“الشماعة المهترئة”.. هل حقا باع الفلسطينيون أرضهم؟

“الشماعة المهترئة”.. هل حقا باع الفلسطينيون أرضهم؟

إن كان لنا أن نقسم العالم فيما بعد اعتراف ترمب بالقدس عاصمة لإسرائيل، الأربعاء السادس من (ديسمبر/كانون الأول) الحالي، إلى ثلاثة أقسام: معترضون وغير فاعلين وسعداء بالقرار التاريخي، فإنه يمكننا وضع “أرييه كينغ” في مقدمة المهللين بما حدث بكل تأكيد. يكلل قرار ترمب جهودًا مُضنية لم يتوقف كينغ عن بذلها في الداخل الإسرائيلي منذ عشرين عامًا، وتحديدًا بمدينة “القدس الشرقية” كما تسميها تل أبيب، جهودٌ جاءت من أجل تمكين “اليهود” من العودة للمدينة المقدسة خاصة، والأراضي الفلسطينية عامة، كجزء من حلم الدولة العبرية الذي يتبناه كاملًا منذ زمن. وقد يمر اسم “أرييه” دون أن يُطلق جرس إنذار ما حوله، إلا أن الرجل، الممثل للجناح اليميني وجماعة المستوطنين في القدس الشرقية(1)، يجسد تمامًا تاريخًا طويلًا من التلاعب بحياة الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة من أجل إجبارهم على الخروج من أراضيهم، وفتح الطريق أمام الصهاينة لإقامة الدولة اليهودية المزعومة.

كان عام 2007 هو البداية الحقيقية لظهور اسم “كينغ”(2) من بين أسماء عدة عملت على مهمة واحدة دومًا: إيجاد الأراضي والممتلكات المناسبة لليهود الراغبين في العودة لفلسطين، وللقدس الشرقية تحديدًا، من خلال ترغيب وترهيب الفلسطينيين المقيمين بالمدينة وإجبارهم على الرحيل عنها. أما البداية في نفس العام فكانت ببعض أراضي جبل الزيتون، والتي كان نجاحه في الحصول عليها، أو “إعادتها” كما يقول دومًا، كان ذلك النجاح بداية لإنشائه “صندوق الأراضي الإسرائيلية”، وهو صندوق تأتي أموال عملياته الشرائية من كافة أرجاء العالم بزعم “كينغ” نفسه، وبهدف “تمكين اليهود”. وللحظتنا هذه، يعمل الصندوق على المهمة المذكورة بإخلاص ومثابرة يعتبر معهما “جون كيري“، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، أن جهودًا كجهود الصندوق “تمثل العائق الوحيد أمام حل الدولتين في فلسطين”.

يحمل مجهود كينغ نزعة أيديولوجية في ظاهر الأمر، واستثمارية في باطنها، إن جاز التعبير، فلا يمانع أن يُضرب عصفوران بحجر واحد كما يُصرح في حديثه مع مراسلة التليغراف البريطانية آنا لازاريفا، في السابع من (نوفمبر/تشرين الثاني) لعام 2014 (3)، إلا أن التساؤل الذي طرحته آنا ضمنيًا في لقائها بكينغ عن السبب الذي من أجله قد يرغب شخص ما، أي شخص، في العيش بمدينة تعد من الأكثر اضطرابًا حول العالم، إضافة إلى ارتفاع أسعار الأراضي والمنازل بها حتى في أحيائها الأكثر فقرًا، هذا التساؤل لم تكن له إجابة محددة لدى الأخير سوى ما تلخصه كلمات المؤسسة التابعة له على موقعها الإلكتروني (4)، وفيها يعتبر الصندوق نفسه مسؤولًا عن “استكمال مخططات المؤسسين الأوائل للدولة العبرية” أو “رواد دولة إسرائيل” كما يسميهم، والتي تقضي في النهاية أن يكون لليهود دون سواهم وطن كامل على الأراضي الفلسطينية.

