إذا كان الرد الدولي حتى الآن أي مؤشر، فإن الاحتجاجات الإيرانية تخاطر بإحداث وقيعة بين الولايات المتحدة وأوروبا، الأمر الذي قد يعرقل قدرة الغرب على تشكيل جبهة مشتركة حول مجموعة واسعة من القضايا الإقليمية ومسائل انتشار الأسلحة النووية. ولإغلاق هذا الشق، قد ينبغي على واشنطن طمأنة بروكسل بأنها لن تلغي الاتفاق النووي؛ وهي رسالة لا بد من إيصالها بسرعة نظراً للقرارات التي سيتخذها الرئيس ترامب بشأن مجموعة من الإعفاءات التي ستنتهي صلاحيتها في منتصف كانون الثاني/يناير. ووفقاً لمسؤولين أمريكيين كبار يعملون حول [قضايا] إيران، سيتطلب من الحكومات الأوروبية ومن منسقة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، فيديريكا موغيريني، الرد بالمثل من خلال إظهار استعداد أكبر بكثير لمعالجة أوجه القصور في الاتفاق وتحدي طهران بشأن سجلها في مجال حقوق الانسان.
رسائل متضاربة
يضع البيت الأبيض حالياً سلسلة من المبادرات بعد أسابيع من الاضطرابات في إيران، تهدف جميعها إلى ممارسة المزيد من الضغوط المالية والدبلوماسية على الحكام الدينيين للنظام الإيراني وقيادته العسكرية. كما وتشمل المزيد من العقوبات على الأجهزة الأمنية، وحملة تسمية وتشهير ضد الأفراد والكيانات المتّهمين بالفساد وارتكاب أعمال قمع على نطاق واسع، وتضمّ أيضاً قائمة بالأموال التي أنفقتها إيران على دعم وكلائها المسلّحين في لبنان وسوريا والعراق، واليمن. وتحاول الإدارة الأمريكية أيضاً ايجاد أساس مشترك مع أوروبا حول كيفية تعزيز الاتفاق النووي بشكل ملموس، وذلك أساساً من خلال معالجة المخاوف المتعلقة بتطوير الصواريخ الباليستية وبنود الانقضاء التي ستسمح لطهران بزيادة أنشطتها النووية بشكل كبير في غضون عقد من الزمن.
بيد، يقول كبار المسؤولين الأمريكيين أنهم لاحظوا فى الأيام الاخيرة بعض الدلائل على أنّ الاتحاد الأوروبي أو الحكومات الأوروبية الفردية مستعدة لاتخاذ موقف أكثر شدّة. وفي الأحرى، يشعر البيت الأبيض بالقلق من قيام الأوروبيين بترتيب أولوياتهم لخدمة مصالحهم التجارية الخاصة في إيران، وإزاء مساعيهم لضمان عدم انتهاك الاتفاق النووي بدلاً من تأييد استراتيجية من شأنها مساندة المتظاهرين. وكما كتب نائب الرئيس الأمريكي، مايك بينس، في مقال نشرته صحيفة “واشنطن بوست” في 3 كانون الثاني/يناير، “للأسف، حتى الآن، فشل الكثير من شركائنا الأوروبيين، وكذلك الأمم المتحدة، في التنديد بقوة بالأزمة المتزايدة في إيران”. ومن جهتهم، أعرب مسؤولون أوروبيون عن قلقهم من احتمال استخدام إدارة ترامب للاحتجاجات كذريعة للانسحاب من الاتفاق النووي.
وهذا الخلاف لا يكاد يكون جديداً. إذ أن سياسة إيران لطالما أحدثت انقسام بين الولايات المتحدة وأوروبا منذ وقوع ثورة عام 1979 التي أطاحت بالشاه، المدعوم من الولايات المتحدة، وجلبت نظاماً إسلامياً متطرفاً إلى السلطة. وكثيراً ما تصادمت إدارتا كلينتون وجورج بوش مع الحلفاء الأوروبيين حول العقوبات والحكمة وراء الانخراط مع طهران، في حين أعربت بروكسل عن قلقها من أن تشنّ واشنطن ضربات عسكرية على إيران بعد اكتشاف مواقع نووية سرية في عام 2002.
