الدكتاتورية “طاعون العرب المستمر” جعلت من يعرف يصمت، ومن لا يعرف يتصدر ليوجه العقل الذي أنهكته دكتاتورية قرون متتابعة. وهنا مثال صريح، شرحه موجع لنا جميعا، ولكنه صحيح، وهو أن داء التخاذل وقبول إبادة بشار الشعب السوري تمّا بسبب تهاون وكراهية الحكومات العربية الثورة والتغيير، وبسبب ميراث الخنوع والسلبية والاتكالية في تلك الحكومات التي استمرأت ثقافة “أميركا تعرف كل شيء وتدبره”، و”ننتظر منهم المبادرة”.
السفير الأميركي في سوريا قابل عددا من الثوار وبعض المعارضين مثل “إعلان بيان دمشق”، وأخبرهم باللاءات الأميركية الأربع:
1- لا لتحويل الثورة إلى ثورة عسكرية، والحل حل سلمي.
2- لا للتدخل العسكري الغربي لصالح الثورة.
3- لا لإبادة العلويين.
4- لا لحكومة بديلة تفكر في تطبيق الشريعة.
“تم استغلال أخطاء وجهل وعجز الثوار عن إتمام ثورتهم في بلدان أخرى، فكانت لقاءات عمان العلنية والسرية، التي كان اعتذارها عن مناصرة الثورة السورية منصبا على أن نجاح الثورة يعني نجاح الإسلاميين، وبالتالي فإن بقاء شرّ يعرفونه خير من شرّ لا يعرفونه “
التزمت أميركا بهذه الشروط الأربعة معظم الوقت، حتى كانت جريمة قتل الشعب بالغازات السامة، هنا طرأ تغير في الموقف الأميركي لصالح تقدم في مواجهة بشار وربما ضربه. صحيح أن همّ أميركا في المنطقة “سلامة إسرائيل ورفاهية الحياة فيها” على حساب الجميع، ولكن فضيحة بشار لا تسمح بالتستر عليها، والتآمر معه انتهاك لكل القيم الإنسانية، ومن شأنه أن يخلف ميراثا من السخط والكراهية السورية العامة لكل من قبل أو رضي بما حدث للأبرياء وأكثرهم أطفال ونساء.
عندما تحول المزاج الأميركي لصالح الثورة السورية، كانت النظم العربية قد غرقت في جولة أخطر جدا على بقائها واستمرارها، وهي موجة “الثورة المضادة”، حيث وقفت حكومات عربية صراحة ضد الشعوب الثائرة وكل ما تعنيه الثورات.
وتم استغلال أخطاء وجهل وعجز الثوار عن إتمام ثورتهم في بلدان أخرى، فكانت لقاءات عمان العلنية والسرية التي انتهت بفوضى وفشل كبيرين، وكان اعتذارها عن مناصرة الثورة السورية منصبا على أن نجاح الثورة يعني نجاح الإسلاميين، وبالتالي فإن بقاء شرّ يعرفونه (بشار) خير من شرّ لا يعرفونه (الثوار). وكانت لبعض الحكومات العربية مواقف قرب وولاء لبشار غير معلنة، خاصة بعد إعلان مقربين منه بأنه هو مصدر أمن واستقرار إسرائيل وليس الثورة والثوار.
ودخل على خط الثورة الكراهية الشديدة أو عداء بعض النظم العربية لتركيا. كيف لا وقد ظهر على جبهتها الواسعة مع سوريا تقدم كبير للثوار، وهم غالبا ممن لم يخضعوا لرؤية النظم العربية القديمة، ولم تخترقهم الحكومات العربية بشكل كاف.
وهنا ظهر الخلاف العربي التركي على حق النفوذ في الثورة السورية، ووصل الأمر ببعض المجتمعين العرب إلى المطالبة صراحة بإغلاق جبهة الثوار الشمالية ضد بشار المنطلقة من الحدود التركية، وتحويل المواجهة إلى الجنوب مع الأردن، حيث يمكن ضبط كل شيء والتحكم في الثورة من هناك. وكانت أمنية غريبة، فتركيا استقبلت الشعب السوري وآوته وسمحت له بالعمل والإقامة، وفنادق ومقاهي وبيوت إسطنبول وعنتاب وجنوب شرق تركيا أصبحت مأوى ومنتدى ومهربا للتجمع السياسي للثورة السورية، ولن يحل محلها مكان آخر في ما يبدو.
أوباما وفي ظل وجود مشكلات عديدة عاناها مع الوجود العسكري الأميركي المتعثر في المنطقة، وتغلب الإسلاميين المناوئين لأميركا في معظم جبهات سوريا، أصبح لا يود الظهور بمظهر من يقاتل في حرب عربية أخرى بعد الفشل في العراق وأفغانستان، وتعالي موجة كراهية الجيش الأميركي، والصدود الأميركي الشعبي والحكومي عن أي مساهمة في حروب جديدة مرهقة وضحايا كثيرين ونتائج سلبية مع العجز المالي الداخلي الكبير، وتخاذل العرب عن أي مبادرة، وكان جمهوريون يلحون على التدخل ضد بشار، مما سبب خلافا بين السفير الأميركي فورد والرئيس وأدى إلى تنحيه.
“هناك حقيقة موجعة عبر عنها أوباما بأن ما يهدد الحكومات العربية هو استياء شعوبها منها، وليس خطر إيران، ونحن نعلم أنه لو غابت إيران عن الوجود في لحظة لكانت المشاكل الداخلية للحكومات العربية كالتي نرى وأسوأ”
الأوضح والأهم من ذلك، أن أوباما قال لبعض الحكام والدبلوماسيين العرب عليكم أن تبدأوا ولا تنتظرونا، وكأنه يشير إلى أنكم لن تجدونا متأخرين عنكم، لأن لنا حسابات أخرى. ولم يفهم العرب، أو جبنوا، أو كان لعامل تدخل ليبرمان وزير الخارجية الإسرائيلي -وهو روسي أيضا- دور في المطالبة باستكمال هدم سوريا، لكيلا تقوم لها قائمة بعد الثورة، ولو لنصف قرن قادم، وأصر على استمرار القتال، فكانت روسيا وإسرائيل تقفان موقفا واحدا في النتيجة، أما الأسباب فمختلفة.
أما ما زعمه صحفيون عرب من أن أميركا توزع اللوم على العرب فقط، فربما صدق في أحيان أخرى، ولكن ليس في هذه الحالة، لأن من أهم الذين أعاقوا الثورة العربية وتحدوا حقوق الشعوب في مستقبل حُرّ وإنساني كانت حكومات عربية. زد على هذا أنه قد حركها عداؤها الأعمى للإسلاميين، فأنى لها أن ينصروا ثورة قد يستولي عليها إسلاميون في سوريا؟ ثم إن انتصار الثورة يؤذي وليتهم القريبة، والموقف العربي متفرق، ففي غمرة الحديث عن الثورة على بشار استقبلت حكومة عربية أفرادا من عائلة بشار وشركاء له علنا وسرا، فكيف يتوقع منهم عزيمة في نصرة الثورة؟
نعم، أوباما في حديثه مع الصحفي الصهيوني فريدمان أعلن بوضوح أن الحكومات العربية لم تبادر للحل في سوريا. هذا الموقف يعرفه سياسيون عرب، ومن قبل أبلغهم به الرئيس نفسه، لكن الجديد هو الإحراج بنشر الموقف علنا أمام العالم. ربما نشر هذه الحقيقة ضدهم لأن بعض العرب ظاهروا خصومه كنتنياهو ومتشددي اليمين المسيحي المتصهين في الاحتجاج على المصالحة مع إيران.
ولعل أوباما كان يريد سابقا من العرب أن يبدؤوا، وكان هو يخفي رغبته ولا يريد أن يبادر لحرب بشار، بسبب فشل الحروب السابقة وتكلفتها العالية، وبسبب اللوبي الصهيوني الذي أراد إطالة الحرب وأبى إلا المشاركة غير المباشرة في صياغة الحكم السوري البديل. فليس اللوبي الصهيوني مستعدا لقبول حكومة مجهولة في سوريا بعد معاناته في مصر، إذ لم تستقر مصر لمصلحة اللوبي إلا بعد جهد عربي وصهيوني كبير.
ثم إن هناك حكاما عربا عاجزين تجاوزت سلبيتهم كل الحدود، يريدون أن يصنع الغرب والشرق لهم كل شيء يطلبونه، مع أنهم عندما تُمس مصالحهم الشخصية يتغيرون ويستأسدون.
“لم يتآمر العالم على حكومات العرب كما زعموا، ولم يقف الشرق والغرب دون إنقاذ إخوانهم في الشام من المذابح، ولكنهم أحرجوا عندما واجههم أوباما بحقيقة مسؤوليتهم عما حدث ويحدث”
لقد ذكر وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس شواهد محرجة في كتابه “الواجب: مذكرات وزير في الحرب”. شرح شيئا من حالة هذه الحكومات، التي تريد أن يفعل لها الأميركيون كل شيء دون أن تفعل هي شيئا وحتى لا يقال أيضا إنها فعلت، أو لأنها تفهم وتمارس السياسة على أنها غدر متواصل، واختفاء وتخل عن المسؤولية، وحرب على مصالح الشعوب لصالح الغزاة.
ومن سخافات اللجنة العربية لمتابعة الشأن السوري أن طلب أغلب أعضائها إقصاء تركيا من المشاركة في إسقاط بشار، وطالب بعضهم بإغلاق المنافذ والعمل العسكري والسياسي على الجبهة التركية، وألحوا على أن يكون كل شيء يدار من الأردن، ولأسباب معلنة أو مفهومة: وهي جود حكومة تركية عندها ميول إسلامية، وعلاقاتها سيئة بإسرائيل بعد توتر العلاقات التركية الإسرائيلية إثر العملية الإرهابية للجيش الصهيوني على سفينة مرمرة.
حصلت في اللقاءات التي من “المفترض أن تساعد الثوار” مشكلات بين الوفود، فأصبحوا يحتاجون من يساعدهم في تجاوز خلافاتهم، وسُجل على بعضهم مقابلات مع الطرف الصهيوني أثناء مهمات اللجنة، وهدد بعضهم بابتزاز بعض، ولم يزل الحديث عنها صعبا حتى الآن.
هناك حقيقة موجعة عبر عنها أوباما بأن ما يهدد الحكومات العربية هو استياء شعوبها منها، وليس خطر إيران، ونحن نعلم أنه لو غابت إيران عن الوجود في لحظة لكانت المشاكل الداخلية للحكومات العربية كالتي نرى وأسوأ، فاستمرار اغتصاب المستبدين حقوق الشعوب هو مصدر الأزمات والقلق والفشل المستمر مهما هربت دائما باصطناع تهمة من الخارج كإيران أو إسرائيل أو الإرهاب.
لم يتآمر العالم على حكومات العرب كما زعموا، ولم يقف الشرق والغرب دون إنقاذ إخوانهم في الشام من المذابح، ولكنهم أحرجوا عندما واجههم أوباما بحقيقة مسؤوليتهم عما حدث ويحدث.
محمد حامد الأحمري
المصدر : الجزيرة