فوجئ الشعب الباكستاني عندما رفض برلمان بلاده، بالإجماع، طلب مجلس التعاون الخليجي معاونة جيش باكستان وقواتها الجوية وإمكاناتها البحرية، في العملية العسكرية الراهنة ضد الحوثيين، وفوجئ بذلك جزء كبير من العالم الإسلامي. وعلى الرغم من ادعاءٍ بالحياد، لا يدين القرار انقلاب الحوثيين على الرئاسة والحكومة في اليمن، واكتفى بتوصية الأطراف المتصارعة بوقف المواقف العدائية، مع تلميح إلى دعم الموقف السعودي، في حال انتهكت الوحدة الترابية لأراضي المملكة.
ويدل قرار باكستان على وجود مشكلة كبيرة، هي أن الشعبين، الباكستاني والعربي، لا يعرفان بعضهما جيداً، وأن الاختلاف بين الأوردو والعرب لا تعبر عنه الصور النمطية السائدة فقط، بل تتجاوزه إلى المشهد السياسي أيضاً، فالدول العربية لا تنظر إلى الهند باعتبارها دولة عدوانية في إقليم جنوب آسيا، كما ينظر الشعب الباكستاني لإسرائيل وعلاقتها ببلاد الشام. ويرى الباكستانيون العرب أغنياء، ويحبون الغرب أكثر من الدول المسلمة غير الناطقة بالعربية، وينظرون إلى باكستان تماماً مثل الهند، حيث الفقر واليد العاملة التي تقبل الوظائف الدنيا، والمدارس الباكستانية لا تعلم اللغة العربية، ولا تعطي دروساً، أو دورات، عن العالم العربي، ولا مجلس التعاون الخليجي علم شبابه أن هنالك صديقاً مسلماً يمتلك السلاح النووي.
ارتكزت حركة استقلال المسلمين، في الفترة الاستعمارية البريطانية هنا، على شعار واحد، أن باكستان، إبّان تأسيسها في 1947، أصبحت دولة مسلمة كبرى والأكثر كثافة سكانية. وأخذت على عاتقها إسناد تصفية الاستعمار من بلاد المسلمين في آسيا وأفريقيا، ووجدت الشعوب المكافحة، في المغرب والجزائر وليبيا وتونس والسودان ومالي، مثلاً، باكستان متحدثاً قوياً باسمها أمام جمعية الأمم المتحدة ومجلس الأمن. ولا تزال شوارع في بلدان عربية تحمل أسماء قادة باكستانيين في المغرب وتونس والجزائر، تعبيراً عن امتنانٍ على ذلك الدعم الحيوي. وبغضّ النظر عن العداء المصري والسوري تجاه إسلام أباد، ودفئهما مع دلهي، خاضت القوات الباكستانية ومقاتلاتها معارك إلى جانب الأشقاء العرب ضد إسرائيل، وحقوق أي فلسطيني يعيش ويدرس في باكستان متساوية، تقريباً، مع حقوق مواطنيها.
والحقيقة أن وراء قرار البرلمان الباكستاني رفض المشاركة في “عاصفة الصحراء” في اليمن قصة مريرة للغاية. فبعد وقت قصير من إطاحة ذي الفقار علي بوتو، بعد انتخابات مزورة، تدخلت القوات السوفييتية في أفغانستان سنة 1977، وتلتها ثورة دموية في إيران، وكانت الأحداث الثلاثة السبب في حدوث تغييرات كبرى. لم يكتف الجنرال ضياء الحق بالخروج عن المسار الديمقراطي في باكستان، بل شُنق رئيس الوزراء السابق، بوتو، في 14 أبريل/نيسان 1979، وقبل ذلك بأسابيع، سقطت إيران في قبضة رجال الدين الشيعة المتشددين، وأصبحت طهران، الصديقة لأميركا، عدو باكستان ذات الأغلبية السنية. وكان يُنظر إلى إسقاط بوتو وإعدامه إنهاءً لزعيم شيعي، وكانت زوجته، نصرت بوتو، مواطنة إيرانية حتى زواجها.
جلب قرار باكستان مساعدة الشباب الأفغاني ضد القوات السوفييتية الغازية دعماً من السعودية ودول الخليج ودول عربية أخرى، وكان الإيرانيون في حرب طويلة في باكستان، بينما كانوا يواجهون حرباً أخرى بقيادة صدام حسين من الجهة الغربية. واصطدم مشروع حلم آيات الله، الهادف إلى إيجاد جوار شيعي، بمواجهة سعودية، تمثلت بتقديم الدعم للمعاهد الدينية، بتمويلها في أفغانستان. ومع بداية الثمانينيات، عرفت المدارس الدينية الشيعية انتشاراً واسعاً، وغير مسبوق، في باكستان. وبمجرد خلع الشاه، تمكنت إيران من نسخ شبكة تجسس واسعة، في باكستان والعالم الإسلامي.
باستثناء سورية الأسد، ومصر حسني مبارك، ظل أصدقاء باكستان العرب مشغولين بمساعدة الحكومة المركزية ودعم اللاجئين وتمويل المقاتلين الأفغان. ولما يزيد على أربعة عقود، لم يعط القادة والدبلوماسيون العرب اهتماماً كبيراً لدور وسائل الإعلام والمثقفين والعلاقات العامة في باكستان، بينما ظل الإيرانيون يمدون أيديهم لكل الأحزاب السياسية والمجموعات العرقية والموظفين الحكوميين والمثقفين، لكسب متعاطفين، أو لأغراض استخباراتية، أو استقطاب جواسيس، وساهمت الطائفية والعداء لأميركا وتحويل الأموال وتهريبها في إضعاف التعاطف مع المد السني، بالإضافة إلى بروز قوة إيرانية سلبية. وكانت التسعينيات ساحة حرب بالنيابة بين الشيعة والمتطرفين السنة، وشهدت اغتيالات لعدة معارضين، ونسفت عدة تجمعات دينية بقنابل موقوتة.
