هل تنبع المساعدات الخارجية الأميركية من الإيثار أم أنها خادمة للذات؟ بدا أن خطاب ترامب قبل التصويت يعيد فتح هذا النقاش، لكن الناتج المباشر الذي أعقبه يشير إلى جواب براغماتي.
* * *
واشنطن- عندما هدد الرئيس ترامب في الأسبوع الماضي بقطع المساعدات عن أي بلد يصوت ضد الولايات المتحدة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، استحضر ذلك التهديد حالات حنق شعبية مكرّسة حول ما يفهمه بعض الأميركيين -بمن فيهم السيد ترامب- بأنه عالم يستغل الولايات المتحدة.
وكان الرئيس ترامب قد قال في آخر اجتماع لحكومته لهذا العام: “كل هذه الدول التي تأخذ أموالنا ثم تصوت ضدنا (في الأمم المتحدة) تأخذ منا مئات الملايين من الدولارات ومليارات الدولارات ثم تصوت ضدنا. دعوهم يصوتون ضدنا وسوف ندخر الكثير. إننا لا نهتم”.
وكان الرئيس يفتش بذلك عن الشريان الضيق، وإنما العميق أيضاً، من الاستياء الشعبي في بلده من متلقي المساعدات الأميركية الخارجية، وأضاف: “لقد تعب شعب الولايات المتحدة -الشعب الذي يعيش هنا، مواطنونا العظيمون الذين يحبون هذا البلد- لقد تعبوا وهم يرون هذا البلد وهو يتعرض للاستغلال. لن نسمح بأن يتم استغلالنا أبداً”.
وقد أثارت تكتيكات ترامب العدوانية مرة أخرى نقاشاً بعمر عقود حول الهدف من مليارات الدولارات التي تذهب كل عام في شكل مساعدات عسكرية ومساعدات خارجية تقدمها الولايات المتحدة للعشرات من البلدان حول العالم.
هل يأتي ذلك من باب الإيثار، أم أنه أداة من أدوات الاستراتيجية الأمنية القومية لقوة عالمية؟ وكم يجب على الولايات المتحدة أن تتوقع التعويض من كل متلقٍ للمساعدات، وما نوع ذلك التعويض؟ وهل يجب على الولايات المتحدة معاقبة أولئك الذين يعارضونها أحياناً على المسرح العالمي، أم أن عليها أن تتبنى النظرة الأوسع إلى المساعدات الخارجية بوصفها فوق كل المنافع؟
سوف تكون لدى ترامب الفرصة لإظهار أين سنتقد ويعاقب بشدة بعد التصويت بأغلبية كاسحة في الجمعية العامة يوم الخميس قبل الماضي، والذي أدان بشكل ضمني قراره في وقت سابق من هذا الشهر الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
وبينما يبدو أن الرئيس يضرب حتى الآن كرته الصلبة إلى مكان قريب من القاعدة، فإن ثمة علامات موجودة أصلاً، والتي تشير إلى أن الجناح البراغماتي في إدارته سوف يخرج برد فعل على التصويت في الجمعية العامة، والذي يتسم بقدر أكبر من ضبط النفس.
في تصويت غير متوازن على مشروع قرار قام بصياغته كل من اليمن وحليفة الناتو، تركيا، صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تضم 193 بلداً عضواً بأغلبية 128 صوتاً لصالح القرار، بينما عارضته 9 بلدان وامتنع 35 بلداً عن التصويت.
وقد صوتت كل البلدان التي تتلقى مساعدات عسكرية ومساعدات تنموية أميركية تقريباً لصالح القرار، باستثناء المتلقية الأكبر للمساعدات الأميركية، إسرائيل. وصوت معظم حلفاء أميركا الرئيسيون، بما فيهم بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان، لصالح القرار، لكن أستراليا وكندا امتنعتا عن التصويت- كما امتنعت كولومبيا التي تتلقى بعض المساعدات العسكرية الأميركية عن التصويت أيضاً.