يُذكر أنّ انتخاب الرئيس أوباما قد ساعد على التوصل إلى توافق نادر في الآراء حول إيران، حيث شدّدت واشنطن وبروكسل بشكل مشترك على ضرورة البحث عن اتفاق دبلوماسي بشأن التهديد النووي. كما سعى الزعماء على جانبي المحيط الأطلسي إلى الانخراط بشكل مباشر مع ما اعتبروها فصائل ذات توجه إصلاحي داخل الحكومة الإيرانية، آملين أن تتمكّن من جعل الأنشطة الخارجية للنظام معتدلة وتسمح بالمزيد من الحريات السياسية في الداخل. وقد تُوِّجت هذه الاستراتيجية [بالتوقيع على] الاتفاق النووي عام 2015، الأمر الذي أدّى إلى رفع معظم العقوبات الدولية المفروضة على الجمهورية الإسلامية.
غير أن الاضطرابات التي شهدتها إيران خلال الأسبوعين الماضيين قد سلّطت الضوء على المقاربة المختلفة تماماً التي تنتهجها إدارة الرئيس ترامب. إذ سرعان ما أعرب الرئيس عن تأييده للمتظاهرين عبر موقع “تويتر” وحذّر طهران من اتخاذ إجراءات قمعية صارمة. وفي المقابل، اتخذ العديد من القادة الأوروبيين نهجاً أكثر مرونة، وحثوا النظام والمحتجين على حد سواء على الامتناع عن العنف. وتفاجأ المسؤولون الأمريكيون بشكل خاص عندما حذّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون واشنطن وحلفاءها في الشرق الأوسط بعدم اتخاذ موقف متشدّد تجاه طهران بعد أيام من اندلاع الاحتجاجات. وفي 3 كانون الثاني/يناير قال للصحفيين: إن “النهج الرسمي الذي تبنّته الولايات المتحدة وإسرائيل والمملكة العربية السعودية، حلفاؤنا في كثير من النواحي، كاد أن يكون نهجاً يقودنا لحرب“. وفي غضون وقت قريب بعد ذلك، خلال اجتماع مجلس الأمن الدولي حول الاحتجاجات والذي عُقد في 5 كانون الثاني/يناير، تخلّت فرنسا وألمانيا وبريطانيا عن خط واشنطن المتشدّد بشأن إيران، وبدلاً من ذلك قامت باستخدام المحفل للتعبير عن التزامها بالاتفاق النووي.
المواجهة حول العقوبات
تشكّل مسألة فرض العقوبات (أو في بعض الحالات إعادة تفعيلها) على طهران في ضوء حملة القمع التي شنتها ضد المتظاهرين، مجالاً مباشراً للخلاف المحتمل بين الولايات المتحدة وأوروبا. وقد تم رفع معظم العقوبات في أوائل عام 2016، ولكن، هناك تفسيرات مختلفة بين القوى العالمية التي يمكن أن تستهدف الكيانات الإيرانية في أي حملة ضغط مالي جديدة. ويرى الكثير من كبار المسؤولين الأمريكيين ضرورة استهداف جميع الأفراد والمنظمات الإيرانية إذا كانوا يدعمون انتهاكات حقوق الانسان أو الإرهاب، حتى وإن تمّ استبعادهم من قوائم العقوبات السابقة كجزء من الاتفاق النووي. ومع ذلك، ترى طهران والعديد من الحكومات الأوروبية أنّ إعادة فرض العقوبات على هذه الكيانات من شأنها أن تنتهك الاتفاق.
