ربما يظن وزير الخارجية ريكس تيلرسون أن الموجز الذي طرحه نهاية العام لمسار السياسات الخارجية الأميركية يشكل قصة نجاح. بيد أنه في واقع الأمر يكشف مقال الرأي الذي نشره تيلرسون في صحيفة «نيويورك تايمز» عن النقيض تماماً؛ فهو يسلط الضوء بالتفصيل على كيف أن الولايات المتحدة تفتقر إلى نفوذ حقيقي في مواجهة الكثير من التحديات الحرجة التي تواجهها على الصعيد العالمي. من كوريا الشمالية إلى الصين إلى روسيا والشرق الأوسط، تبدو الأهداف الأميركية واضحة، في الوقت الذي لا تتوافر لدى إدارة دونالد ترمب خريطة طريق تضمن تحقيقها.
ولنبدأ بكوريا الشمالية، تدور حجة تيلرسون هنا حول أن الاستراتيجية القائمة على المواجهة التي انتهجها الرئيس ترمب نجحت، ويشير للتدليل على ذلك إلى أن إقدام كيم جونغ – أون على إطلاق صواريخ في خطوة استفزازية واضحة، مكن واشنطن من استصدار ثلاثة قرارات بعقوبات ضد بيونغ يانغ من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
ودعونا ننحي جانباً هنا الرد المنطقي بأن استفزازات كيم كانت لتثير رد فعل دولياً قوياً، حتى وإن لم يكن ترمب قد عمد إلى تأجيج الشعور بالأزمة عبر خطاباته المهينة. الحقيقة أن إدارة ترمب ونيكي هيلي، السفيرة لدى الأمم المتحدة، يستحقان الإشادة لدورهما في العمل على ضمان تمرير القرارات الثلاثة. إلا أن الحقيقة كذلك أن القرارات لا تحمل في طياتها أي إمكانية للحد من التهديد النووي لكوريا الشمالية أو تغيير سلوك كيم.
المعروف أن البرنامج النووي الكوري الشمالي يرمي إلى حماية وجود النظام. وبالتالي، فإن التراجع عن الصواريخ سيؤدي ببساطة لإلحاق الضعف بكيم، وهو يدرك ذلك جيداً. والملاحظ أن النظام الكوري الشمالي تمكن على مدار سنوات كثيرة من البقاء وتجنيب نفسه الحرمان الذي يفرضه على مواطنيه. وبمقدوره البقاء حتى مع فرض عقوبات جديدة.
وتكمن الفكرة الرئيسية هنا في أن النفوذ الأميركي والدولي المتعلق بكوريا الشمالية لا يزال ضعيفاً. الأسوأ من ذلك أن ترمب لم يحرز تقدماً على صعيد الفوز بنفوذ في مواجهة الصين، التي تملك بمفردها أهمية اقتصادية كبرى بالنسبة لكوريا الشمالية. وقد اعترف تيلرسون ضمنياً بذلك عندما ذكر في مقاله أن الصين «بمقدورها، بل وينبغي عليها بذل المزيد من الجهود» للضغط على حليفتها المتمردة.
إلا أن الصين من جانبها ليس لديها مصلحة في وجود كوريا الشمالية فاشلة أو ضعيفة على نحو يهدد وجودها، ذلك أنها تحتاج إليها كدرع حماية في مواجهة حليفة واشنطن، كوريا الجنوبية. وحتى هذه اللحظة، ليس ثمة إمكانية أن تغير الصين حساباتها على الصعيد هذا.
من ناحيته، تحدث ترمب خلال حملته الانتخابية عن الدخول في لعبة كبرى أمام الصين ـ لكنه لم يحقق شيئاً حتى الآن على الصعيد الدبلوماسي. أما تيلرسون، فقد طرح تشخيصاً صائباً للمشكلة بقوله: «صعود الصين كقوة اقتصادية وعسكرية يلزم واشنطن وبكين أن تفكرا بحرص في كيفية إدارة علاقاتهما على امتداد الأعوام الـ50 المقبلة».
بمعنى آخر، فإن الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والصين مستمرة. ومع هذا، لم تتخذ إدارة ترمب، بما في ذلك تيلرسون، خطوات واضحة لتحديد كيف يمكن صياغة هذه الحرب الباردة الجديدة.
