في دولة إيران التي يتباهي مسؤوليها بسيطرتهم على أربع عواصم عربية، انطلقت في 28 كانون الأول/ديسمبر الماضي شرارة الاحتجاجات في مدينة مشهد، ثاني كبرى المدن الإيرانية، وهي احتجاجات نادر الوقوع فيها. وعن دوافعها نشر الصحافي الإيراني محمد مجيد الأحوازي سلسلة تغريدات على حسابه الخاص عبر تويتر شرح فيها ما يحدث في إيران، فقال إنّ سبب انطلاقة هذه التظاهرات من مدينة مشهد كان للأسباب التالية:
اولا: خسرت 160 الف عائلة مشهدية اموالها في مشروع شانديز السكني وكان هذا المشروع عبارة عن أكبر عملية نصب واحتيال والمتورط في هذه السرقة مسؤولين في النظام لم يتم محاسبتهم وخسر أهالي مشهد أموالهم وحلمهم بالحصول على السكن.
ثانيا: أكثر البنوك الايرانية التي اعلنت افلاسها هي من مدينة مشهد الايرانية وفقد الناس اموالهم بسبب اعلان هذه البنوك عن افلاسها والحكومة الايرانية تجاهلت مطالب الشعب الايراني في قضية افلاس البنوك وركزت على الاتفاق النووي الايراني.
ثالثا: بعد ايقاف الرحلات السياحية الدينية بين دول الخليج وايران، خسر اهالي مدينة مشهد الالاف من فرص عملهم واستثماراتهم واغلقت العديد من المصانع الصغيرة والمحلات التجارية لأنها كانت تعتمد على الزوار الشيعة الخليجيين وبعد حرق السفارة السعودية انتهى كل ذلك”.
وأضاف أنّ “اكبر جالية افغانية توجد بمدينة مشهد وتنافس أهالي المدينة على فرص العمل وبعد أزمة الاسكان وازمة افلاس البنوك وفقدان المدينة المداخيل السياحية وارتفاع الاسعار وازدياد نسبطة البطالة، أصبح الفقر والادمان والبطالة ينهش في جسد هذه المدينة وسكانها اكثر من ثلاث مليون نسمة”، مؤكّدًا أنّ كل هذه “الاسباب الموضوعية توفر بيئة جاهزة لانطلاقة أي حراك شعبي ضد الفقر والبطالة وما يعاني منه أهالي مشهد”.
وقد تتمددت رقعة الاحتجاجات الشعبية في إيران من مشهد في الشمال الشرقي إلى غرب البلاد، فيما أتت محاولات القمع بردة فعل عكسية حيث وصلت المظاهرات إلى يزد في الجنوب وشاهرود في الشمال وانضم أهالي كاشمر ونيسابور إلى جيرانهم في مشهد، وفي 29 ديسمبر/كانون الأول 2017 امتدت الاحتجاجات إلى العاصمة طهران، حيث تظاهر مئات الطلاب مرددين هتافات مناهضة للنظام والرئيس حسن روحاني.
بمرور خمسة أيام على انطلاق الاحتجاجات في إيران، أعلن التلفزيون الرسمي الإيراني، اليوم الإثنين، مقتل 12 أشخاص خلال احتجاجات في جميع أنحاء البلاد، منهم 10 قتلوا خلال اشتباكات ليلة أمس الأحد. ومع هذا اليوم تغيّرت ملامح الشعارات التي بدأت اقتصادية عموماً، ودافع عنها بشكلها هذا بعض الساسة المنتمين لتيارات مختلفة، وعلى رأسها التيار المحافظ، لكنها أصبحت تحمل معاني سياسية أكبر من اليوم الأول الذي تخللته هتافات سياسية بشكل محدود، أثارت حفيظة وتحذيرات البعض. كما اختلفت طبيعتها باختلاف المناطق والمدن، فالتظاهرات التي خرجت بداية في منطقتي مشهد ونيشابور، شمال شرقي البلاد، لا تشبه تلك التي خرجت في العاصمة طهران ليل السبت. فيما سُجل سقوط أول ضحايا هذه التظاهرات جنوب غربي البلاد ليل السبت الأحد، لتزيد التحفظات السياسية عليها. وكان لافتاً، أمس، تقييد السلطات الوصول إلى تطبيقي “تلغرام” و”إنستغرام” على الهواتف النقالة بشكل مؤقت، كما أعلنت وسائل إعلام رسمية أمس.
