في كانون الثاني (يناير) من هذا العام، تمر مئة عام على مولد جمال عبدالناصر، وخمسة وخمسون عاماً على انطلاق حركة «الضباط الأحرار» التي تحوّلت إلى ثورة بالنظر إلى التفاف الشعب حولها، والقرارات الثورية التي اتخذتها في شهورها الأولى: الإصلاح الزراعي، التعليم المجاني حتى الجامعة، وغيرها من التحولات التي أعادت رسم الخريطة الاجتماعية والطبقية، وبروز الطبقة الوسطى باعتبارها العمود الفقري للمجتمع المصري.
وعلى رغم تصدر اللواء محمد نجيب حـــركة «الضباط الأحرار» في البداية، فإنه كان واضحاً أن جمال عبدالناصر هو الشخصية الأبرز بين المجموعة، وأنه هو الذي خطّط ونظّم تلك الحركة، وحسم الأمر لزعامته في حوادث آذار (مارس) 1954، إذ أقصى محمد نجيب ووضعه تحت الإقامة الجبرية.
وهنا، لا بد للتاريخ من أن يتوقف ويتساءل عن مستقبل مصر، بل منطقتها، لو قدر لمحمد نجيب أن يستمر باعتقاداته في الديموقراطية والأحزاب السياسية، والتي جاء جمال عبدالناصر بعكسها تماماً. كان اعتقاد جمال عبدالناصر أن الديموقراطية الاجتماعية والاقتصادية تسبق الديموقراطية السياسية. لذلك، حُكمت مصر من خلال الحزب الواحد والصوت الواحد وتجميد الأحزاب، وهي السياسات التي كانت في النهاية وراء هزيمة 1967 التي كانت في الواقع هزيمة للنظام، وكشفت اختلالاته الداخلية، وهو ما اعترف به عبدالناصر بعد 1967، وحاول تصحيحه لكن الوقت لم يسعفه. وحين جاء أنور السادات كان حكمه نفياً لمقومات ثورة 1952 داخلياً وخارجياً.
وكان صعود جمال عبدالناصر على المستوى الإقليمي والدولي مع ترسخ زعامته بعد العدوان الثلاثي عام 1956، والذي كان من أهدافه إسقاط حكم عبدالناصر الذي خرج منتصراً سياسياً بفعل الدعم الذي لقيته مصر عربياً ودولياً. وهو الحدث الذي توافق مع تبنيه الدعوة إلى القومية العربية، ودعم حركات التحرر الوطني، وتأسيس حركة عدم الانحياز. وهو ما ارتبط بتحول جذري في السياسة الخارجية المصرية، من التوجه إلى الولايات المتحدة التي رفضت بناء السد العالي وتسليح الجيش، على خلفية رفض عبدالناصر الانضمام إلى حلف بغداد، إلى التعاون مع الاتحاد السوفياتي ومعسكره.
وهو التحول الذي أدى إلى صدام مع أميركا، بحيث اعتبر بعض المؤرخين أن حرب 1967 كانت بمثابة تصفية حسابات بين أميركا، وبالذات إدارة جونسون، وعبدالناصر.
فإذا كان عهد جمال عبدالناصر يرمز إلى شيء، فهو ما عبر عنه محمد حافظ إسماعيل، في كتاب «أمن مصر القومي في زمن التحديات»، إذ اعتبر أن تطلعاته وسياساته الإقليمية والدولية كانت أكبر من قدرات مصر وإمكاناتها.
أما الدرس الثاني فهو قضية الديموقراطية وسيطرة الرأي والصوت الواحد، وغياب المعارضة، وهو ما كان من الأسباب الأساسية وراء هزيمة 1967، غير أنـــه في هذا السياق، يجب أن نتذكر أن جمال عبدالناصر، بوحي من الشعب المصري، رفض الهزيمة، وبدأ إعادة بناء الجيش من الصفر والشروع في حرب الاستنزاف التي كانت القاعدة التي تطورت إلى حرب 1973.
وفي تقدير المؤرخ البريطاني فاتيكيوتس، فإن عهد جمال عبدالناصر يجب أن يُرى في سياق عصره الذي كان زمــــن التحرر من الاستعمار والتحرر الوطني. وقــــد لخــص الشاعر محمد مهدي الجواهري شخصية جمال عبدالناصر وعهده بأنه كان «عظيم المجد، عظيم الأخطاء».
السيد أمين شلبي
صحيفة الحياة اللندنية