كانت روسيا وإيران (فارس) أكبر عدوتين للإمبراطورية العثمانية. وبينما انهارت الإمبراطورية الروسية في العام 1917، والإمبراطورية العثمانية في العام 1922، والإيرانية في العام 1979، تستمر الدول الحديثة التي خلفتها، الاتحاد الفدرالي الروسي وجمهورية تركيا وجمهورية إيران الإسلامية، في أن تكون قوى يورو-آسيوية ضخمة يستمر نفوذها في الازدياد فقط.
وليس هذا مدهشاً أو مفاجئاً في حد ذاته، لكن المفاجئ أن هذه القوى اليورو-آسيوية الكبرى الثلاث تستمر في التوسع من حيث النفوذ الإقليمي، وإنما ليس على حساب بعضها بعضا.
يواصل التقارب بين تركيا مع روسيا في الهيمنة على عناوين الأخبار، ليس أقله لأن الإسقاط الدرامي للمقاتلة الروسية من جانب تركيا في أواخر العام 2015 أعاد إلى الأذهان والعديد من الألسن مصطلح “الحرب التركية الروسية” لأول مرة منذ وقت مبكر من القرن العشرين.
مع ذلك، لم يضع الاستئناف اللاحق للعلاقات بين موسكو وأنقرة حداً لأي أفكار عن حرب روسية تركية وحسب، بل إن الجهود التي بذلت لحل الخلاف بين البلدين تحولت إلى شيء ذي معنى أبعد بكثير من مجرد الوفاق. ففي الوقت الراهن، تمر روسيا وتركيا في تجربة شراكة اقتصادية ودبلوماسية وصنع سلام متبرعمة -شراكة يسعى كلا البلدين إلى توسيعها أكثر وبالسرعة الممكنة.
لا يعني هذا القول إن تركيا وروسيا أصبحتا حليفتين. فما تزال هناك مناطق عدم اتفاق واضحة بينهما، لكنها ليست ذات بال. ويكمن اقتصاد تركيا المستقبلي في الشرق، وتعد روسيا بالنسبة لأنقرة شريكاً اقتصادياً لا يمكن الاستغناء عنه بالإضافة إلى كونها -حرفياً- جسراً مجازياً إلى الصين. وبهذا المفهوم، يجب ملاحظة تبني تركيا الحماسي لطريق الحزام الواحد الصيني باعتبار أنه عامل مهم في جلب مزيد من التقارب بين موسكو وأنقرة. والنتيجة أنه على الرغم من التطورات التي حدثت في العام 2015، فإن روسيا وتركيا تتمتعان حالياً بأفضل العلاقات بينهما منذ أصبحت جمهورية أتاتورك واحدة من أولى ثلاث دول تطور علاقات رسمية مع الاتحاد السوفياتي الشاب (الدولتان الأخريان كانتا إيران وأفغانستان).
وفي الوقت نفسه، نمت علاقات تركيا مع إيران في حقول التعاون الاقتصادي والأمني والدبلومسي -والآن الأيديولوجي- طوال هذه الفترة، على الرغم من أنها بحثت على نطاق أقل اتساعاً.
منذ الثورة الإسلامية في العام 1979، مرت العلاقات بين تركيا وإيران بفترة من التقلبات السريعة التي تفاوتت بين التسامح البراغماتي والتعاون المحدود وبين العداوة المفتوحة -على الرغم من أن هذه العداوة لم تفض من الناحية الواقعية إلى تفجر نزاع عسكري بينهما. واليوم، من النزاهة القول إن إيران وتركيا تمران بأفضل علاقات ثنائية تشهدانها منذ العام 1979.
بينما يشار غالباً إلى عملية السلام في أستانة وقبول تركيا التدرجي للحق المشروع للحكومة السورية في البقاء في الحكم على أنهما عنصران رئيسيان ساعدا العلاقات الثنائية بين إيران وتركيا، فإن الحقيقة هي أن كلا البلدين يريان احتمالاً أكثر اتساعاً للتوصل إلى شراكة تتسامى على النزاع السوري وعملية السلام المقترنة به.
