تكشف هذه المظاهرات عن حالة الاهتراء التي يسعى النظام السياسي الإيراني إلى إخفائها داخل خطاب شعبوي يتباهى بقوة البلاد ومنعتها. وتسلط هذه المظاهرات المجهر على حالة الغليان التي تتنامى داخل الشرائح الاجتماعية في إيران، ليس فقط بسبب الحالة الاقتصادية للبلاد، وهي حالة ليست أسوء من بلدان كثيرة في العالم، بل بسبب حالة القهر التي يعيشها الإيرانيون بمختلف قومياتهم جراء الاضطهاد الذي تمارسه السلطات بحق أي أصوات معارضة أو إصلاحية أو منتقدة لخيارات طهران السياسية في العالم.
وضع المتظاهرون الرئيس حسن روحاني والمرشد الأعلى علي خامنئي في سلة واحدة بما يسقط هذا الخط الافتراضي الذي كان يرسم بين تيار المحافظين وتيار الإصلاحيين
وينقل عن مصادر مطلعة في طهران أن قلقا ينتاب دوائر القرار في العاصمة الإيرانية بسبب طبيعة المظاهرات العفوية التي اندلعت في هذه المناطق والتي من الممكن أن تتمدد صوب مناطق أوسع في البلاد.
وأضافت المصادر أن المظاهرات في هذه المنطقة لم تكن متوقعة من قبل الأجهزة الأمنية، وأن جهل تلك الأجهزة بهذا الحراك يعني أن هناك قوة كامنة داخل المجتمع الإيراني قابلة للانفجار لم يتم رصدها من قبل الأجهزة الرسمية السياسية والأمنية في البلاد.
ويلفت بعض خبراء الشؤون الإيرانية إلى أن التحركات الشعبية التي ترفع شعارات مطلبية تركز على شؤون العمل والأجور ومكافحة البطالة وإيجاد الوظائف، قد تخفي وراءها الآن أو لاحقا حوافز أعمق تتعلق بحراك الأقليات داخل البلاد، كما التبرم من نظام ولاية الفقيه الذي يصادر ثقافة البلاد الحقيقية وموقعها التاريخي والحضاري في العالم.
مواجهة الحرس والمرشد
يرى هؤلاء أن طهران ليست قلقة من رفع المتظاهرين للمطالب المعيشية التي يتحرك الناس من أجلها في بلدان العالم، لكن خشيتها تأتي من إدراكها الكامل لحجم الامتعاض الداخلي المتعلق بهيمنة الحرس الثوري الإيراني على مصير البلد بجانبيه الاقتصادي والسياسي وخضوع الحكومة الإيرانية لأجندة الحرس وقرار الولي الفقيه المرشد علي خامنئي.
وتعتبر مصادر دبلوماسية غربية في طهران أن هتافات المتظاهرين كانت معبرة عن حقيقة المأزق الذي تمر به البلاد. فقد وضع المتظاهرون رئيس الجمهورية حسن روحاني والمرشد علي خامنئي في سلة واحدة بما يسقط هذا الخط الافتراضي الذي كان يرسم بين تيار المحافظين وتيار الإصلاحيين.
هتف المتظاهرون “الموت لروحاني الموت لخامنئي”، بما ينزع عن روحاني على الأقل قناعة المعتدل والذي سقط قبل ذلك حين بدت تصريحاته ضد السعودية والولايات المتحدة وفرنسا ودول أخرى أكثر تطرفا من تلك الصادرة عن جنرالات الحرس الثوري.
ويشدد مرجع إيراني معارض على أن التظاهرات أتت لتدعم ما تسرب من قبل دوائر سياسية إصلاحية في إيران من أن روحاني ليس معتدلا وليس إصلاحيا وهو ينفذ أجندة القوى النافذة في الحكم بقيادة المرشد.
ويرى هذا المصدر أن ذلك يعني أن الناس، وعلى عكس المظاهرات التي خرجت عام 2009 ضد إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد انتصارا لمرشحي التيار الإصلاحي، تخرج هذه المرة ضد النظام السياسي الإيراني برمته لا فرق في ذلك بين تيار وآخر.
عشية الانتخابات الرئاسية تبادل المرشحون الحجج التي تفصح عن حجم الكارثة. فبعد 38 عاما على قيام الجمهورية الإسلامية في إيران تحدث المرشح المحافظ محمد قاليباف عن أن 11 مليونا من الإيرانيين يعيشون في بيوت الصفيح، فتصدى له المرشح المحافظ الآخر إبراهيم رئيسي ليصحّح الرقم ويؤكد أنه 16 مليونا. أما الأرقام فتتحدث حاليا عن أن 25 بالمئة من الإيرانيين يعيشون تحت خط الفقر.
وينقل عن خبراء في الشؤون الاقتصادية أن إيران دولة غنية بمواردها، فهي ثاني دولة منتجة للنفط بعد السعودية وثاني منتج للغاز الطبيعي في العالم بعد روسيا وتملك شبكة واسعة من العلاقات الاقتصادية في العالم وأن توسعها العسكري لا سيما في مجال التسلح والصناعات العسكرية أكبر دليل على توفر الموارد المالية على الرغم من ترويج طهران لمعاناة البلاد من العقوبات الدولية.
وأضاف هؤلاء أن العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة والمجتمع الدولي تطال بالأساس القطاعين العسكري والأمني ولا تطال ما يمكن أن يؤثر على المستوى المعيشي العام، إلا أن سلطات طهران تلجأ إلى التذرع بتلك العقوبات في محاولة منها لإقناع الإيرانيين بأن سبب مشاكلهم يعود إلى ضغوط يمارسها أعداء البلاد.
وأحرق المتظاهرون سيارات الشرطة واصطدموا مع قوات الباسيج وأحرقوا صور المرشد الحالي كما صور قائد الثورة الإيرانية روح الله الخميني. وهتفوا بسقوط الدكتاتور بما يعني أن المتظاهرين يعتبرون أنهم يعيشون داخل دكتاتورية، أي نفس المسوغ الذي قاد الشعب الإيراني يوما إلى إسقاط دكتاتورية شاه إيران.
والظاهر أن ترداد تعبير “فليسقط الدكتاتور” هو ما أرعب منابر الحكم في إيران لما لهذا الشعار من تفريغ كامل لشرعية الحكم الحالي في البلاد وعقيدة ولاية الفقيه التي تستند على مبدأ العدل، فكيف يتسق عدل مع دكتاتور؟
ورم مزمن
يلاحظ بعض المختصين في الشأن الإيراني أنهم رصدوا من خلال هذه المظاهرات نفس عوامل الثورة على الشاه، أي انتقال تأثيرات القرية إلى المدينة وبالتالي ترييف المدن من خلال زحف، يعبر عن خلل في التنمية العامة، نحو مراكز المال والعمل في المدينة.
ويرى هؤلاء أن الفقر ليس هو المشكلة، فهو منتشر في العالم، إلا أن انفجار الوضع متعلق بإحساس الفقير بأنه مضطهد.
ويقول مصدر إيراني مطلع إن شعارات المتظاهرين تشبه تلك التي رفعت أثناء “الحركة الخضراء” عام 2009 وتفصح عن وعي كامل بطبيعة الورم الذي تعاني منه البلاد.
وردد المتظاهرون شعارات تطالب بأن تكون “إيران أولا” لا غزة لا سوريا ولا اليمن ولا لبنان. ويضيف هذا المصدر أن هذه الشعارات ليست مطلبية بل سياسية تنتقد سياسة النظام وتحملها مسؤولية العزلة الإقليمية والدولية التي تبعد إيران والإيرانيين عن التفاعل الطبيعي مع العالم.
طهران ليست قلقة من رفع المتظاهرين للمطالب المعيشية لكن خشيتها تأتي من إدراكها لحجم الامتعاض الداخلي المتعلق بهيمنة الحرس الثوري والمرشد الأعلى
ويرى المصدر أن المجتمع الإيراني يعلم أن عشرات المليارات من الدولارات تنفق على الميليشيات التابعة للحرس الثوري في الخارج، وأن المجتمع الإيراني غير معني بدعم حزب الله في لبنان أو ميليشيات الحوثي في اليمن. كما أنه غير معني بالدفاع عن نظام دكتاتوري دموي في سوريا، وهو وصف سبق لروحاني وللرئيس الإيراني الراحل علي أكبر هاشمي رفسنجاني الاقتراب منه في انتقادهم لانخراط بلادهم في الحرب السورية.
وتكشف مراجع حقوقية إيرانية في الخارج عن أن سياسة الإنفاق في الخارج باتت شرطا من شروط تشكل شبكة الفساد التي تنخر موارد البلاد.
وتضيف المصادر أن مسألة الفساد باتت علنية يجري السجال حولها لدى وسائل الإعلام، وأن تورط الطبقة السياسية برمتها في قضايا الفساد هو ما يدفع المتظاهرين إلى الهجوم على كافة أجنحة السلطة، وكأن هذا السلوك يوحي بالحاجة إلى بديل آخر قد يتطور ليصبح بديلا عن نظام الجمهورية الإسلامية برمته.
ويرى مراقبون لشؤون المنطقة أن التحولات الإيرانية باتت ضرورية لحل ملفات عديدة في المنطقة، وأنه رغم المقاومة التي تقوم بها عواصم المنطقة ضد التدخل الإيراني في شؤون المنطقة، إلا أن تغييرا داخليا قد يعيد تشكيل المنطقة برمتها على نحو ينهي احترابها الداخلي ويعيد لها حدا من الانسجام الضروري لفرض الاستقرار والتنمية في كافة بلدان الشرق الأوسط.
ويضيف هؤلاء أن سلطات طهران قد تعمد عبر القمع أو اتخاذ تدابير استرضائية إلى امتصاص هذه المظاهرات، إلا أن تلك السلطات لن يمكنها وقف عجلة التاريخ، خصوصا أن مظاهرات اليومين الأخيرين تضاف إلى حراك إيراني عام لم يتوقف منذ عام 2009 وهو ما يمثل إشكالا متناميا قد يتحول إلى مفترق تاريخي جديد في حياة الإيرانيين.
صحيفة العرب اللندنية