يعتبر اليهود، أو الصهاينة تحديدًا، العرب أناس غُرباء عن الأراضي الفلسطينية، ولابد من رحيلهم لإفساح المجال لوطن كامل لهم فيها. وربما تبدو الفكرة مستحيلة أول الأمر، إذ أن ترحيل شعب كامل أو إخفائه من الوجود إن جاز التعبير لا يبدو أمرًا هينًا، لكن الفكرة لم تكن مستحيلة بالنسبة لقادة الحركة الصهيونية في البدء، وقادة الكيان الحالي نهاية، والذين يُطالبون منذ اليوم الأول لإنشاء الكيان المحتل بإيجاد أوطان بديلة للفلسطينيين في أراض عربية أخرى كالأردن ولبنان وسوريا. وقد يبدو تنفيذ تلك الفكرة هي الأخرى مستحيلًا، إلا أن الواقع يقول غير ذلك، إذ أن قضية اللاجئين الفلسطينيين مثلًا، والتي ترفض إسرائيل إلى الآن الاعتراف بأنها كانت سببًا بها، يجعل الأمور تتجه من جديد لفكرة “الأوطان البديلة للفلسطينيين”، ويجعل إسرائيل تبدو “بريئة” أمام تاريخ طويل من إجبار الفلسطينيين على ترك أراضيهم بقائمة طويلة من الحروب والمجازر التي لم ينكرها حتى المؤرخين الإسرائيليين أنفسهم، وإن بررها البعض بأنها “السبيل الوحيد لنشأة الدولة اليهودية على أراضي فلسطين”.

لم يكن “كينغ” بدعًا من الإسرائيليين، فالرجل، الذي يجسد أسلوبًا صهيونيًا بارعًا وأساسًا من أساسات التخطيط الإسرائيلي، كفيل تمامًا بمفرده، وبدون نماذج أخرى، بالتدليل على أن مقولة “بيع الفلسطينيين لأراضيهم” تبقى مجرد علكة على الأرجح، وأسطورة لا أصل لها، إلا أن كل شيء، كعادة تل أبيب المنظمة، لا يبدأ من شخص كـ “كينغ”، وإنما يبدأ منذ أكثر من نصف قرن، وعلى يد مهندس عملية الاستيلاء الأصلي، شخص يدعى “يوسف فايتس”.

خطيئة القارة العجوز

طرحت الفكرة بالفعل منذ المؤتمر الأول عام 1897، ففي مدينة بازل السويسرية، حيث كان مقر الاجتماع الدوري لقادة الحركات الصهيونية والمؤسسين الأوائل لفكرة “الدولة الصهيونية”، ما عُرف بعد ذلك باسم “المؤتمر الصهيوني”(5)، في هذه المدينة وُضعت على الطاولة فكرة إنشاء صندوق لشراء الأراضي من الدولة العثمانية (6)، وجُمعت الأموال بالفعل من قادة الحركة ومن “المتبرعين المؤمنين بالفكرة” حول العالم.

توفى هيرمان شابيرا، صاحب فكرة إنشاء الصندوق، قبل أن يشهد إقرار المؤتمر الصهيوني الخامس عام 1901 بفكرته، باعتبارها الخطوة الأولى اللازمة لإنشاء “دولة إسرائيل”، وفيما بدأ العمل بها على الفور، يمكننا القول إن هذا الصندوق تحديدًا كان له دور شديد الفاعلية في إنهاء المعركة لصالح إسرائيل بعد ذلك بعقود، وسيكون معه اسم “يوسف فايتس” أو مدير “دائرة الاستيطان اليهودية” في فلسطين حاضرًا وبقوة، إلا أنه وحتى الوصول لهذه المرحلة من تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي عام 1948، فإن أمورًا كثيرة قد فعلها قادة الحركة الصهيونية لوضع أياديهم على الأراضي الفلسطينية، وكانت البداية بالهجرة.