من خرجوا في مشهد التي يقطنها عدد كبير من المحافظين، طالبوا أساساً بتحصيل حقوقهم بعد أن خسروا أموالاً قرروا استثمارها في مؤسسات مالية من المفترض أن الحكومة كانت قد رخصت عملها، كما رفعوا شعارات تنتقد تصرفات الرئيس حسن روحاني وسياساته الاقتصادية، لا سيما أنه قدّم موازنة للبرلمان أكد فيها رفع أسعار المحروقات، وهو ما تزامن مع ارتفاع أسعار بعض السلع الغذائية الرئيسة. ما في طهران وباعتراف كل المسؤولين، فمن خرجوا أمام جامعتها واتجهوا على طول شارع الثورة أو المسمى انقلاب بالفارسية، رددوا شعارات مناوئة لروحاني وللحكومة ولسياسات النظام. وعلى الرغم من أن في المدينة عدداً كبيراً من مؤيدي التيار الإصلاحي والمعتدل، لكن البعض لا يرى في الأمر ارتباطاً بما حدث، لا سيما أن احتجاجات أخرى خرجت في المنطقة نفسها وأمام الجامعة نفسها، يوم الأحد، تنديداً بتلك التي سبقتها، فردد المتظاهرون شعارات نددوا خلالها بمن وصفوهم بالطبقة المرفهة التي أطلقت شعارات سياسية ولا يهمها أساساً هموم المواطن المعيشية.
وفي هذا الصدد، قال المحلل السياسي عماد أبشناس، إن الاحتجاج على الوضع الاقتصادي قائم منذ مدة، وهناك مدن شهدت على تجمّعات بسيطة بسبب ملف المؤسسات المالية، لكنها تطورت بعد ذلك. وفي ما يتعلق بطهران، رأى أبشناس في حديث لـ”العربي الجديد”، أن ما حدث في العاصمة مختلف تماماً عن سابقاتها، و”لا يتعلق الموضوع بوجود جمهور إصلاحي أو أصولي، فهناك شعارات مصورة في فيديوهات انتقدت التيارين معاً”، معتبراً أن هذا يحرف السياق الرئيسي للاحتجاجات. ويقول إسفنديار بتمانقليج، مؤسس مجموعة أوروبا إيران بزنس فوروم “ما يجعل الناس تنزل إلى الشوارع عادة هي المشاكل الاقتصادية، والإحباط من عدم وجود فرص عمل، والغموض في مستقبل أولادهم”.ويضيف “لا شكّ أن إجراءات التقشّف صعبة، لكنها ضرورية لمواجهة التضخّم ومشكلات العملة ولمحاولة تحسين قدرة إيران على جذب الاستثمارات”.لكن صبر الناس لا بد أن ينفد من هذه الإجراءات، بعد مدة طويلة من العقوبات المفروضة على طهران. وينقل عن خبراء في الشؤون الاقتصادية أن إيران دولة غنية بمواردها، فهي ثاني دولة منتجة للنفط بعد السعودية وثاني منتج للغاز الطبيعي في العالم بعد روسيا وتملك شبكة واسعة من العلاقات الاقتصادية في العالم وأن توسعها العسكري لا سيما في مجال التسلح والصناعات العسكرية أكبر دليل على توفر الموارد المالية على الرغم من ترويج طهران لمعاناة البلاد من العقوبات الدولية.وأضاف هؤلاء أن العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة والمجتمع الدولي تطال بالأساس القطاعين العسكري والأمني ولا تطال ما يمكن أن يؤثر على المستوى المعيشي العام، إلا أن سلطات طهران تلجأ إلى التذرع بتلك العقوبات في محاولة منها لإقناع الإيرانيين بأن سبب مشاكلهم يعود إلى ضغوط يمارسها أعداء البلاد.
