توسع المدن وتغيَّر أنماط عيش الإنسان، واعتماده أكثر فأكثر على مواد يدخل في تركيبتها الرمل مثل الأجهزة الإلكترونية وصناعة الزجاج والبناء وتعبيد الطرق، رفع قيمة الرمل الى مستويات عالية لم يعرفها العالم من قبل، ما حدا بمعدي برنامج «مراسلون» السويدي الى تشبيهه بالذهب، فأطلقوا على حلقتهم الخاصة به «الذهب الجديد» بعد تأكدهم وفي أكثر من مكان في العالم بأن الرمل أصبح «خامة نادرة» يتسابق أصحاب المقالع على جرفها من السواحل أو استخراجها من تحت الأراضي المزروعة وبيعها بأثمان عالية كما كان يفعل الباحثون عن الذهب في الأزمنة البعيدة. الاندفاع الجنوني على امتلاك «الذهب الجديد» أحدث أضرارًا هائلة بالبيئة وغيّر من أنماط عيش السكان المعتمدين على الزراعة في شكل رئيس.
في ولاية إلينوي الأميركية يصعد فريق العمل التلفزيوني على متن طائرة هليكوبتر لمعاينة حجم الأراضي الزراعية المنبوشة بصورة أوضح، مما حاول توضيحه لهم سكان المنطقة أثناء حديثهم عن ظهور المقالع العملاقة وقيام عمالها بجرف طبقة التراب العليا من مساحات زراعية كبيرة جداً، وأخذ ما تحتها من رمال. لم يخرب البحث المهووس عن الرمل المزارع والبيئة فحسب، بل أضر بصحة سكانها. في أحد البيوت يلتقي معد البرنامج بسيدة أميركية تعاني من ضيق التنفس، بسبب انتشار الجزيئات المتطايرة من الرمال المنقولة بالشاحنات ليل نهار من الأراضي الزراعية الى المقالع. يشبه الخبراء العملية بـ «الجريمة المزدوجة» ضد الناس والبيئة ويحيلون جزءاً من السبب على سكوت المؤسسات الرسمية عن اندفاع أصحاب المقالع العملاقة، التي ازداد عددها في غرب وسط الولايات الأميركية أضعافاً وأيضاً على أنماط عيش الإنسان الجديدة وطلبه المتزايد على الرمل لتلبية احتياجاته «الصناعية» وعلى أساليب التحايل وأغواء شركات «التنقيب» المزارعين لبيع أراضيهم.
في الهند بالنسبة الى مافيات بيع الرمل يستحق الأمر قتل من يقف في طريقهم. أكاشي تشاوهان قُتل والده من قبل رجال المقالع، بعد تلقيه منهم انذاراً طالبوه فيه بالكف عن الاحتجاج ضد عمليات نقلهم الرمال من ضفاف الأنهار المحاذية مزارعهم لها والمعتمدة في شكل أساس على مياهها في الري والقريبة لسوء حظ مزارعيها من طرق سريعة ومبانٍ حديثة قيد الإنشاء. يدخل فريق العمل سراً الى منطقة رايبور خادار خوفاً من كشف مافيات الرمل تصويرهم الأراضي المخربة وإغراق المياه المستخدمة لتنظيفها ما يؤدي إلى إغراق المحاصيل الزراعية وموت الكثير من الأشجار المثمرة تأثراً بذرات الغبار الثقيلة، التي تغطيها بالكامل وتمنع عنها الهواء. يعرف أكاشي مَن أرسل التهديدات الى والده ومَن دخل وأطلق النار عليه داخل منزله، ويعرف عدم تواني من أرسلوهم عن قتله أيضاً إذا سار على نهج والده المعارض لجرائمهم، لهذا يتجنب الاقتراب منهم ومع ذلك ينشط في قريته ويدعو الناس إلى الوقوف في وجه المافيات ومنعهم من سرقة رمال النهر وتدمير حياتهم.
يقدم البرنامج أرقاماً مخيفة عن حجم استخدام الرمل بسبب النمو الاقتصادي الحاصل في الهند وكثرة مشاريع البناء وإقامة الجسور والطرق السريعة، وعدم كفاية الرمل المرخص في سد حاجة أصحابها إليه، فليجأون الى شرائه من السوق السوداء، التي تلجأ بدورها الى ضفاف الأنهار لتجرف تربتها وتنقل رمالها بطرق غير شرعية الى مقالعها المحمية. الفساد والرشاوى بعض من أسباب عدم توقف عمليات «التنقيب» اللاشرعي عن الرمل، والمتاجرة به على حساب البيئة الهندية ومزارعيها الفقراء، والشيء ذاته يحدث تقريباً في القارة الأفريقية.
ليس كل الرمال تصلح للاستخدام الصناعي وتقبل إدخالها على تركيبة مواد صناعية مثل؛ الزجاج والإسمنت وغيرهما، لهذا يزداد الطلب العالمي على رمال أنهر كينيا لجودة نوعيتها. في قرية ماسايني القريبة من العاصمة نيروبي يتحرك تيموتي موسيلا بين الشاحنات وبين الحفارين بزهو فهو الملقب بـ «ملك الرمل» لكثرة ما يصدّره الى العاصمة ومنها يُنقل إلى طالبيها في مناطق متفرقة من العالم. لا يعبأ بحجم الخراب الذي يحدثه في الأنهار ولا بالمخاوف من احتمال اغلاق منافذها في مواسم الأمطار ما يؤدي الى إغراق مساحات زراعية كبيرة يعتمد عليها مئات الآلاف من المزارعين في عيشهم، ما يغوي ملك الرمل بتوسيع تجارته؛ أرباحها. فهو يحصل على نحو 300 يورو عن كل شحنة يرسلها، ولا يدفع للعمال المشتغلين معه منها سوى مبلغ زهيد لايكفي لسد رمقهم ولا يتساوى مع جهدهم المبذول في الحفر والتحميل.
يكشف البرنامج أثناء توقفه عند حدود العاصمة عن إقامة مافيا الرمل سوقاً يشبه «البورصة» تتم فيه عمليات العرض والطلب، بإشرافها، فهي من يحدد أسعار الرمل يومياً لا موسيلا ولا غيره من الوسطاء. ضدهم يتحرك بعض المزارعين. يقومون احتجاجاً بحرق شاحناتهم، غير أنها تظل محدودة التأثير في ظل الحماية الواسعة، المتوافرة لتجار الرمل لارتباط تجارتهم بأسواق عالمية تطلب مزيداً من «الذهب الجديد» ولا يهمها مصدره ولا السلبيات الناتجة من التنقب عنه باندفاع جنوني يتوقع البرنامج أنه إذا استمر على هذه الوتيرة فإنه سينفد خلال الثمانين السنة المقبلة.
قيس قاسم
صحيفة الحياة اللندنية