لم يكن الداع للهجرة اليهودية لفلسطين أيديولوجيًا في مجمله، بل إن الأمر اشتمل في جانب كبير منه على هروب اليهود من الاضطرابات التي لاحقتهم في أوروبا، بداية من روسيا ما بعد 1881، وانتهاءً بألمانيا في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين. في ذلك الوقت كانت فلسطين تابعة للحكم العثماني، وكانت فكرة الهجرة اليهودية للأراضي الفلسطينية قد بدأت بالفعل تُشكل هواجسًا استشرافية لبعض المفكرين والقادة المحليين العرب والفلسطينيين، من أخذوا على عاتقهم محاولة إقناع الإمبراطورية العثمانية بتقييد، أو حظر، الاستيطان اليهودي بفلسطين.

انتهت تلك المحاولات مع تفكك الإمبراطورية العثمانية، وتقسيم ممتلكاتها وأراضيها بين دول الاستعمار، ومعها وقعت فلسطين تحت سلطة بريطانيا العظمى عام 1918، ما جعل الباب مفتوحًا على مصراعيه أمام “الهجرة اليهودية للأراضي المقدسة”. أما داخل فلسطين ذاتها، فقد مُنحت الحركة الصهيونية مساحة استغلتها كاملة لتنفيذ مخططاتها في شراء وتملك الأراضي الفلسطينية، وكذا توطين أنفسهم في الداخل الفلسطيني، من خلال محاولات دعم اقتصاد المجموعات اليهودية هناك.

يمكن القول بأن جهود صندوق الأراضي الإسرائيلي هناك وقتها لم تؤت ثمارها كما يجب، إذ أنه وبحلول الانتداب البريطاني، كانت الحركة الصهيونية لا تمتلك من أراضي فلسطين شيئًا يُذكر، ليس فقط لامتناع الفلسطينيين عن بيع أراضيهم لليهود، بل لأن اليهود المهاجرين فضلوا السكن في المدن الفلسطينية على الريف والمناطق الزراعية، والتي كانت مجتمعات شبه مغلقة على أصحابها من ناحية، ومن ناحية أخرى كانت تمثل حوالي 70% من الأراضي الفلسطينية المملوكة بشكل كامل للفلسطينيين أو العرب كما كان يُطلق عليهم حينها.

فشلت المحاولات الأولى للحركة الصهيونية إذن، إلا أنها كذلك كانت داعية لتغيير طريقة عمل الحركة في اتجاه يدعم وجوده سلطة الاستعمار البريطاني هذه المرة، فإذا كانت المحاولات السلمية للحصول على الأرض قد فشلت، لم يكن ثمة طريق سوى إعلان الحرب، وهي لم تكن حربًا بمفهومها المعروف أكثر من كونها عملية استيلاء كبرى مسلحة، وبدأت فصول هذه الاستعدادات بإنشاء “الهاغاناه” الصهيونية عام 1920، والتي مثلت حينها التنظيم شبه العسكري الأهم والمدافع عن المجموعات الصهيونية في فلسطين، أما الوجه الآخر لهذه الاستعدادات فاشتمل في مجمله على دراسة كل شبر من الأراضي الفلسطينية، بما يتضمن أسماء أصحاب الأراضي والعائلات، وأعداد العاملين والقرى، وأسماء المحاصيل الزراعية وتوزيعاتها وجودة الأراضي، وغيرها من معلومات جعلت الحركة الصهيونية على علم بكل كبيرة وصغيرة في الأراضي الفلسطينية، ما يمنحها يدًا طولى في أي صراع قادم، وهو ما حدث بالفعل فيما بعد.

أثناء التنازل الأوروبي، البريطاني رأسًا، للصهاينة عن الأراضي الفلسطينية، تجاهلت أوروبا والعالم من ورائها بشكل كامل “حق العرب الفلسطينيين في تقرير مصيرهم بداية، وفي الدفاع عن ممتلكاتهم ضد المستعمر كما ضد المخططات الصهيونية في بلادهم، وهو ما يكفله لهم القانون الدولي الذي تم تجاهله هو الآخر”، كما يرى جيرمي هامون، محلل الفورين بوليسي جورنال(7).

