أقلعت طائرة ركاب من مطار أوكلاند في نيوزيلاندا في الساعة الخامسة من صباح الإثنين، 1 كانون الثاني (يناير) 2018، لتحطّ في مطار هونولولو في مقاطعة هاواي في الساعة العاشرة والربع من صباح يوم الأحد، 31 كانون الأول (ديسمبر) 2017!
تداول روّاد وسائل التواصل الاجتماعي هذه الرسالة مع مطلع العام الجديد، لإثارة الدهشة من جهة، ولتسليط الضوء على مفارقات التـوقيــت فــي تلك المنطقة مـن العـالم. ومهمــا كانت سوريالية الصورة التي تقدّمها تلك الرسالة، فإنهــا لا تفـــوق، في ما يبدو، السوريالية التي فاجأتنا بها الاحتجاجات الشعبية الإيرانيـــة وهي تقلع من مدينة مشهـــد المقـدسة، لتحطّ في مدن تعدّ مـــن المعــاقل المهمّة للنظام، رشت، وخـــرم آباد، وزاهدان، بل ومـــدينـــة قم الدينية المقدسة ذاتها، التــي رفــــعـــت شعارات أكثر وضوحاً ضــــد الثيوقراطية الحاكمة، المدججة بميليشيات البلطجة المنظّمة.
إذاً، تحت شعار «دعوا السوريين وشأنهم» وصل البلل (بل اللهب) إلى لحى الملالي في إيران ذاتها، فانداروا لقتل المحتجين الغاضبين من أبناء الشعب الإيراني، بعدما عملوا لسنوات على قتل أبناء شعوب المنطقة الأخرى في سورية والعراق ولبنان وغيرها.
وباستثناء الاختلاف الوحيد المتمثل بكونها «جمهورية إسلامية» تغلّف سلطة ثيوقراطية مستبدة يمسك بتلابيبها ديكتاتور يقمع العلمانيين ويستعين بميليشيات ومنظمات قمعية ويقوم بحملات عسكرية تبشيرية في دول عربية عدة، لا تبدو عوامل الاحتجاج في إيران مختلفةً عن تلك التي شهدتها انتفاضات 2010 و2011 في البلدان العربية، بدءاً من ارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات لا تعترف بها السلطات، تقدّر في بعض مناطق إيران أنها وصلت إلى 45 في المئة (تعترف السلطات بنسبة 12 في المئة)، ضمن جيل يشكّل الشباب ممّن هم دون الثلاثين، الذين ولدوا في ظلّ النظام القائم، أكثر من نصفه؛ ومعدلات التضخّم المرتفعة على رغم الضبط الحكومي الشديد والبالغة 17 في المئة (تعترف السلطات بمعدل 8 في المئة)، وعدم استفادة عموم الشعب من مزايا تخفيف العقوبات الاقتصادية في أعقاب الاتفاق النووي، نتيجة الإنفاق العسكري في سورية والعراق واليمن، فضلاً عن استشراء الفساد الذي تكاثرت ملفاته، والذي يشكّل واقعاً يومياً يحظى فيه الحرس الثوري الإيراني بحصة الأسد في دولة يتراجع باضطراد ترتيبها في تقارير الشفافية والنزاهة حيث بلغ ترتيبها 135 (إلى جانب كازاخستان ونبيال وروسيا وأوكرانيا) من أصل 176 دولة وفق تقرير 2016 لمنظمة الشفافية، وصولاً إلى حال الضبط الأمني الشديد لنظام أيديولوجي يقمع المرأة والأقليات ويعمل على بناء قومية إيرانية على أسس مذهبية.
كما أنّ ملامح الانتفاضة الإيرانية الجديدة تشبه أيضاً ملامح انتفاضات الربيع العربي من حيث اشتعالها في الأطراف وتوجّهها إلى المركز، ذلك المركز المحتقن الذي اختبرناه في 2009، ومن حيث انتقال المتظاهرين سريعاً بشعاراتهم الاقتصادية المطلبية المعاشية، إلى شعارات اجتماعية وسياسية راديكالية قد تغدو أكثر جذرية قريباً، لكنّها تطالب حتى الآن بسقوط الديكتاتور علي خامنئي، وسقوط نظامه الاستبدادي الأيديولوجي.
بيد أنّ ملامح التشابه في رد فعل السلطات عديدة أيضاً. فمن الواضح أن عُدّة النظام الذي باغتته الانتفاضة لا تختلف كثيراً عن عُدّة الأنظمة العربية التي تحدثت عن «بعض المطالب المحقة»، ثم ما لبثت أن سارعت إلى الحديث عن الاندساس والمندسين، وإطلاق الاتهامات بالعمالة لأطراف خارجية «معروفة». وواضح أيضاً أن الحلّ الأمني المُعتمَد حتى الآن لا يختلف عمّا اعتمدته الأنظمة العربية التي كانت مستعدّة لهدر الدم في المواجهات المباشرة مع المتظاهرين السلميين أو من خلال الاستعانة بالقناصة. كما أن استعداد خامنئي للزجّ بأتباعه في الشارع لمجابهة المنتفضين يعني أنه جاهز لتقسيم المجتمع قسمة لا عودة فيها، وضرب فئات الشعب بعضهم ببعض، فقط من أجل المحافظة على سلطته (وهذا بالطبع أمر قد لا يروق لجميع أطراف النظام).
ما فتئت التهديدات تتتالى من النظام، الذي حاول الاستفادة من سياسات دونالد ترامب وتصريحاته فــــــي «تعزيز تماسك جبهته الداخلية»، وهو التعبير المعروف الذي يعني إسكات وإخراس كل المعارضين. وإذ قام النظام الإيراني بعمليات اعتقال بالجملة لمئات المتظاهرين، فإنه لم يتوان عن الزج بهم كورقة مساومة حين صار يلوّح بإصدار أحكام إعدام بالجملة عليهم، في دولة تعد من أكثر دول العالم لناحية أحكام الإعدام. ولن نستغرب إذا تفاقمت الاحتجاجات أن يمضي النظام بتهديداته وعنجهيته إلى حل عسكريّ يستمرئ احتلال المدن وتطهير البلاد من المحتجين والمعارضين.
وفي المقلب الآخر، إذا ما تنظّمت الاحتجاجات، وتوحد جهدها، وتوصلت إلى نتيجة مفادها أن نظاماً كهذا لا يقبل التفاوض، ولا يتنازل عن برغيّ واحد في هيكلية بنائه، وأنّه لا يزول إلا بالقوة، تكون موجة الاحتجاجات الإيرانية قد حطّت على المدرج الصحيح، لكنه العسير، والشاق، والمتعب، والمضني، والمليء… أو فلتعد أدراجها إلى العام الماضي، ولترسل رسائل طلب الصفح والغفران، من الولي الفقيه، المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، نائب الإمام، بانتظار عودته من غيبته الكبرى.
من يدري؟ في سورياليات الوضع في المنطقة، لا تستغربنْ، فقد تقلع الطائرات اليوم لتحط في ثمانينات القرن الماضي، في ثورة شعب سرقها الملالي!
ماهر الجنيدي
صحيفة الحياة اللندنية