الجدير بالذكر أن الموضوع في مدينة مشهد بالذات قد يكون مختلفاً في الحقيقة، على الرغم من تخلل تظاهراتها شعارات سياسية انتقدت سياسة الحكومة. واتهم بعض مؤيدي الحكومة الطيف المحافظ بالتحريض لخروج المحتجين بما يصب لصالحهم في النهاية. وقال أمين حزب “كوادر البناء” غلام حسين غرباستشي، إن مجلس الأمن القومي الأعلى استدعى إمام صلاة الجمعة في مشهد آية الله أحمد علم الهدى، اعتراضاً على مساهمته في دعم الاحتجاجات الاقتصادية ضد الحكومة، وهو ما نفاه مكتب علم الهدى، وطالب باعتذار رسمي، ونفاه مجلس الأمن القومي أيضاً.
من جهته، أكد رئيس تحرير القسم العربي في وكالة “مهر” الإيرانية محمد مظهري، أن الشرارة التي انطلقت من مشهد اقتصادية بالفعل، وتحتج على عمل الحكومة والانتكاسة التي لم تسمح لها بحل معضلة البطالة وحتى بالوقوف بوجه مخاطر عودة نسب التضخم الاقتصادي المرتفعة. وقال إن المحتجين الذين تقدّموا بشكاوى للقضاء ولمجلس الشورى الإسلامي ولمؤسسات حكومية لم يلقوا آذاناً صاغية من قبل الحكومة نفسها حول تعويضهم عن الخسائر المالية. وفي ما يتعلق بكرمانشاه التي خرجت فيها احتجاجات أيضاً بعد مشهد ونيشابور، فإن المدنيين فيها يعانون أوضاعاً صعبة بسبب ما خلّفه الزلزال الذي ضربها سابقاً. ووصف مظهري تحوّل شعارات الاحتجاجات بالمسألة التي تنقل الأمور إلى سياق آخر، وهو ما يلقى تحريضاً خارجياً، بحسب تعبيره، لكن هذا لا يعني عدم وجود مسببات اقتصادية.
الهتافات السياسية هي التي أثارت حفيظة كثيرين في الداخل، فلم يتوان الإيرانيون عن استخدام شعار “الموت للطاغية” في احتجاجاتهم المستمرة في أكثر من مدينة إيرانية للتعبير عن حالة الغضب السائدة جراء السياسات الاقتصادية والأمنية المفروضة عليهم منذ سنوات. ومعها الاحتجاجات ضد «حزب الله» واحتضان الميليشيات الطائفية الذي يرعاها تحالف المرشد-الحرس الثوري في المشرق العربي، وصلت حدّ الاختناق، وعبّر الإيرانيون عن ذلك بهتافاتهم «الناس يتسولون، ورجال الدين يتصرفون كالآلهة». وقد أطلقت تحذيراتهم التي اتسعت بمرور الوقت، متهمين أطرافاً خارجية بالتحريض على حصول ذلك. والمقصود بالأطراف الخارجية، المعارضة الإيرانية وعلى رأسها جماعة “مجاهدي خلق”، التي تتخذ من فرنسا مقراً لها، وكانت زعيمتها مريم رجوي، قد شجعت تحرك الإيرانيين ضد النظام، فضلاً عن وجود معارضة ثانية ممثلة بمؤيدي الملكية البهلوية السابقة. وأثارت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب حول الموضوع، فضلاً عن طريقة تعامل وسائل إعلام سعودية مع احتجاجات إيران منذ يومها الأول، امتعاض كثيرين، ورفضت الخارجية الإيرانية، في بيان رسمي، الموقف الكندي كذلك.
من جانبها، تعتبر السلطات الإيرانية أن الاحتجاجات الشعبية غير قانونية، وتتهم جهات معنية بتحريك الشارع ضد حكومة الرئيس روحاني وسياساته الاقتصادية، وهو ما أشار إليه إسحاق جهانغيري النائب الأول للرئيس الإيراني قائلا إن تيارا سياسيا -لم يسمه- يتخذ من رفع أسعار بعض السلع الغذائية وبعض المشتقات النفطية ذريعة لتوجيه الانتقادات إلى الرئيس وحكومته عبر تشجيع الناس على الخروج في مظاهرات ضد الحكومة.