تكررت زيارات الرئيس التركي أردوغان لإيران على نحو منتظم بينما يزداد بوتيرة سريعة حجم التجارة البينية بين تركيا وإيران. وبالإضافة إلى ذلك، تعهد البلدان بالبدء في التعامل بالعملتين القوميتين، وهو مما يمكن إيران من التغلب على مشكلة المؤسسات المقومة بالدولار والتي فرضت واشنطن قيوداً عليها، بينما يتم أيضاً السماح لتركيا بتأكيد استقلالها المالي عن شركائها الغربيين، كجزء من تحرك أوسع لما هي على نحو شبه مؤكد شبكة تجارة طريق الحزام الواحد.
على المستوى البراغماتي، يبدو البلدان عاكفين على التعاون في مبادرات الطاقة المتبادلة المتضمنة في “خط الأنابيب الفارسي” المقترح. ومن بين الأطراف المتوقعة لهذا المشروع، فإن تركيا وإيران هما الدولتان الوحيدتان من خارج الاتحاد الأوروبي. وهذا يعني أن إيران وتركيا تمثلان الجناح الشرقي لمشروع يربط الغاز اليوروآسيوي بالأرض الأم الأوروبية.
مع ذلك، كان أهم تطور شهده هذا العام فيما يتصل بتعزيز وتقوية شراكة دائمة بين أنقرة وطهران قد حدث في شهر آب (أغسطس) الماضي.
ففي يوم 16 آب (أغسطس)، أصبح رئيس الأركان الإيراني جنرال محمد باقري أعلى مسؤول عسكري إيراني يزور تركيا منذ ما قبل الثورة الإسلامية. وخلال الاجتماع الذي عقد هناك، تعهد كلا البلدين بالتعاون أكثر في قضايا الأمن الإقليمي، إضافة إلى تأكيدهما الالتزامات القائمة بالتعاون ضد تهديدات المجموعات الإرهابية الإقليمية والدولية.
كان التوقيت مهماً بشكل خاص، لأنه عندما أعلن أكراد العراق في أيلول (سبتمبر) الماضي الاستقلال من جانب واحد، عملت كل من إيران وتركيا على حد سواء على عزل ما كان يمكن أن تكون دويلة غير شرعية في شمالي العراق. وعلى الرغم من أن الأحزاب الكردية البارزة في سورية والعراق ليست متحالفة تقليدياً، فإن تهديد النزاع بالقومية الإثنية الكردية في البلدين العربيين دفع كلاً من إيران وتركيا إلى التعاون ضد التهديد الكردي الذي يصبح إقليمياً شاملاً بازدياد.
وقد رحبت طهران بإقدام تركيا على بناء سياج حدودي مع إيران كآلية من شأنها حرمان المتطرفين الأكراد من تزويد أبناء عرقهم في الدولتين.
بينما تنحدر المنطقة العراقية الكردية إلى أتون فوضى عارمة سياسياً في أعقاب ما كان سيكون تمرداً حسمته بقوة القوات العراقية، بدعم تكتيكي تركي وإيراني، سوف تضاعف إيران وتركيا، إذا ثمة شيء، دعمهما للعراق، في حال مست حاجة قوات بغداد إلى وضع حد لأعمال الشغب التي يقوم بها الأكراد العراقيون الذين انقلبوا على “قادتهم” وفصائلهم السياسية الخاصين.
وحتى قبل التفجر الوشيك للمشاكل الكردية على الحدود بين إيران وتركيا، وجد كلا البلدين نفسيهما على الجانب نفسه من الصراع بين قطر ودول مجلس التعاون الخليجي، بحيث تحسنت بذلك منطقة أخرى تنظر فيها كل دولة عينا بعين إلى موضوع مشتعل في العلاقات الدبلوماسية الشرق أوسطية.
وفيما يتعلق بالأيديولوجية وحرب القلوب والعقول الأوسع، أخذت إيران وتركيا لنفسيهما قيادة واضحة في قضية فلسطين. وبينما تستمر سورية داعماً قوياً لفلسطين، وبسبب الحرب الأهلية السورية ضد الإرهابيين الأجانب، يأتي معظم الدعم الذي ينطوي على أصداء واسعة لفلسطين من خارج العالم العربي.
لأنها بلد ذو أغلبية سنية رئيسة، أخذت تركيا على عاتقها القيام بمبادرة واضحة، والتي تمثلت في توجيه انتقادات جسورة للنظام الصهيوني، وهو ما أحال أردوغان إلى ما يشبه البطل الديني بين السنة، وهو الشيء الذي يريده دائماً. وبالتزامن مع هذا التوجه، أمنت إيران مكانها في حركة المقاومة الإسلامية الشيعية، وهي التي تلقى الدعم من جانب العديد من غير الشيعة -وحتى من جانب غير المسلمين في بلدان مثل سورية ولبنان- والعراق ببعد أقل.
وبدلاً من التصرف كخصمين، يتنافسان أي البلدين يشكل داعماً أقوى لفلسطين (بعبارات موضوعية لن تكون هناك منافسة، نظراً لأن إيران لا تعترف بشرعية “إسرائيل” كدولة بينما ما تزال تركيا تعرف بإسرائيل كدولة من الناحية التقنية)، يبدو كل بلد قانعاً ومتشجعاً ظاهرياً بوجود جبهة موحدة قوية حول فلسطين، والتي تطورت بوضوح في أعقاب إعلان دونالد ترامب اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل.
وكان الرئيس الإيراني حسن روحاني قد شارك في القمة الإسلامية الطارئة في إسطنبول، والتي دعا إليها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بينما تعهد البلدان بأن يكونا رأس الحربة في مشروع قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة بهدف إحباط قرار دونالد ترامب في أعين نصاب قانوني دولي أصيل. ومع أن تمرير مشروع القرار غير مضمون غالباً، فسوف يعزى الكثير من الفضل إلى تركيا وإيران في التعبئة لمشروع القرار.
مع ذلك، وفيما وراء نقاط الوحدة هذه، ثمة مناطق لعدم التوافق. فما تزال تركيا مستمرة في استضافة الصواريخ النووية الأميركية وصواريخ الناتو التي تعتبرها إيران، محقة، تهديداً مقصوداً لسيادتها. وبعد كل شيء، تظل تركيا في نهاية المطاف عضواً في حلف الناتو الذي يعد أكثر تحالف عسكري يناصب إيران العداء في عالم اليوم.
بذلك، ومع استمرار تركيا في توسيع مجالات تعاونها الأمني مع إيران، فإن حلف الناتو يشعر بالقلق بالمثل من أن تصبح تركيا مقربة جداً من “عدو” معلن. ولا يجب التقليل من قيمة حقيقة أن هذه المخاوف المتوازية ربما تجهض بعضها بعضاً. وبكلمات أخرى، قد يكون حلف الناتو أكثر انزعاجاً بسبب شراكة تركيا الأمنية مع إيران من انزعاج إيران من وجود الأسلحة الأميركية على التراب التركي، وهو ما تعتبره النخبة الحاكمة في أنقرة بازدياد سبباً للصداع.
على المستوى الأوسع، تشكل إيران وتركيا محور الأعضاء غير العرب للتكتل الشمالي الناجم من الدول الشرق أوسطية. ويتعاون كلا البلدين مع بعضهما بعضا ومع العراق. ومن خلال صيغة أستانة، تتعاون تركيا أيضاً مع حليف إيران السوري (ولو من خلال أسلوب الابتعاد بخطوة). ومن الواضح أن أنقرة وطهران تحتفظان بحلفاء في الجزء الشمالي من الشرق الأوسط، بينما ثمة بلدان في التكتل الجنوبي، بما فيها مصر والسعودية والبحرين ودولة الإمارات العربية المتحدة والأردن و”إسرائيل”، والتي تصبح علاقاتها بائسة بازدياد مع جانب الدول الرئيسية غير العربية في المنطقة.
بذلك تتشكل شراكة إيران وتركيا على أساس مزيج من الضرورة الاقتصادية والأمنية، بالإضافة إلى الأهداف المتماثلة في التجارة اليورو-آسيوية الشاملة ومبادرات الطاقة والتجارة التي ترتبط بازدياد مع بعضها بعضا في العلن بسبب قضية فلسطين، والقيادة الكلية الإسلامية التي يبدو البلدان متفقين على تقاسم دور تكاملي فيها.
ما لم و/أو حتى تغادر تركيا حلف الناتو، سوف لن تكون إيران وتركيا حليفتين رسميتين. ولكن في عصر حيث يوجد القليل من الحلفاء على أساس محصلة مجموعها صفر، تمثل تركيا وإيران شيئاً أكثر واقعية وأكثر معنى: إنهما شركاء جدد في شرق أوسط جديد وفي يورو-آسيا جديدة.
آدم غاري
صحيفة الغد