بالنسبة للعرب، لم يعن قرار تقسيم بريطانيا لفلسطين ومنح اليهود ما يفوق ال55% من الأراضي سوى الحرب دفاعًا عن الأرض والمقدسات، وهي حرب، على عكس الجانب العربي، كان قد استعد لها الصهاينة منذ عقود
 

كان إعلان بريطانيا تعاملها “بشكل متساو” مع العرب واليهود في فلسطين مطلع العشرينيات من القرن الماضي، ورغبتها في إقامة برلمان يجتمع فيه كلا الطرفين بشكل متماثل، كان هكذا إعلان سببًا في اشتعال غضب شعبي ضد بريطانيا، من لم تكتف باستعمارها الأراضي الفلسطينية وحسب، بل بجعل اليهود، الدخلاء على الأرض حينها كما يرى الفلسطينيون، ذوي حق متساو مع أهل البلد الأصليين وأصحاب الأغلبية الشعبية أيضًا فيها، إذ لم تتعد نسبة اليهود حينها الثلث من السكان، برغم ارتفاع معدلات الهجرة والتي كانت السبب الرئيس في تنامي أعداد اليهود بفلسطين، فيما كان الفلسطينيون يمثلون أغلبية النسبة الباقية.

اشتعلت الثورة الشعبية الفلسطينية الأولى عام 1929، اعتراضًا على “مبدأ التكافؤ” ذاك، وتراجعت بريطانيا قليلًا عن الأمر، وهو ما لم يستمر كثيرًا قبل أن تعود الدولة العظمى لأحضان ومطالب الحركة الصهيونية بتنفيذ وعد بلفور 1917، ما جعل من قيام ثورة فلسطينية ثانية عام 1936 أمرًا محتمًا، وهي ثورة شكلّت نقطة محورية في فرض الحركة الصهيونية نفوذها شبه الكامل على فلسطين؛ فقيام الثورة التي قمعتها الحكومة البريطانية بشكل قوي، إضافة لمقتل أو نفي أو هروب قادتها من الأراضي الفلسطينية حينها، قد جعل من غيابهم وسيلة لإفراد الساحة أمام الساسة الصهاينة لتعزيز مطالبهم دون منافسة تُذكر. وعلى الجانب الآخر فقد كانت الفرصة سانحة، مع غياب رجال القرى الريفية وقادتها المحليين في السجون والمنافي، للحركة الصهيونية لتفعيل عملية دراسة الأراضي الفلسطينية السابق ذكرها، ومعها وضع الاحتمالات المختلفة للصراع، وكيفية احتواءه أو الإجهاز عليه، ليبرز هنا اسم “يوسف فايتس”.

تولى فايتس مسؤولية عملية دراسة الأراضي الفلسطينية مع بعض من معاونيه، وأطلق عليها “ملفات القرى”، وقام فيها بدراسة موسعة وتفصيلية لكافة أراضي فلسطين، ولكل ما يتعلق بها من كبيرة وصغيرة كما سبق القول، وفيما تمت هذه العملية على أربعة مراحل، بدأت من عام 1940، مرورًا بعامي 1943 و 1945 وانتهاءً بعام الحسم الصهيوني 1947، كان هذا العام الأخير بداية النهاية بالنسبة للصراع الداخلي بين اليهود والعرب، فقد كانت بريطانيا المنتهية من الحرب العالمية الثانية آبية الدخول في صراع جديد بين العرب واليهود بفلسطين، وألقت حينها ملف القضية الفلسطينية كاملًا للأمم المتحدة، التي لم يكن مر على نشأتها سوى عامين فقط، وهو ما انعكس أثره على القضية الفلسطينية، جنبًا إلى جنب مع توصيات بريطانيا المؤيدة لإقامة وطن لليهود في فلسطين من خلال تقسيم الأراضي الفلسطينية بين “طرفي النزاع” كما أسمتهما.