القرار -الذي عكس نصاً كانت قد وضعته مصر، لكنه سقط أمام استخدام الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) في تصويت نال أغلبية 14 صوتاً في مقابل صوت واحد في مجلس الأمن- لا يذكر الولايات المتحدة بالاسم، لكنه يطالب بوجوب “إلغاء أي قرارات وأي أفعال من شأنها أن تبدل شخصية ومنزلة والتكوين السكاني لمدينة القدس المقدسة، واعتبار أن تلك القرارات والأعمال لا تنطوي على أي أثر قانوني”. ويطالب القرار أيضاً “كل البلدان بالتقيد بقرارات مجلس الأمن الدولي فيما يتعلق بالقدس، وبعدم الاعتراف بأي أعمال أو إجراءات تتناقض مع تلك القرارات”.
وكان قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل -وأيضاً الشروع في عملية نقل السفارة الأميركية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس- قد نقض عقوداً من السياسة الأميركية في ظل الإدارتين، الجمهورية والديمقراطية، على حد سواء، والتي كانت قد دعت إلى ترك القدس كمسألة يتم البت فيها في مفاوضات الوضع النهائي، كجزء من اتفاق سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ولطالما كانت الولايات المتحدة قد دعمت قرارات مجلس الأمن الدولي التي تعتبر القدس موضوعاً ينبغي البت فيه في مفاوضات الوضع النهائي.
“قُل الأمور كما هي”
ترك التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة الولايات المتحدة معزولة. لكن ذلك لا يشكل موقفاً غير اعتيادي تكون فيه الولايات المتحدة، كما يقول العديد من خبراء العلاقات الدولية. ويضيف البعض أن الأمر المختلف هذه المرة، هو فظاظة خطاب ترامب وظهوره مبتهجاً تقريباً ليزدري ويهدد المجتمع الدولي المسؤولية.
يقول دورون بن أتار، أستاذ التاريخ الأميركي في جامعة فوردهام في نيويورك: “بالكاد يكون هذا التصويت في الأمم المتحدة غير اعتيادي، فقد كانت الولايات المتحدة قد تعرضت للعزلة هناك في السابق، خاصة عندما تعلق الأمر بإسرائيل، وفيما يتعلق بتلك المسألة، فإن قطع المساعدات ليس بالأمر الجديد أيضاً- كان رونالد ريغان قد تولى الرئاسة في العام 1981، وكانت لديه الفكرة نفسها عن أن الولايات المتحدة تقدم المساعدات، فقط ليدير أولئك الذين يتلقونها ظهورهم لنا ويهينوننا”.
ويضيف الدكتور بن أتار أن ما هو جديد هو التهور والاستعجال في خطاب ترامب -ما يقوله البعض حول طريقة “قُل الأمور كما هي”- والتي يقول إنها تغذي وجهة نظر عالمية تقول إن “ترامب ليس رئيساً شرعياً” ويصعد من حدة مواجهة ترامب مع المجتمع الدولي”.
ويقول بن أتار أيضاً: “إن الحنق الأميركي من الأمم المتحدة وكل وكالاتها الدولية هو شأن طويل الأمد ومن كلا الحزبين، ويتم التعبير الخطابي عن ذلك في إطار الحدود النظامية للخطاب الأميركي”. ويضيف: “لكن ما هو غير اعتيادي هنا هي الطريقة الخشنة التي يتصرف بها ترامب، هذا الحديث عن ’تدوين الأسماء‘ و’الرد على‘ أي أحد يعارض الولايات المتحدة في التصويت.” وخلص إلى القول: “ما من بلد يحب أن يتم النظر إليه على أنه ينحني أمام ذلك الخطاب”.
وكانت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، نيكي هالي، قد قالت أنها ستقوم بتدوين الأسماء، وأنها ستقدم تقريراً إلى الرئيس يتضمن قائمة بالبلدان التي عارضت الولايات المتحدة.
كما واصلت هذه النغمة عندما خاطبت الجمعية العامة قبل التصويت يوم الخميس قبل الماضي، فقالت “إن الولايات المتحدة ستتذكر هذا اليوم الذي تم إفرادها فيه للهجوم عليها في الجمعية العامة… لأننا مارسنا حقنا كدولة ذات سيادة”.
وي تأكيدها على أن التصويت سوف يحدث فارقاً في نظرة الأميركيين إلى الأمم المتحدة، قالت السفيرة هايلي: “سوف نتذكر هذا عندما ندعى مرة ثانية إلى تقديم أكبر إسهام في العالم للأمم المتحدة، وسوف نتذكره عندما تأتي العديد من البلدان وتدعونا، كما تفعل دائماً، إلى دفع المزيد ولاستخدام نفوذنا من أجل فائدتها”.
