على عملية السلام الإسرائيلية-الفلسطينية كما عرفناها. ففي عمر 24 عاماً، توفيت هذه العملية أخيراً، بدون أن يكون أحد سوى الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه هو الذي يسحب قابس الحياة. ولكن، دعونا لا نعطيه الكثير من الفضل أو اللوم على ذلك؛ كان الذي وجه ضربة الموت إلى هذه العملية هو سلفه، باراك أوباما.
كان هناك الكثير مما يحبه المرء في رئاسة أوباما، خاصة في ضوء الفوضى التي ورثها في العام 2009، والنزعة التعويقية غير المسبوقة التي ميزت عمل الحزب الجمهوري خلال فترة ولايته. لكنه تسبب أيضاً بإخفاقات فادحة نجمت عن أوجه قصوره الخاصة، وكان التدهور الذي حل بمسألة الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني تحت إشرافه على رأس القائمة.
ربما يكون هيكل عملية أوسلو للسلام محكوماً بالفشل منذ البداية. فقد كان الهدف منه دائماً هو التركيز على المحادثات الثنائية، مع تأجيل القضايا الصعبة لأطول وقت ممكن. وفي الأثناء، لم يحظر أي شيء في الاتفاقات التي بنيت عليها عملية السلام توسيع المستوطنات الإسرائيلية في المناطق التي احتلتها إسرائيل في العام 1967؛ وكانت مسألة حقوق الإنسان تخطر بالكاد في البال؛ وقد أفضى اعتماد الاتفاقيات على الإرادة السياسية للإسرائيليين، والطرف الأقوى بما لا يُقاس، إلى فتح الباب لكل من القادة الإسرائيليين الديماغوجيين والجماعات الفلسطينية العنيفة لحتّ تلك الإرادة بسرعة كبيرة.
صعود وسقوط عملية أوسلو
نبع الأمل الذي وُجِد في اتفاقات أوسلو، كما كان حالها، بشكل كامل من إرادة المفاوضين الفلسطينيين والإسرائيليين. ولسوء الحظ، فشل هؤلاء المفاوضون في مخاطبة الحقيقة السياسية المتمثلة في أن الولايات المتحدة؛ الطرف المنحاز بطريقة ميؤوس منها، كرست نفسها كوسيط للمفاوضات. وللإنصاف، فإن سجل الولايات المتحدة في العام 1993، بينما كان أبعد ما يكون عن المثالية، لم يكن يقترب من مدى السوء الذي أصبح عليه بعد ذلك. وجاءت حصيلة اتفاق كامب ديفيد في العام 1979 أقل بكثير مما كان الرئيس جيمي كارتر قد أراده للفلسطينيين، لكن الاتفاق قلص فعلاً خطر نشوب الحرب في الشرق الأوسط عن طريق التوسط في اتفاق سلام إسرائيلي-مصري. كما أمَّن الرئيس جورج بوش الأب بعض الشرعية للفلسطينيين كشعب له حقوق، عن طريق ضمهم، وإن لم يكن على قدم المساواة، في مؤتمر مدريد في العام 1991. وقد تبدو هذه مجرد إنجازات صغيرة، وهي كذلك، لكنها كانت أكثر مما تمكن من تحقيقه أي رئيس أميركي لاحق.
في الوقت الذي تولى فيه باراك أوباما المنصب بعد أكثر من 15 عاماً من بدء عملية أوسلو، كان الوضع قد تدهور بطريقة بالغة السوء. فقد تم اغتيال إسحق رابين، الذي كان في ذلك الوقت رئيس وزراء إسرائيل، في العام 1995 على يد متطرف من اليمين المتطرف -الذي لقي التشجيع، عن وعي أو غير ذلك، من مجموعة من الحاخامات اليمينيين ومن منافس رابين السياسي، بنيامين نتنياهو. وأعقبت الاغتيال موجة من الإرهاب الذي سكب الماء البارد على الحماس الإسرائيلي للسلام، وحمل نتنياهو إلى سُدة السلطة. ونجم عن العلاقة كثيرة النزاع بين نتنياهو وبيل كلينتون “اتفاق الخليل”، وساعد سوء العلاقة في النهاية على الإطاحة بنتنياهو من المنصب، لكن ذلك أدى أيضاً إلى إبطاء التقدم مع الفلسطينيين إلى درجة التوقف تقريباً، ومر الموعد النهائي الذي حددته اتفاقات أوسلو لحسم قضايا الوضع النهائي من دون إحراز أي تقدم بشأنها على الإطلاق. وكانت استجابة كلينتون لذلك، قمة كامب ديفيد الثانية، بمثابة الكارثة الكاملة، حيث نكث كلينتون وخليفة نتنياهو، إيهود باراك، بوعدهما بعدم تحميل عرفات المسؤولية عن فشلها. وجاءت الانتفاضة الثانية على الأعقاب، وتم تدمير اليسار الليبرالي الإسرائيلي وتدمير الضفة الغربية وغزة أيضاً.
بعد ذلك، ملأت حرب جورج دبليو بوش على الإرهاب الفراغ الذي كان قائماً في التحالف الأميركي-الإسرائيلي منذ نهاية الحرب الباردة. وربما كانت “خريطة السلام” التي وضعها بوش ستشكل وثيقة مهمة لو أنها احتوت على أي آليات للإنفاذ، لكنها خلت من ذلك. وكانت خريطة الطريق وقمة أنابوليس مجرد إيماءات جوفاء على أرضية سياسة إقليمية من تصميم المحافظين الجدد إلى حد كبير، والتي لم تقتصر على تدمير السياسة السابقة لـ”الاحتواء المزدوج” للعراق وإيران فحسب، وإنما دمرت العراق فعلياً، زارعة بذلك البذور التي أنجبت تنظيم “الدولة الإسلامية” والفوضى الإقليمية.
بينما غيَّر بوش السياق الإقليمي، تواصلت المحادثات غير المثمرة بين إسرائيل والفلسطينيين. وقد أظهرت خطة أرئيل شارون لسحب القوات الإسرائيلية والمستوطنات كافة من قطاع غزة، وإزالة أربع مستوطنات صغيرة من الضفة الغربية، أظهرت –كما كان القصد منها- كم كان إخلاء المستوطنات صعباً سياسياً بالنسبة للقادة الإسرائيليين -حيث “صبت الفورمالديهايد على عملية السلام”، كما قال مساعد شارون، دوف ويسغلاس.
جعل فوز حماس الانتخابي في العام 2006 الجمهور الإسرائيلي أكثر تخوفاً، حتى بينما كانت الانتفاضة الفلسطينية تخفُت. وأسفر رفض الولايات المتحدة وإسرائيل القبول بنتائج انتخابات كانتا اللتان دفعتا السلطة الفلسطينية إلى عقدها، عن وقوع محاولة انقلاب قامت بها قوات فتح في غزة. وفشلت المحاولة. وقامت إسرائيل بعد ذلك بتصنيف غزة كمنطقة معادية، وفرضت إغلاقاً كاملاً على ما كان أصلاً قطاعاً فقيراً جداً ومعزولاً تقريباً ومكتظاً بساكنيه، والذي ما يزال مستمراً حتى هذا اليوم. وفي نهاية ولاية بوش الثانية، أطلقت إسرائيل العملية الأولى من سلسلة من العمليات العسكرية الكبيرة ضد غزة.
كان ذلك مرجلاً يغلي، والذي خطا باراك أوباما داخلاً إليه عندما جاء إلى المنصب. وقد عبَّر أوباما علناً -ليس فقط عن دعمه القوي لأمن إسلائيل، وإنما عن تعاطف عميق، بل وفريد بالنسبة لرئيس أميركي، مع محنة الفلسطينيين أيضاً. وعرضت خطبته في بداية ولايته، والتي ألقاها في القاهرة في أول رحلة خارجية له، بعض الأمل بأن إدارته ستكون مختلفة.
دخول أوباما
في البداية، بدا أن الكلمات الكبيرة يمكن أن تبشر بتحول استثنائي في السياسة الأميركية. وبعد وقت قصير من توليه المنصب، دعا أوباما إلى تجميد كامل للبناء الاستيطاني الإسرائيلي. لكنه فشل في وضع الأساس في واشنطن لمثل هذه الدعوة. وعندما هاجمته إسرائيل إلى جانب الجمهوريين في الكونغرس بسبب ذلك، قدم الديمقراطيون دعماً فاتراً له أو أنهم ظلوا خارج خط النار تماماً. وأخيراً، وبعد يأسه من إنقاذ أي شيء، قبل أوباما بالتجميد الجزئي الذي عرضه نتنياهو، والذي لم يكن في الأساس تجميداً على الإطلاق.
كشف ذلك الفصل عن حقيقة سياسة أوباما في الشرق الأوسط. وقد كانت لديه نوايا حسنة، لكنه لم يستطع أن يتغلب على الانحياز الأميركي البنيوي المتأصل الذي كان الكثيرون من دعاة السلام يشيرون إليه لسنوات.
حكم أوباما عامين مع كونغرس ديمقراطي، وعنى فشله في موضوع تجميد الاستيطان أنه كان في مواجهة خيار. كان يفكر مسبقاً في إحداث تغيير أوسع إطاراً لسياسة الشرق الأوسط، في تأملات ظهرت لاحقاً في شكل فرض عقوبات جديدة على إيران، والتي هدفت إلى إجبار الجمهورية الإسلامية على القدوم إلى طاولة المفاوضات حول موضوع سعيها المزعوم إلى امتلاك أسلحة نووية. وسوف يتطلب إبرام اتفاق مع إيران -وقد تطلب فعلاً- وجود رأسمال سياسي هائل في الداخل. ولم تكن هناك أي طريقة يستطيع بها أوباما مجرد ممارسة ضغط يعتد به على إسرائيل والفلسطينيين للدفع من أجل اتفاق على الوضع النهائي، بينما يجري السعي إلى إبرام الاتفاق الإيراني في الوقت نفسه. وقد اختار الرئيس الخيار الأخير عن حكمة.
لكن أوباما ارتكب خطأ قاتلاً آخر، وكان ذلك في العام 2011، عندما استخدم حق النقض “الفيتو” ضد قرار لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والذي كانت صياغته قد تمت في الأساس ليعكس سياسة الولايات المتحدة الرسمية تجاه المستوطنات الإسرائيلية. ولم يكن القرار يفرض أي شيء على الإطلاق سوى دعوة إسرائيل إلى وقف التوسع الاستيطاني، كما كان أوباما نفسه قد فعل سابقاً، والتفاوض على قضايا الوضع النهائي. وباستخدام حق النقض ضد هذا القرار، أوضح أوباما أنه لن يكون هناك أي ضغط على إسرائيل من طرفه أبعد من الخطابة.
ربما كان القليلون مستعدين لقول هذا في ذلك الحين، ولكنه كان في ذلك اليوم، قبل نحو سبع سنوات، حين توفيت عملية أوسلو للسلام. وبطبيعة الحال، سوف يواصل أوباما السماح لجون كيري بمحاولة تجريب حظوظه في صنع السلام، لكن مشاركة أوباما نفسه كانت أكثر ضعفاً بكثير. ومن دون أي دفع قوي من الرئيس، لم يكن هناك حتى مجرد أمل في حدوث معجزة.
من المفارقات أن قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2334، الذي امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت عليه في كانون الأول (ديسمبر) 2016، كان مشابهاً جداً للقرار الذي نقضه أوباما قبل ذلك. وفي حين أعطى القرار أوباما ريشة صغيرة في قبعته لدى مغادرته، وعرض بارقة أمل لأولئك الذين يعملون من أجل حل دبلوماسي للنكران المستمر لحقوق الشعب الفلسطيني، فإنه كان شيئاً صغيراً جداً ومتأخراً جداً أيضاً. كان ما فعله دونالد ترامب -برفضه الدعوة إلى حل الدولتين، وملء فريقه لشؤون الشرق الأوسط بمؤيدي المستوطنين الإسرائيليين وعناصر اليمين المتطرف، وعلاقته الوثيقة ببنيامين نتنياهو، وأخيراً اعترافه المتهور بالقدس كعاصمة لإسرائيل- كان ذلك مجرد إعلان للوفاة التي كان باراك أوباما قد فعل ما هو أكثر بكثير للتسبب بها. وما كان يمكن أن تكون نواياهما أكثر اختلافاً، لكن النتيجة كانت نفسها.
إلى أين الآن؟
بذلك، يكون السؤال الحقيقي عند هذه النقطة، هو كم من الوقت سوف يحتاج العالم حتى يعترف بأن اللعبة القديمة قد انتهت. لا ينبغي التخلي عن حل الدولتين، ولكنه يحتاج إلى إعادة النظر فيه وإعادة صياغته. الآن، يجب التفكير بالخيارات كافة، ويبقى أن نرى ما هي النتيجة التي سيسعى إلى تحقيقها الفلسطينيون أنفسهم.
إننا نعرف ما تريده إسرائيل: السيطرة المستمرة على الضفة الغربية مع قدر محدود جداً من الحكم الذاتي للفلسطينيين في منطقة غير متصلة، والتي يستطيعون، إذا ما أرادوا، أن يسموها دولة. ومن الواضح أن ذلك ليس هو ما يريده الفلسطينيون. وإذا كان صحيحاً، كما تقول الإشاعات الحالية، أن الولايات المتحدة والسعودية تعملان على خطة لإجبار الرئيس الفلسطيني محمود عباس على القبول بمثل هذه الصفقة، فإن ذلك الجهد لن ينجح على الأرجح -خاصة الآن بعد أن رفع ترامب منسوب التوتر بإعلانه الخاص بالقدس.
ولكن، بقدر ما تبدو الأمور قاتمة، فثمة فرصة حقيقية هنا أيضاً. إن العملية التي تقودها الولايات المتحدة قد ماتت. ويجب أن ينصب التركيز الآن على عملية جديدة. وسواء كان لهذه العملية الهدف نفسه أو هدف مختلف، فلا يمكن أن تقودها الولايات المتحدة. وإذا كان ربع القرن الأخير قد برهن شيئاً، فهو هذا بالتحديد.
سوف يكون لائتلاف دولي، يتشكل على أساس خطوط مجموعة (5+1) التي تفاوضت على اتفاق إيران -ولو بقيادة أميركية أقل هذه المرة، فرصة أفضل بكثير لعزل نفسه عن الضغوط المحلية الرجعية -في الولايات المتحدة وفي الاتحاد الأوروبي أيضاً- والتي تعمل على الإنكار الكامل للحقوق الفلسطينية.
وقد أصبحت هذه الإمكانية ممكنة أكثر من أي وقت مضى الآن بعد أن قلص ترامب فعلاً نفوذ الولايات المتحدة بشكل كبير في جميع أنحاء العالم. وسوف يعمل أسلوب التنمُّر الذي كان قيد العرض مرة أخرى في الأمم المتحدة خلال الأسابيع الأخيرة فقط على تسريع هذه العملية. وما يزال الاتحاد الأوروبي، حتى من دون المملكة المتحدة، أكبر شريك تجاري لإسرائيل إلى حد بعيد. وإذا استطاعت دوله أن تعمل مع روسيا والصين على صياغة خطة سلام يكون لها بعض أدوات الضغط والإنفاذ، فإن إسرائيل لا تستطيع أن تتجاهل ذلك. ويمكن إشراك الولايات المتحدة، كنظير. وفي هذه الحالة، يمكن أن يكون دورها كـ”محامي” إسرائيل إيجابياً؛ حيث توفر صوتاً لإسرائيل من دون القدرة على عرقلة الإجماع العالمي.
قد يكون من الصعب على الكثيرين مواجهة ذلك، لكن دور الولايات المتحدة كوسيط ربما كان السبب الأكبر لإخفاق عملية السلام. ولا يعني ذلك إعفاء إسرائيل أو الفلسطينيين، الذين أسهموا أيضاً في الكثير من ذلك الإخفاق. لكن إسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة هي حليف، في حين أن الفلسطينيين، في أفضل الأحوال، مجرد قضية خيرية. ولدى إسرائيل نفوذ سياسي كبير في واشنطن، في حين يفتقر الفلسطينيون إلى أي نفوذ هناك. ولا يمكن أن تكون الولايات المتحدة سوى لاعب مدمر في مفاوضات تمس فيها الحاجة إلى قوة عظمى للتوسط وجَسر الهوة بين قوة إقليمية فائقة وبين شعب مقهور بلا دولة.
الآن ثمة فرصة أمام المجتمع الدولي لتغيير هذا الإطار. وكما هو حال الأمور الآن، فإنه لن يفعل ذلك. ولن تنجح حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات في تحويل الأرضية في أوروبا، ناهيك عن الولايات المتحدة، نحو عمل جدي لدفع كلا الطرفين إلى اتفاق دائم وعامل.
لكن اندفاعة شعبية هي الفكرة الصحيحة بالضبط. وقد حان الوقت الآن لأن يعمد كل الذين يهتمون بشأن إسرائيل، والفلسطينيين، والشرق الأوسط والسلم الدولي، إلى التنظيم، والضغط، والاحتجاج والمناشدة والنشاط بكل وسيلة متاحة من أجل تشكيل ائتلاف دولي بمشاركة أميركية محدودة. ويمكن لذلك أن يعمل، ولم تكن نافذة الفرصة لمثل ذلك أوسع مما هي الآن.
ميتشل بليتنيك
صحيفة الغد