لم تختلف توصيات بريطانيا عن توصيات اللجنة التي شكلتها الأمم المتحدة تحت اسم “يونسكوب” أو (UNSCOP)، والتي دعت ليس فقط لتقسيم فلسطين، بل لمنح اليهود نسبة 55.5% من الأرض مقابل 45.5% للعرب أو الفلسطينيين، وهو ما لم يعن سوى انتصار الحركة الصهيونية بشكل جزئي، إذ أنها في ذلك الوقت كانت تطالب بـ 80% من الأراضي الفلسطينية، أما بالنسبة للعرب، فلم يعن ذلك سوى الحرب دفاعًا عن الأرض والمقدسات، وهي حرب، على عكس الجانب العربي، كان قد استعد لها الصهاينة منذ عقود. وهو الأمر الذي كان قد أوصى به بن غوريون ابنه في رسالة عام 1937:

“العرب يجب أن يرحلوا، لكن الأمر يحتاج إلى خطة مناسبة لجعل الأمر يحدث، كأن تنشب حرب مثلًا”

أسطورة البيع.. الميلاد

لم تثمر المجهودات الجبارة التي بذلها الصندوق الصهيوني لشراء الأراضي الفلسطينية، ومحاولاته ترهيب الفلسطينيين للجلاء عن أراضيهم أو عرض المال الكافي لخروجهم منها، عن نتيجة تذكر مقابلها، وخذلهم الفلسطينيون بشكل كامل، إذ أنه وبنهاية الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1947، لم تكن الحركة الصهيونية تمتلك سوى أقل من 6% من الأراضي الفلسطينية، فيما كانت بقية الأراضي لا تزال ملكًا للفلسطينيين، ولم يكن الصهاينة يمثلون حينها سوى 33% فقط من نسبة السكان، أو 608 ألف صهيوني تقريبًا، مقابل 65% من العرب، أو حوالي مليون و203 ألف من الفلسطينيين

كانت الأغلبية الساحقة في عدد السكان وفي ملكية الأرض للفلسطينيين إذن، وهو ما كان ينفي الادعاء الدولي بأحقية الصهاينة في نصف الأرض. إلا أنه وحتى قرار الأمم المتحدة ذاته لم يكن كافيًا للوصول بالأزمة لحرب 48، لكن ما حدث تاليًا للقرار كان الأهم، وهو ما يمكن اختصاره بوصف المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس نفسه للأمر، إذ يرى أن المعضلة النسبية للحركة الصهيونية حينها كانت هي الكيفية التي يمكن بها أن تُحول فلسطين لدولة يهودية، وفي هذا تتمثل الأزمة لكون اليهود بالفعل هم الأقلية مقابل أغلبية عربية تزيد عنهم بأربعين ضعفًا حينها، فكيف يمكن إذن نقل هذه الأعداد الضخمة من العرب إلى مناطق بعينها داخل فلسطين أو خارجها ليسهل عندها القول أن لليهود السيطرة على غالبية الأرض؟ بل الأهم من هذا هو كيف يمكن تنفيذ العملية بطريقة يسهل معها القول إن العرب قد خرجوا بإرادتهم من الأراضي الفلسطينية، دون أن يُبدد خروجهم المشروع الصهيوني كاملًا بالقول إن الصهاينة قد أجبروهم على الخروج؟

برز الحل بشكل مباشر وتمثل في نزوح العرب، أو نقلهم، طوعًا أو بالقوة، مع توفير الأسباب الداعية لذلك، وتمثلت هذه الأسباب حينها في هجمات المقاومة الفلسطينية على المواقع اليهودية بعد إعلان الأمم المتحدة تقسيم فلسطين، وبدأت معها المعارك الداخلية التي أفضت بالنهاية لحرب 48 الفاصلة في قضية الأرض واللاجئين الفلسطينيين.