من بين التوجهات الممكنة العمل على احتواء النمو العسكري الصيني، بينما يتمثل توجه آخر في محاولة تقليص نفوذها الاقتصادي عبر الدخول في تحالفات إقليمية مثل الشراكة العابرة للمحيط الهادي التي تخلى عنها ترمب. وهناك توجه آخر ممكن يقوم على تقبل صعود الصين، والعمل على تشجيعها على المشاركة في النظام العالمي الليبرالي. ومع هذا، لم يختر ترمب أياً من التوجهات السابقة، دون أن يختار أي استراتيجية أخرى واضحة المعالم. ويعكس هذا الفشل واقع الخيارات الأميركية المحدودة بسبب مخاطر الدخول في مواجهة مباشرة مع الصين، سواء عسكرياً أو دبلوماسياً.
وتبدو الأمور أسوأ عند الانتقال إلى روسيا، التي تبدو بمثابة «كعب أخيل» بالنسبة لإدارة ترمب. من جهته، كرر تيلرسون العبارة الأثيرة «لا يمكن إدارة العلاقات على النحو المعتاد» مع روسيا طالما بقي الغزو الروسي لأوكرانيا دونما تسوية. إلا أنه استطرد بأن واشنطن يتحتم عليها التعاون مع موسكو داخل سوريا.
يشير الواقع إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قدم لرئيس النظام السوري بشار الأسد نصراً على تنظيم داعش والجيش السوري الحر. أما الولايات المتحدة، فلم تبدُ مستعدة قط للتخلص فعلياً من الأسد. ولهذا، فإن بقاء النظام الوحشي الموالي لإيران لا يمكن احتسابه نصراً للولايات المتحدة.
تكمن المشكلة في أنه ليس هناك الكثير يمكن لواشنطن فعله حيال هذا الأمر. ومع أن ترمب يدعي الانتصار على «داعش»، فإنه داخل سوريا على الأقل يبدو بوتين أحق بنسب هذا الانتصار إليه عن ترمب. ونتمنى له التوفيق في دفع بوتين للتزحزح عن موقفه فيما يخص أوكرانيا.
وينقلنا هذا كله إلى إيران. من جهته، كتب تيلرسون أن الاتفاق النووي «لم يعد النقطة المحورية» للسياسة الأميركية. في الواقع، يبعث هذا الخبر على الارتياح، لكن هذا القول نابع من حقيقة أن إدارة ترمب لا تملك نفوذاً حقيقياً أمام إيران عبر العقوبات. وباستطاعة أوروبا المضي قدماً في علاقاتها الاقتصادية مع طهران حتى إذا انسحبت واشنطن من الاتفاق النووي.
وعليه، نجد أن النفوذ الأميركي في الوقت الراهن بالنسبة لإيران شديد الضآلة.
وأخيراً، هناك باكستان التي انحرف ترمب في التعامل معها قليلاً عن نهج سابقيه من خلال توجيهه اللوم إلى الحكومة لدعمها حركة طالبان في أفغانستان على نحو أكثر علانية عن جورج دبليو. بوش أو باراك أوباما. ومع أن هذين الرئيسين لم تكن لديهما ثقة في باكستان أيضاً، فإنهما خلصا إلى أنه ليس ثمة خيار أمامهما سوى التعاون مع الحكومات المتعاقبة هناك، رغم مضي باكستان في اللعبة المزدوجة التي تمارسها.
بالنسبة لترمب، فإنه لا يحظى بأي نفوذ أكبر عن سابقيه فيما يتعلق بباكستان. وكتب تيلرسون يقول إن واشنطن سوف تتعاون مع إسلام آباد إذا ما أظهرت الأخيرة «رغبتها في التعاون معنا». بالتأكيد هذه جزرة يلقي بها وزير الخارجية، لكن حتى ترافقها عصا حقيقية ستظل باكستان في التحوط إزاء الانسحاب الأميركي النهائي من أفغانستان وعودة «طالبان» إلى السلطة هناك، ناهيك عن صعود «داعش» في المنطقة.
مما سبق يتضح أن العام الأول لترمب في عالم الدبلوماسية ليس بالعام الذي ينبغي لتيلرسون الفخر به. ومع أن ترمب وتيلرسون لا يتحملان مسؤولية محدودية النفوذ الأميركي، فإنهما بالتأكيد يتحملان مسؤولية العمل على إقرار سياسات لتناول هذا القصور، الأمر الذي لم يفعلاه في أغلب الحالات حتى الآن.
نوح فيدمان
الشرق الأوسط