المجد للحديث الخشن
في الأثناء، تعرضت نبرة التهديد التي استخدمتها إدارة ترامب للمجموعة الدولية إلى انتقادات كثيرة من دبلوماسيين سابقين وخبراء في العلاقات دولية، والذين قالوا إن تصرف الولايات المتحدة أدى إلى عزلها عن العالم في وقت تمس حاجتها فيه إلى مزيد من الشركاء لمواجهة كوريا الشمالية وإيران وغيرهما من أعدائها.
لكن هذا الحديث الخشن نال المباركة والتمجيد من جانب آخرين ممن انتعشوا وهم يستمعون إلى أصداء عبارة “السيادة فوق كل اعتبار” لجناح فريق الأمن القومي للرئيس في الإعلان -والذين لطالما دافعوا عن فكرة خفض المساعدات الخارجية.
ويقول فرانك غافني، رئيس مركز السياسة الأمنية في واشنطن والقائم السابق بأعمال مساعد وزير الدفاع الأميركي لسياسة الأمن الدولي إبان إدارة الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان: “لقد أشار الرئيس ترامب، محقاً، إلى أنها ستكون هناك كلفٌ لاختيار أن يكون المرء ضدنا، بدل أن يكون معنا”.
ويقول السيد غافني إنه يجب على الولايات المتحدة البدء بخفض إسهامها السنوي في الأمم المتحدة، التي يصفها بأنها “حظيرة لعب للمستبدين والطغاة والإرهابيين. ويضيف إنه يجب على الولايات المتحدة بعد ذلك قطع المساعدات التي تقدمها للسلطة الفلسطينية.
ولكن، بعد هذه الهدفين، ربما يصبح قطع المساعدات عن “أولئك الذين يصوتون ضدنا” شأناً إشكالياً بازدياد.
ملاحظة عن السياسة الواقعية
تعد كل من مصر والأردن وأفغانستان من المتلقين الرئيسيين للمساعدات الأميركية، وقد صوتت كلها لصالح القرار الذي يدين الولايات المتحدة، لكن العديد من خبراء الأمن القومي يقولون إن قطع المساعدات عن هذه البلدان بسبب التصويت سوف يكون حالة كلاسيكية من “بتر أنفك نكاية في وجهك”.
ويقول فوردهام بن أتار: “إننا لا ندعم الحكومة المصرية لأننا نحبهم أو لأنهم جيدون، إننا ندعمهم في جزء منه للوفاء بالتزام التزمنا به بعدما توصلوا إلى السلام مع إسرائيل. لكننا نفعل ذلك غالباً لأن مصر بلد حساس في منطقة لها تأثيرات ضخمة على أمننا القومي”. ويقول أيضاً: “نحن نعرف أن الوضع سيكون كارثياً إذا تحولت مصر إلى دولة فاشلة”.
وبالمثل، فإن الأردن الذي لطالما كان دائماً حليفاً قوياً للولايات المتحدة ضد “داعش” لن يعاني وحده ومن دون تداعيات إقليمية أوسع نطاقاً إذا سحبت الولايات المتحدة القابس عن المساعدات التي تقدمها له لأنه صوت لصالح قرار الأمم المتحدة.
وفي الحقيقة، ومع حلول بعد ظهر يوم الخميس قبل الماضي، كانت الولايات المتحدة قد انتقلت أصلاً من التهديد إلى “تدوين الأسماء” ومعاقبة أولئك الذين صوتوا ضد الولايات المتحدة وإلى استخدام المزيد من اللغة والدبلوماسية المزعجة.
في وزارة الخارجية الأميركية، قالت الناطقة بلسانها، هيذر ناويرت، إن فريق السياسة الخارجية في الإدارة قد “أعطي الصلاحية لتفحص مختلف الخيارات للمضي قدماً بها مع الدول الأخرى”.
لكنها عرضت بعد ذلك ملاحظة عن الواقعية السياسية، فأضافت: “ليس تصويت الأمم المتحدة في الحقيقة هو العامل الوحيد الذي ستأخذه الإدارة في الاعتبار لدى التعامل مع علاقاتنا الخارجية”.
هوارد لافرانشي
صحيفة الغد