كانت المقاومة الفلسطينية تفتقد قادتها كما الأسلحة والدعم اللازمين للاستمرار، في المقابل كانت العصابات اليهودية تستعد بالفعل لذلك اليوم منذ أكثر من ثلاثة عقود، بدراسة الأرض وكذا بالسلاح والتدريبات العسكرية التي تولى مسؤوليتها ضباط في الجيش البريطاني نفسه، وكان على رأسهم الضابط البريطاني الهندي الأصل “أورد تشارلز وينغينت”، والذي تولى مسؤولية تدريب عناصر الهاغاناه للقتال. وفيما كانت المهمة الأساسية للعصابات الصهيونية هي إجبار أكبر عدد من الفلسطينيين على ترك أراضيهم ومنازلهم إما بإرادتهم أو دونها في غالب الحالات، لم يكن تنفيذ الأمر بالعسير، خاصة بمعرفة أنه لم يكن يلزم العصابات الصهيونية سوى دخول قرية ما، وإطلاق النار بشكل عشوائي على أهلها، ثم فصل الرجال عن النساء وقتلهم، فيما يتم اغتصاب النساء وقتلهم أو ترحيلهم مع الأطفال إلى الأردن أو لبنان أو معسكرات الاعتقال الداخلية، وهي عملية تمت، باختلاف تفاصيلها، في غالبية الأراضي الفلسطينية حينها، كما ستسجلها الوثائق الإسرائيلية نفسها، والتي سيُكشف عنها بعد ذلك بعدة عقود.

كانت المحصلة النهائية للمعارك الدائرة في فلسطين، ومرورًا بحرب 48 نفسها، هي نزوح حوالي 700 ألف لاجيء فلسطيني، حصل الصهاينة على أراضيهم وممتلكاتهم، أما السبب الذي استدعته إسرائيل في كل مناسبة بعد ذلك، والذي من خلاله تنفي كونها المسؤولة عن أزمة اللاجئين التي وصلت للآن لحوالي ثمانية ملايين لاجئ فلسطيني(8)، فكان هو أن القادة العرب وقادة المقاومة أنفسهم “هم المسؤولون عن خروج الفلسطينيين”، وهو ما حدث بالفعل في بعض المناطق الفلسطينية، ولكنه حدث نتيجة المجازر التي رأى معها قادة المقاومة حتمية انسحاب النساء والأطفال، خاصة مع انتظارهم لدخول ما عُرف بـ “جيش الإنقاذ العربي” حينها لفلسطين من أجل محاربة وطرد الصهاينة، ما يجعل حياة أهالي القرى في خطر دائم خلال حرب غير معلومة النهاية، وكذا للثقة المفرطة حينها بأن العودة إلى هذه الأراضي لن تطول بعد نهاية الحرب وانتصار جيش الإنقاذ.

مسرح ألعاب القضية

“أنا أؤيد الترحيل القسري، ولا أرى فيه شيئًا غير أخلاقي”

 (بن غوريون مخاطبا اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية – يونيو 1938)

كما بن غوريون، لا يبدو متناقضًا للمؤرخ الإسرائيلي بيني موريس اعترافه، ليس فقط بالمجازر الصهيونية المرتكبة خلال حرب 48 تحديدًا ضد الفلسطينيين، بل كذلك بالسعي الممنهج لقادة الحركة الصهيونية لإفراغ الأراضي الفلسطينية من سكانها، إما بإجلائهم قسرًا أو ترهيبهم للرحيل أو قتلهم خلال الحرب، لا يتناقض هذا بالنسبة إليه مع إيمانه بأن “اليهود قد فعلوا ما فعلوا لأجل حق مشروع لإقامة دولتهم في فلسطين”، مصرحًا بذلك بسلام نفسي أثار “آري شفيط” خلال المقابلة التي أجراها معه عام 2004 لمؤسسة الدراسات الفلسطينية (9).

كانت الميزة التي رفعت قدم موريس كمؤرخ إسرائيلي على من سواه، لدى العرب تحديدًا، هي ذلك المشروع الذي خرج للنور عام 2004 في صورة النسخة الثانية من كتابه “مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين” (10)، والذي أسس فيه موريس لمجازر الصهاينة خلال حرب 48، وللكيفية التي أسهمت بها الحركة الصهيونية في خلق مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وفي استيلائها على الأراضي الفلسطينية، بل وفي محاولات سعي الحركة لجعل هذه المشكلة عربية بامتياز، من خلال إعادة توطين اليهود في أراضي سورية والأردن ولبنان، ومن خلال محاولة ترويج تخلي الفلسطينيين عن أراضيهم طواعية أو مقابل المال، وفي هذا قد استعان موريس بالوثائق والتسجيلات الإسرائيلية للحرب، والتي كانت سرية في تلك الفترة حتى عن بعض قادة الحركة الصهيونية من “الهاجاناه” أنفسهم.