وفي هذا الإطار، تحدّث مسؤولون أمريكيون عن فرض جزاءات على وسائل الإعلام الإيرانية لدورها المزعوم في دعم حملة القمع التي يقوم بها النظام، فضلاً عن استهداف الكيانات التي يملكها «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني والمؤسسات الغنية بالأموال النقدية التي يسيطر عليها المرشد الأعلى. ولكن، قد يقوم الاتحاد الأوروبي بتعويق محاولات الولايات المتحدة لإعادة فرض عقوبات على مؤسسات مثل »اللجنة التنفيذية لأوامر الإمام الخميني« التي قامت وزارة المالية الأمريكية بفرض عقوبات عليها في عام 2013 بتهم الفساد والتملّص من العقوبات. إلّا أنّ هذه العقوبات رُفعت لاحقاً بموجب الاتفاق النووي.
روحاني مقابل النظام
تختلف وجهة نظر إدارة ترامب من الرئيس الإيراني حسن روحاني اختلافاً جوهرياً عن رأي معظم الحكومات الأوروبية. إذ يرى الاتحاد الأوروبي عموماً أنّ روحاني هو رئيس معتدل ويريد استخدام الاتفاق النووي والاستثمار الأجنبي كأدوات لتعزيز الحريات السياسية والانخراط مع الغرب. وفي المقابل، اتّهم كبار مستشاري ترامب إدارة أوباما بأنها خُدعت من قِبل مفاوضي روحاني، الذين يرونهم بأنهم لا يعدو أن يكونوا وجه ودي لنظام استبدادي. ويرى مساعدو ترامب أيضاً أنّ الاحتجاجات هي خير دليل على عدم قدرة روحاني على إصلاح الدولة الإيرانية، إذ ركّزت معظم المظاهرات على الإخفاقات الاقتصادية للحكومة. وفي هذا السياق، قال مسؤول في البيت الأبيض: “لا تستطيع الحكومة أن تنفّذ ما يريد المتظاهرون أن تقوم به.“
ومن المقرر أن يزور وزير خارجية إيران، محمد جواد ظريف، بروكسل خلال الأيام المقبلة لإجراء محادثات مع موغيريني ومع نظرائه من بريطانيا والمانيا وفرنسا. ومن المتوقع أن يكون دفاعه بأن جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية سوف يسمح لروحاني بتلبية مطالب المتظاهرين.
وفي ظل هذه الخلفية، يراقب المسؤولون الأوروبيون عن كثب قرارات الرئيس ترامب التي سيتخذها قريباً بشأن إعفاءات العقوبات. وإذا أراد المسؤولون الأمريكيون الحفاظ على الاتفاق النووي سليماً، آملين في إصلاحه بمرور الوقت، سيتعيّن عليهم الحفاظ على التنازلات التي نصّتها إدارة أوباما في عام 2016، على الأقل في الوقت الراهن. وفي هذا الصدد، يشير كبار مساعدي الرئيس إلى أنهم لا يزالون غير متيقنين من المسار الذي سيتخذه ترامب، على الرغم من اعتراف مسؤول بارز في البيت الابيض بأنّ الاحتجاجات “سيكون لها تأثير” على قرارات الرئيس المتعلقة بالإعفاءات.
وحتى لو قام الرئيس ترامب بتمديد مهلة الإعفاءات، يتوقع دبلوماسيون أمريكيون وقوع نزاع مع أوروبا حول مستقبل العلاقات مع طهران. فبالإضافة إلى الرغبة في معاقبة النظام على قمع المتظاهرين، أشار البيت الأبيض إلى أنّه قد لا يسمح لـ “بوينج” و”إيرباص” بالمضي قدماً فى مبيعات الطائرات المخطط لها إلى ايران. وردّاً على ذلك، قال مسؤولون في الاتحاد الأوروبي أنّ هذا الأمر سيكلّف الشركات الأوروبية مليارات الدولارات وسيعرّض الاتفاق النووي لخطر أكبر، ممّا سيزيد من تفاقم المخاطر المترتبة عن قرار الرئيس ترامب.
جاي سالمون
معهد واشنطن