من جهته، تحدث الحرس الثوري الإيراني في بيان له عن ما وصفه بمخطط فتنة جديدة يستهدف إيران، وقال إن أميركا وإسرائيل وبريطانيا والجبهة المعادية للثورة في الداخل والخارج والرجعية “تتبع أسلوبا مخادعا جديدا لإحداث فتنة في البلاد واستهداف حركة ثورتها خارج الحدود”.أما التلفزيون الرسمي فاتهم “مواقع العدو على الإنترنت ووسائل الإعلام الأجنبية بمحاولة استغلال المصاعب الاقتصادية والمطالب المشروعة للشعب لإطلاق مسيرات غير قانونية وإثارة اضطرابات محتملة”.
وواجهت السلطات الاحتجاجات الشعبية بإطلاق يد شرطة مكافحة الشغب التي استخدمت مدافع المياه والغاز المدمع لتفريق الحشود في كرمنشاه وطهران، كما اعتقلت 52 شخصا في مشهد بتهمة محاولة حرق وتخريب بعض الممتلكات العامة كما كشف عن ذلك حاكم المدينة محمد رحيم نوروزيان.كما أكدت وكالة رويترز أن شخصين قتلا في مدينة دورود غربي إيران برصاص شرطة مكافحة الشغب يوم 30 ديسمبر/كانون الأول 2017، وأكد حبيب الله خوجاتهبور نائب حاكم إقليم لورستان مقتل الشخصين، لكنه قال للتلفزيون الرسمي “لم تطلق الشرطة وقوات الأمن أي أعيرة نارية، عثرنا على أدلة تشير إلى أعداء الثورة وجماعات تكفيرية وعملاء أجانب في هذا الاشتباك”.
إن أي سيناريو خاص باستشراف مآل التظاهرات الحالية في إيران، محكوم بمحددين، على الأقل:
الأول، مدى كثافة المنخرطين في الاحتجاجات، إذْ لا يمكن في ظل السلطوية الإيرانية وإغلاق المجال الإعلامي في إيران وعدم انفتاحه على وسائل الإعلام المحايدة أو الخارجية، تقدير الأعداد الفعلية للمتظاهرين، أو تقدير حجم الاحتجاجات ومدى تشكيلها خطراً على النظام.
الثاني، أنه في ظل القمع الشرس الذي يتوافر لدى النظام الإيراني، من الصعب معرفة مدى قدرة هذه التظاهرات على الديمومة والصمود واستجلاب المساندة، والقدرة على التأثير وفرض الشروط.
وعليه، فقد نكون أمام ثلاثة سيناريوات محتملة:
1- تمكن السلطات الإيرانية من قمع التظاهرات وإخمادها، وبالتالي شراء الوقت، على غرار ما حدث في 2009
2- امتداد التظاهرات واتساعها، بما قد يكسبها مزيداً من التأثير والجـدية في فرض شروط على النظام لتعـــديل المسار، ونكون بذلك أمام فاعل سياسي جديد على الساحة الإيرانية.
3- تراجع حدة التظاهرات، نتيجة اتباع النظام سياسة مزدوجة تقوم أولاً على قمع السلطات المتظاهرين، بوصفهم «تجمعات مخالفة للقانون»، و«مجموعات معادية للثورة تحاول إثارة الاضطرابات في البلاد»، علــى ما صـرّح مسؤولون إيرانيون، وتقوم ثانياً على استجابة حكومة الرئيس روحاني لبعض مطالب المحتجين ذات الأبعاد المطلبية، وربما التراجع عن بعض السياسات التقشفية أو زيادة الأسعار.
في الختام: تكشف الاحتجاجات في إيران عن حالة الاهتراء التي يسعى النظام السياسي الإيراني إلى إخفائها داخل خطاب شعبوي يتباهى بقوة البلاد ومنعتها. وتسلط هذه الاحتجاجات المجهر على حالة الغليان التي تتنامى داخل الشرائح الاجتماعية في إيران، ليس فقط بسبب الحالة الاقتصادية للبلاد، وهي حالة ليست أسوء من بلدان كثيرة في العالم، بل بسبب حالة القهر التي يعيشها الإيرانيون بمختلف قومياتهم جراء الاضطهاد الذي تمارسه السلطات بحق أي أصوات معارضة أو إصلاحية أو منتقدة لخيارات طهران السياسية في الجماعة الدولية.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية