ثانياً، الفاعل الذي استفاد بشكل أكبر من هذا الاهتلاك لبنية الجسم العربي، دوله ومجتمعاته المدنية، هو إيران الخامنئية التي اجتمعت لديها عوامل أساسية، لتدفعها نحو تجاوز حدودها، وتأكيد سيطرتها وسلطتها من خلال تحقيق مكاسب خارج أراضيها. الأول أنها بقيت منذ “الثورة الخمينية” لعام 1979، محاصرة من الدول الغربية، وتحت الضغط. ولديها مصلحة قوية في كسر الحصار، ولو من خلال تدمير الدول المحيطة بها التي كانت شريكةً في هذا الحصار، بشكل واع أو غير واع، وتدمير أكثر للدول التي أرادت الاستقلال بنفسها عنها، مثل سورية.
والعامل الثاني، حصولها على نافذة فرص استثنائية بسقوط العراق البعثي أمام تحالف الدول العربية والغرب، وتحطيم الدولة العراقية التي كانت تشكل صمام أمانٍ أمام توسع طهران، في أكثر المناطق حساسية استراتيجية، في نظر الغرب والعالم المهتم بالطاقة النفطية والغاز. والثالث استمرار التعبئة القومية الدينية الأيديولوجية التي ارتبطت بالديناميكية الثورية الشعبية التي أطلقتها ثورة 1979، والتي جعلت نظام طهران مشابها، في عقيدته السياسية، العقيدة السياسية الإسرائيلية، حيث يؤدي ارتباط القومية بالدين إلى توليد طبقةٍ سياسيةٍ، ونخبة اجتماعية أكثر تماسكا واستعدادا للمقاومة والاستمرار في نزاعات طويلة.
والعامل الرابع، انحسار هيمنة الغرب العالمية النسبية، وانسحابه من المواجهة العسكرية الواسعة بعد هزائمه في أفغانستان والعراق وليبيا وغيرها. والخامس، وهو الأهم، وجود جثة متفسخة على حدود إيران من النخب والنظم الحاكمة العربية، وتفكك الدول وتجويفها وتفريغها من أي محتوياتٍ وطنية أو حقوقية أو سياسية أو أخلاقية وفكرية، ما حول الدول إلى أجهزة ضبط ومراقبة وعقاب للشعوب، وحكم قهري لها من خارجها وضدها، وتسلط على جسم المجتمع الضعيف والمريض، ونهش مستمر له من دون روادع ولا حدود.
ثالثاً، تقاطع المصالح الإيرانية الإسرائيلية الموضوعي في إضعاف الجسم العربي وتمزيقه. الأولى لمد نفوذها وتوسيع حدودها، وفرض نفسها قوة إقليمية، لا يمكن لواشنطن، ولا لغيرها من الدول الكبرى، تجاوزها، أو تحقيق مصالحها في المنطقة، من دون التعاون معها. والثانية بهدف إنهاء ما تبقى من المقاومة العربية الطويلة للاعتراف بإسرائيل وضم الأراضي العربية المحتلة في الجولان، والانتهاء من قضية فلسطين وتصفيتها، من دون أي تنازلاتٍ مقابلة، بل تقويض شرعية الحكم الذاتي المحدود في الضفة الغربية وقطاع غزة. أي تكريس الاحتلالات الإسرائيلية المتتالية، وفتح صفحة جديدة من الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة، تسمح لها بالمشاركة في اقتسام الموارد العربية. وفي المحصلة، شرعنة وجودها في المشرق، وتحولها إلى شريك رئيسي في صوغ أجندة سياسته الإقليمية.
فنجاح التوسع الإيراني في البلدان العربية يتقاطع، بشكل كبير، مع طموح إسرائيل لتركيع الشعوب العربية، بمقدار ما يتوقف تحقيق هدف الطرفين على إضعاف الدول العربية، والالتفاف عليها. وإذا أمكن احتواء أنظمتها وتسييرها من الخارج، وإن لم يتحقق ذلك بالطرق الناعمة، فبتدمير دولها، وتحطيم شعوبها ومجتمعاتها. لا يعني هذا أن مصالح الطرفين متطابقة على المديين، المتوسط والطويل، ولا يحتاج إلى أن تكون هناك اتفاقات مسبقة حول الخطط والمشاريع. بالعكس، لا يمكن لذلك أن يحصل إلا في إطار الصراع الفعلي بين الدولتين على فرض أجندة كل منهما على المنطقة. وبالضرورة في مناخ تسعير شعارات العداء لإسرائيل في طهران، وتعبئة العالم ضد الخطر الإيراني الوجودي في إسرائيل. ما يحكم العلاقات بينهما هو تنازع الضواري على فريسةٍ واحدة قبل اقتسامها.
رابعا، لا توجد أي إرادة لدى الدول الغربية، لا في واشنطن ولا في أوروبا، ولا لدى حلفائهما الإقليميين في أنقرة وتل أبيب، لمواجهة إيران التي تمثل، أكثر فاكثر، مخلب قط في يد الدول الكبرى المناوئة للهيمنة العالمية للغرب، في الصين والهند وروسيا ودول البريكس، أو للحد من توسع إيران، وانتشار نفوذها في المناطق العربية. ولن تتجاوز ردود فعل الدول الغربية وإسرائيل، إزاء الهجوم الاستراتيجي الإيراني الشامل في المنطقة، حدود محاولات احتواء إيران، وإذا أمكن المساومة معها على حماية مناطق خاصة، كما تفعل إسرائيل، عندما تعلن رفضها أي حضور إيراني على بعد كيلومترات محدودة من حدودها مع سورية.
بالعكس، ما قام به الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، منذ توليه السلطة، وما يقوم به الرئيس الحالي، دونالد ترامب، اليوم من مبادرات لدعم إسرائيل، كالاعتراف بالقدس عاصمة لها، في تحدٍّ للقرارات الدولية، يصب في خانة طهران، ويزيد من جموحها وثقتها بقدرتها على تحطيم المجتمعات العربية، وشرعية اختراقها من الداخل، بوصفها محميات غربية. كما أن ضربات إسرائيل المتفرقة لمواقع إيران وحزب الله في سورية تعزّز وجود الأخيرين بمقدار ما تضعف، بشكل أكبر، من نفوذ الشعب السوري وحضوره، وقواته الخاصة على أرضه، وتهمش كفاحه التحرّري لصالح المعركة الإقليمية، وتكرس واقع الوجود الإيراني في سورية ولبنان والعراق، جزءا من معركة الصراع على السيطرة على الشرق الأوسط، وواقعا سياسيا وجيوسياسيا واستراتيجيا لا بديل عنه، تماما كما حصل في لبنان، حين تحول وجود حزب الله إلى عنصر في تهدئة الحدود اللبنانية “الإسرائيلية” وضمانة لها، وفرض على اللبنانيين القبول به أمرا واقعا، بما في ذلك لدى من كان ولا يزال يرفض سياساته ووجوده. وهذا ما حصل في غزة أيضا، حيث حققت إسرائيل من خلال انفراد حركة حماس، سلاما، باردا من دون شك، لكنه أفضل بكثير من الضغوط الفلسطينية في إطار حركة مقاومة موحدة. وبالمثل، سوف يعزّز تقدم مواقع إيران على خط الجبهة السورية فرص تفاهم إيراني إسرائيلي موضوعي، وحرص متنام على حفظ أمن الحدود أكثر، ما يدفع نحو أي مواجهةٍ، على الرغم من الخطابات العنترية المتبادلة. وهذا ما كان قد حصل من قبل في ظل حكم الأسد الأب والابن.
خامساً، إذا لم تحصل معجزة، والمعجزة الوحيدة الممكنة هنا هي ثورة شعبية في إيران تكنس نظام البابوية القيصرية الإمبرطورية، وهذا ليس مستحيلا، سوف تتحوّل مناطق سورية والعراق، أو ما كنا نسميه الهلال الخصيب، وهو منذ ثلاثة عقود الهلال الكئيب كما كنت قد أسميته، إلى مسرح لحرب طويلة ودامية ومدمرة، للسيطرة على الشرق الأوسط، ومن خلاله، على إعادة بناء نظام الهيمنة العالمية. وفي هذه الحالة، لن تستقر لهذا الهلال أي أمور، ولن يحظى بأي فرصة سلامٍ طويل وشامل، وإنما سوف يظل مسرحا لحروبٍ طويلةٍ، ليس لديه أي سيطرة عليها. وسوف يشهد، على الأغلب، استمرارا لما يحصل اليوم من تفكّك للدول والمناطق، وسيطرة منطق الانكفاء على الحدود القبلية والطائفية والإدارية المتنازعة وغير المستقرة. وبينما سيقتصر السلام والأمن على جزر صغيرة ومتغيرة، حسب ديناميات الحرب وتنقل جبهاتها، ستبقى مساحات شاسعة منذورة للدمار والموت والخراب. وسوف تعيث فيها المليشيات المختلفة الخاصة والمسيرة من الدول فسادا، كما لم يحصل في أي فترة في تاريخ المنطقة منذ نهاية الحقبة العثمانية. بمعنى آخر، ستشتعل كل الجبهات في المنطقة، ما عدا الجبهة الإسرائيلية التي يدّعي الجميع إرادته فتحها.
سادساً، ليس هناك أي أمل في أن تسحب المنطقة نفسها من هذا الاشتباك الإقليمي والدولي، وتغير من وظيفتها مسرحا لحروب السيطرة الإقليمية والدولية، بالمراهنة على أي دولة أو تدخل خارجي. فالدول التي ستتدخل لطرد الإيرانيين، أو غيرهم، سوف تحل محلهم في المكان الذي يخلونه، وفي القرار الذي كانوا يملكونه معا. ولو قبلت إسرائيل أن تواجه إيران بالفعل في سورية، فلن تفعل ذلك لصالح السوريين، وإنما لترث هي ذاتها مواقع إيران، وتحاول أن تفرض رؤيتها وقرارها ومصالحها على أي حكومةٍ سوريةٍ محلية أو وطنية.
سابعاً، لن يستطيع السوريون واللبنانيون والعراقيون استعادة استقلالهم، وسيطرتهم على قرارهم، وتحكّمهم ببلادهم، وإقامة دول حرة وذات سيادة، تعكس حرية مواطنيها وسيادتهم، وتكرسهما وتضمنهما، ما لم يتجاوزوا أمراضهم، ويعالجوا اهتراء نظمهم، وترهّل ثقافة مجتمعاتهم، والنخر الذي قوّض ويقوّض مؤسساتهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. ويستدعي هذا إعادة توجيه الجهد الفكري والسياسي والتحضيري للعمل على أنفسهم، وبناء قواهم الذاتية، وعدم إضاعته في تحالفات وهمية، والركض وراء سراب الرهان على القوى الأجنبية الذي من الواضح أنه هو مركز العمل الرسمي اليوم للأنظمة المرعوبة. فلا أميركا ولا إسرائيل ولا تركيا، ولا أي دولة أخرى، قادرة على أن تفك أسر شعوبنا وتخرجها من الفخ الذي نصب لها على أيدي أنظمتها ونخبها البالية ووقعت فيه، ولا هي راغبة في ذلك. ولا ينبغي أن نحلم أن هناك أي قوة في العالم يمكن أن تضحّي من أجلنا، ولا أن تحل طهران التي تقود الحرب ضد “الأمة العربية”، أي ضد قيام دول مستقرة منظمة، ومرتبطة بشعوبها ومشغولة بتحسين أوضاعها، والارتقاء بشروط حياتها، مهما حصل، أي مهما تسببت به من مجازر وكلفت من خراب، عن ظهر الشعوب العربية، وتخفّف من حدّة الضغوط السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية عن الفريسة الكبرى التي أصبحت بين فكيها.
ثامناً، من هنا، ليس هناك ما يوحي بنهاية سريعة للحرب المتعدّدة الأهداف والأطراف أيضا. ولا أن هناك أملا في تخفيض تكاليفها الباهظة، والتي تهدّد بأن تكون أكبر بكثير مما توقع
الجميع. والسبب أن الفريسة التي وضعتها طهران الخامنئية بين فكّيها، على هشاشتها، أكبر من أن تستطيع بلعها دفعة واحدة وتنفرد بها، وأن تنظيم مقاومةً فعالةً، وحرب تحرير مضادة، من شعوب المشرق، سوف يحتاج إلى وقت، بسبب اختلاط فكر النخب المحلية وتشوشه وتعارض توجهاتها وانقساماتها واستلاب معظمها للقوى والمشاريع الخارجية. فما من شك في أن البابوية القيصرية الإيرانية قد أدخلت المشرق في حقبة جديدة من الجاهلية الأولى، حيث تختلط أمور السياسة بالدين، والقومية بالطائفية، وتمّحى الحدود والمعايير والتعريفات، ويشرعن الفتح، ويتحول الغزو إلى بطولة، بينما يتم القضاء كليا على كل قيم ومفاهيم الدولة الحديثة والأمة والمواطنة والسيادة والحرية والحدود الوطنية.
تاسعاً، تهب على الشرق ريح عاتية خارجة من أعماق قرون الظلام، تعصف بكل ما أنجزته شعوبه في القرنين الماضيين من مكاسب حضارية ومدنية، وتحيله إلى قاعٍ صفصف وواحات من الدموع والدماء. يضاعف من تأثيرها فقدان عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية ثقته بنفسه، وترنّح أركان هيمنته، وتفاقم المخاوف المتبادلة، والانسحاب من الالتزامات الإنسانية الماضية، والشك في المستقبل. أمام هذه العاصفة، لا يجدي الاحتماء وراء دفاعاتٍ قديمة بالية، والرهان على ما يبدو لنا متماسكًا من الأشياء والأوضاع. بالعكس، تستدعي مواجهة العاصفة التحرك والتغير وتغيير المواقع واكتساب مهاراتٍ جديدة، والعمل مع الجميع لإقامة السور العظيم الذي يمكن أن يصد موجات الرياح العاتية. وليس هذا السور سوى اكتشاف إنسانيتنا المهدورة واستعادتها، وجوهرها روح التضامن والتكافل والتعاون والاعتراف المتبادل. وهذا هو الأساس المتين الوحيد الذي نستطيع أن نقيم عليه بناء مدنيا ناجعا وقادرا على البقاء، يعيد إلينا الأمل في الخلاص والخروج من الحلقة المفرغة للنزاعين، الداخلي والخارجي، وتوجيه نشاطنا وجهدنا نحو إعادة بناء قوانا الذاتية، وفي مقدمة ذلك بناء فكرنا السياسي والأخلاقي الذي لا وجود وطنيا لنا من دونه، لا ثورة ولا دولة ولا قانون.