ومباشرة بعد أحداث “11 سبتمبر”، انقلبت إسلام أباد على حركة طالبان، وتغيّر كلياً الخطاب الرسمي ضد المقاتلين الأفغان. كما ظلت مجموعة من بقايا اليساريين، ووسائل الإعلام الموالية لإيران، تصف المليشيات الإرهابية بأنها ممولة من السعودية. وبغياب أدنى اعتراف بالجميل، لم يذكّر أحد بالدعم المالي السخي والدعم السياسي من الدول العربية للبلد، منذ الستينيات، إبّان كان ذو الفقار علي بوتو وزيراً للخارجية، وهو من تعهد للعرب بحمايتهم من التهديد الخارجي (إسرائيل خصوصاً) إذا ما ساعدوا باكستان على الوصول إلى القدرة النووية. وقد دعم هذا الالتزامَ خلفاؤه، الجنرال ضياء الحق وبي نظير بوتو ونواز شريف وبرفيز مشرف، غير أن البرامج الحوارية وكتاب أعمدة الجرائد لم يستوعبوا كثيراً إطلاق التحالف السعودي هجمات جوية على الحوثيين في اليمن.
سي الباكستانيون ذلك التاريخ من التعاون المشترك والتعاطف الودي والأخوي. وإلى نحو سنة، لم تعين الرياض سفيراً لها في إسلام أباد، والقائم بالأعمال ظل غائباً في معظم الأحيان. أما القنوات الإيرانية فلم تكن نشيطة جداً فقط، بل لم يتوقف العلماء الشيعة عن الزيارة والالتقاء بالمتعاطفين والنواب من مختلف المشارب. وتقدر مصادر استخباراتية أن مائة ألف على الأقل من الشيعة الباكستانيين تلقوا تدريبات، في السنوات الأخيرة، للدفاع عن النفس ضد هجمات المتطرفين السنة.
ومقارنة مع المحسوبين على إيران، وأغلبهم ناشطون أغنياء وذوو مكانة مرموقة وحساسة في المجتمع، يضم الصف الآخر وجوهاً طالبانية فقيرة خريجة مدارس دينية. ونظراً لغياب أية دبلوماسية سعودية، أو عربية، ظل التأثير في وسائل الإعلام الباكستانية والتواصل مع النخب الأكاديمية والمجتمع المدني والأوساط السياسية محدوداً جداً. وجاء القرار التشريعي، أخيراً، نتيجة غياب إجراء قيادي من نواز شريف، بعدم اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، إضافة إلى قرار برلماني غير ناضج وغير محسوب وفاسد، ليس ملزماً دستوريا للحكومة.
وقد أصبح جلد السعودية والإمارات وأصدقاء باكستان العرب، أكثر من أي وقت مضى، ملهاة وهواية كتاب يستلهمون، في غالبيتهم، أفكارهم من إيران. وهنا، يحسن التنويه إلى أن صناعة الكراهية التي تهدف إلى نشر العداء ضد العرب لا يمكن وقفها، إلا إذا تم اعتبار القرار التشريعي بمثابة نداء لتستيقظ دول مجلس التعاون الخليجي، من أجل تصحيح مسارها.
ليس رئيس الوزراء، نواز شريف، تحت أي ضغط لاحترام القرار البرلماني وتطبيقه. ومن الواضح، أيضاً، أن الجيش الباكستاني لا يتفق، تماماً، مع البرلمان، بخصوص القرار، حيث في وسع شريف إرسال قوات بحرية وجوية وأرضية، من أجل سلامة السعودية ومصلحتها. وفي المقابل، تستطيع باكستان أن تطالب بمزيد من الدعم الحيوي لقضية كشمير، بالإضافة إلى إيجاد مزيد من فرص التجارة والعمل، لفائدة العمال الباكستانيين في دول الخليج.
وعلى الدول العربية أن تتبنى دبلوماسية استباقية وأكثر إيجابية، من دون إغفال الدبلوماسية العمومية باتجاه كل مكونات الشعب والحكومة الباكستانيين. وإضافة إلى تفاعل مكثف ومركز مع وسائل الإعلام الباكستانية الأساسية، يمكن للعواصم العربية أن تجني نتائج إيجابية كبيرة في استثمار وسائل التواصل الاجتماعي، من أجل دبلوماسية عمومية. والخبراء الباكستانيون بمنطقة الشرق الأوسط نادرون، ولا بد من سد هذه الفجوة في الفهم والتصور، عاجلاً. وعلى العرب أن يأخذوا زمام المبادرة، فإسلام أباد حليف فعلي لهم، وجزء من الشرق الأوسط، على دول الخليج بذل جهد لإدماجه بطريقة أفضل.
قريباً، ستفلت إيران من عقوبات الدول الغربية، فهدف الولايات المتحدة إعطاء إيران دور الريادة في الشرق الأوسط ضد السعودية. واليمن معركة، لكن الحروب الحقيقية لم تأت بعد. حان الوقت لاشتغال العرب وباكستان معاً.
العربي الجديد