر لا يمكن التكهّن في مآلاتها المستقبلية ما دامت متوافقة في جوهرها على الاستثمار في الضعف العربي.
من الطبيعي الاحتجاج والسخط والغضب، لأن قرار دونالد ترامب طعنة لا يمكن قبولها بأي ذريعة كانت. ومن الممكن طبعاً جلد الذات أو التباري بالنخوة والإقدام. لكن هذه لن تصنع سياسة عربية قادرة على مواجهة عدوان أميركي- إسرائيلي يستشعره كل عربي إن لم يكن بوجدانه وكينونته فبعقله، خصوصاً أن جهداً مضنياً بُذل لتكوين اقتناع جماعي بأن المسألة الفلسطينية، بما فيها القدس، في كنف تفاوضٍ و «عملية سلام» قالت ثلاث إدارات أميركية سابقة إنها في صلب استراتيجيتها. لكن العرب خُدعوا كثيراً وطويلاً ولم يعترفوا بذلك، وبالطبع لم يتصارحوا ولا صارحوا شعوبهم بل بلعوا كل الخدع، وراحوا يتفرجون على الخيارات تتضاءل في أيديهم. فما العمل إذا كانت أميركا تتجاهل التزاماتها المكتوبة لهم أو تنقلب عليها ولا تلتزم سوى ما تتعهّده لإسرائيل؟ وما العمل إذا كانت أميركا حوّلت «عملية السلام» من شراكة الى فخّ للعرب؟ طرحوا مبادرة السلام العربية ولم تقبلها إسرائيل ولا أميركا، وقد يكونون وجدوا في «الشرعية الدولية» ملاذاً وسبيلاً، لكن ترامب أسقطها لتوّه، فهو يريد «الحلّ» أو بالأحرى «اللاحلّ» الإسرائيلي، الذي لا يمكن تمريره بتطويع القوانين بل يُفرض فرضاً خارج أي مرجعيات أو شرعية دولية.
عملياً، يعيد ترامب القضية الى التصوّر الليكودي الأساسي، الى ما قبل المفاهيم التي وضعها مؤتمر مدريد وحاولت اتفاقات اوسلو أن تطبّقها لكنها تركت فيها ثغراً كثيرة. فالإسرائيليون كانوا ولا يزالون يعملون على وضع دائم للأراضي الفلسطينية، قوامه مناطق حكم ذاتي مقطّعة الأوصال والمقوّمات، ولا ترابط بينها يؤهّلها لأن تطالب بالتحوّل الى دولة ذات حدود وسيادة محترمتين. أي أن تكون مناطق يديرها الاحتلال، متحكّماً بأمنها ومواردها واقتصادها. يتبنّى ترامب، إذاً، مشروعاً لشرعنة نهائية للاحتلال، فلا تكون هناك مشكلة استيطان، ولا حقٌّ بالعودة أو حقوق أو حتى تعويضات للاجئين، بل لا يكون هناك اعترافٌ بشعب له حقوق أساسية مطلوب منه أن يستسلم ويتنازل عنها. هذا ما يراد استغلال أحوال العرب وأزماتهم الداخلية واستفراد الشعب الفلسطيني لفرضه عليه، فإمّا أن يقبله أو يتحمّل النتائج بالقتل والتدمير وبالحصار والتجويع.
كل ذلك لا يصنع حلّاً سلمياً ولا حتى تسوية جديرة بهذه التسمية بل مشروع احتلال متجدّد لن يجد ترامب وبنيامين نتانياهو فلسطينياً واحداً يتحمّل مسؤوليته مهما بلغت الضغوط عليه. والواقع أن الرئيس الأميركي، الذي يدير ديبلوماسيته بانحياز أعمى للمتعصّبين من ناخبيه، ولو تطلّب منه ذلك الاستهتار بمسألة كالقدس، يخطو سريعاً بسياسته الخارجية نحو شريعة الغاب فيما هو يعتقد أنه يقوم بـ «التجديد» والخروج من الأطر التقليدية. لذلك لم يعد أحد يتصوّر أنه قادر على طرح أي خطة أو مبادرة للسلام، سواء أوفد نائبه مايك بنس أو مبعوثَيه جاريد كوشنير وجيسون غرينبلات. والسبب واضح هو أنه أقدم على الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل ليس تنفيذاً لوعد انتخابي فحسب بل أيضاً عقاباً للجانب الفلسطيني الذي رفض أطروحات المبعوثَين. لم يكن أسلافه من الرؤساء أقل انحيازاً منه لإسرائيل لكنهم كانوا يميّزون بين الممكن واللامعقول، وبين تهوّرات السياسة وضوابطها.
اللامعقول أن يقدم ترامب على خطوة يعرف مسبقاً أنها متهورة، وإلّا فلماذا توعز خارجيته لإسرائيل بأن تقتصد في الاحتفال بها. اللامعقول أن يقدّم هديّة مجانية الى إيران التي يعرف مستشاروه أن التصيّد في أخطاء الأعداء والخصوم أبرز نقاط قوّتها، ولم يجفّ بعد حبر استراتيجيته لمواجهة نفــــوذها. اللامعقول كذلك أن يضرب بعرض الحائط كل ما يبذل في إطار المكافحة الفكرية للتطرّف والإرهاب، فيما المنطقة لم تستفق بعد من تجربة قاسية ومدمّرة مع تنظـــيم «داعش» ولا تنقصها الجمـــاعات والتنظـــيـــمات المرتبطة بإيران المتأهبة الآن لإنعاش «المقاومة» وقد استمدّت مشروعية أضاعتها في مستنقعات الحرب السورية، ولمعاودة توظيف المحنة الفلسطينية، استغلالاً وتشويهاً، في مشروعها التخريبي. كان يمكن «التجديد» الترامبي أن يطرح بقوة خطة خلّاقة للقدس كنواة للسلام القائم على تعايش الأديان، لكن تعصّبه جنح به الى خطوة بالغة التطرّف، مانحاً إيران أفضل فرصة لإدامة الفوضى الإقليمية بجعل القضية الفلسطينية صراعاً دينياً.
عبدالوهاب بدرخان
صحيفة الحياة اللندنية