رأى موريس المجازر وعملية الاستيلاء التاريخية “ضرورة لإقامة دولة لها شرعية”، بينما رآها المؤرخ الإسرائيلي أيضًا إيلان بابيه في كتابه “التطهير العرقي في فلسطين” (11)، وكما يشرح اسم الكتاب نفسه، “جريمة تطهير عرقي تستحق الوقوف أمامها والاعتراف بكونها جريمة ضد الإنسانية”، وهو في هذا يعتقد أن كلا الطرفين العربي والإسرائيلي قد أسهما في تجاهل العالم كاملًا للجرائم التي اُرتكبت في فلسطين منذ اشتعال الصراع العربي-الإسرائيلي بداية، وليس انتهاءً بحرب 48. فالجانب العربي قد تجاهل كونها “جريمة تطهير عرقي” باعترافه أنها مجرد “نكبة” أو هزيمة نالها العرب أمام الصهاينة حينها، وبرضائهم فيما بعد عن التفاوض مع إسرائيل في صراعات عدة، وكان لابد من تناسي الحق الأصيل للفلسطينيين في أراضيهم مقابل حقوق أخرى لدول عربية كالأردن والعراق ومصر، أما الجانب الإسرائيلي، فهو يدعي للآن “انسحاب الفلسطينيين بإرادتهم من أراضيهم”، ويتخذ من عدم مطالبتهم بها فيما بعد، سببًا لوضع يده على الممتلكات والأرض التي ليس لها من مُطالب بالحق فيها، حد قول إيلان.

يُطالب الفلسطينيون بحق العودة، ويحتفظ كل منهم بمفتاح منزل يورثه الأجداد للأبناء فالأحفاد، ويدرون أنه الشيء الوحيد المتبقي من أرض ومنزل ربما لم يعد لهما وجود الآن، على الأقل كما تركوها منذ عقود تحت وطأة الحرب والقتل العشوائي وخذلان القادة، ويطالب الإسرائيليون على الجانب الآخر بالحق في وطن كامل بفلسطين، باعتبار أنها الأرض الموعودة والمملوكة لليهود بشهادة التوراة كما يؤمنون، أو يعتقد قادة الحركة الصهيونية بالأخص، وهم في هذا يرون ويصرح قادتهم في كل مناسبة أنه لم يعد من سبيل لخروجهم من فلسطين، بينما يبدو أنه من الأيسر نقل الفلسطينيين لدول أخرى، كما يرى القائد الأول للدولة الصهيونية “بن غورويون”، قائلًا إنه “من الواضح أن ترحيل العرب “الفلسطينيين” سيحسن أوضاعهم، وليس العكس، وهو أسهل بكثير من ترحيل أي شعب آخر”.

في كل هذا، فإن أي من القادة الصهاينة سابقًا أو الآن، أو حتى الغرب عامة، لا  يصرّحون بأن أسباب أو حتى جزء من أسباب قضية اللاجئين الفلسطينيين، بما تضمنته منذ بدايتها من خروج الفلسطينيين من أراضيهم إبان حرب 48 وللآن، يعود لأسطورة بيع الفلسطينيين أراضيهم لليهود، ليس فقط لعدم امتلاك أيهم دليلًا قطعيًا على تملّك اليهود للأراضي الفلسطينية، أو على الأقل للأغلبية العظمى فيها، والذي كان ليُشكل فارقًا دوليًا في دعم قضيتهم، بل أيضًا لأن ولوج هكذا باب يفتح الباب على مصراعيه لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية لا يزال العالم يُصر على تجاهلها للآن، وكان قد ارتكبها الصهاينة في معاركهم مع العرب والفلسطينيين منذ نشأة الصراع، وحتى هذه اللحظة.

هند عبدالحميد

الجزيرة