لم يعد من الوارد الشك في أن “داعش” (تنظيم الدولة الإسلامية) يخوض اليوم حربا حقيقية لتشويه الدين الإسلامي وتفتيت الأمة العربية من الداخل، وأن الجرائم المتعاقبة التي يقترفها تشي بطبيعة هذا التنظيم الذي يحمل اسما إسلاميا ظاهرا، وصناعة غربية-إسرائيلية باطنا.
صناعة غربية
لا يخطئ كل ذي لب، أو حتى صاحب فطرة التقدير، في أن ما يصدر عن “داعش” من سلوكيات وممارسات إجرامية لا يمكن أن يمت إلى الدين الإسلامي وقيمه الرفيعة وتعاليمه السمحة وأخلاقه الرحيمة بصلة.
فقد بلغ إجرام “داعش” مبلغا فاق الوصف وتجاوز التوقعات، وتمادى في الاستخدام المنحرف والتوظيف السلبي للنصوص الدينية والجرأة على حرمة الدم الإنساني المكرم إلهيا، ما لا يمكن لأي مسلم -أيا كان فكره وقناعاته- إتيانه أو استسهال تنفيذه بأي حال من الأحوال.
كل ذلك يحيلنا إلى الإشارات الخطيرة التي بدرت عن أكثر من مسؤول أمني أميركي وإسرائيلي بشأن نشأة “داعش”، والجهات التي تولت تأسيسه ورعايته وتمويله حتى استوى على سوقه، والتي أكدت -قطعا ويقينا- مسؤولية المخابرات المركزية الأميركية (CIA) والمخابرات البريطانية (MI6) والموساد الإسرائيلي عن صناعة “داعش” وتوجيهه في المسارب والمسارات التي تخدم السياسة الغربية والإسرائيلية في المنطقة العربية، وعلى رأسها حماية إسرائيل، وتشويه الدين الإسلامي، وتفتيت الأمة وتمزيق الدول والشعوب العربية، وإعادتها عشرات السنين إلى الوراء.
وتعضد ذلك بعض الوثائق المسربة من وكالة الأمن القومي الأميركي التي تحدثت عن إقرار وتنفيذ خطة بريطانية قديمة تعرف بـ”عش الدبابير” لحماية إسرائيل، تقضي بإنشاء تنظيم شعاراته إسلامية يتكون من مجموعة من الأحكام المتطرفة التي ترفض أي فكر مغاير.
وبالمنطق السياسي والتحليلي المجرد ليس صعبا استكناه حقيقة “داعش” وطبيعة تبعيتها وتساوقها مع المخططات الغربية والإسرائيلية في المنطقة، إذ إن “داعش” لم يطلق رصاصة واحدة في وجه إسرائيل، ولا يدرج ضمن أجندتها العسكرية والحربية، حاليا ومستقبلا، أي فعل عسكري مبادر يمس الدولة العبرية أو مصالحها المنتشرة في مختلف دول العالم، ولم يضع المصالح الأميركية والغربية في بؤرة استهدافه طيلة المرحلة الماضية.
فالملاحظ أن الفعل العسكري لـ”داعش” ينحصر في توجيه الضربات إلى القوى والتيارات الإسلامية والوطنية والقومية غير المرتبطة بالأجندة الغربية، وإحباط أي عمل يصب في صالح الأمة وشعوبها، وإلحاق الأذى بالمواطنين العرب وبعض الأجانب، وهو ما بلغ ذروته باستسهال حالات الإعدام الميداني وأعمال الإحراق البشعة التي اشمأزت منها النفوس واقشعرت لها الأبدان في العديد من الدول العربية، مما يشير بجلاء إلى طبيعة الدور الوظيفي الذي يؤديه “داعش” في ضرب مقومات القوة في الأمة وتفتيت دولها ونسيجها السياسي والاجتماعي.
ولعل في تحليل أشرطة الفيديو التي وزعها التنظيم، والتي تظهر عمليات الحرق والإعدام المختلفة، ما يثير الكثير من الريبة والشكوك حول طبيعة التنظيم ومصداقيته، وهذا ما عبر عنه العديد من الخبراء التقنيين الذين تمكنوا بدقة ومهارة من تحليل الأشرطة الأخيرة التي أوضحت خضوع حوادث الحرق والإعدام المصورة لعمليات مونتاج عالية الدقة أخفت الأماكن والخلفيات الحقيقية وردود فعل الضحايا، فضلا عن الخلل البائن في الأحجام والمقاييس البشرية الواردة ضمن المقاطع المصورة، وطبيعة اللكنة الأجنبية الواضحة في لغة بعض العناصر التي ظهرت في هذه الأشرطة، ومستوى قدراتهم القتالية التي توحي بتلقيهم دورات تدريبية عالية لا يمكن توفرها إلا على يد أجهزة استخبارية متقدمة.
كل ذلك، يؤكد بجلاء حقيقة “داعش” وطبيعة المخطط الذي يضطلع بتنفيذه عربيا، وماهية القوى المتآمرة التي تقف وراءه.
تشويه الدين
من أعظم النتائج والخلاصات خطورة وأشدها إيلاما على النفس أن أعداء الأمة بشكل عام لم يفلحوا في إلحاق الأذى والتشويه بصورة الإسلام النقية السمحة على مدار القرون الماضية، بقدر ما أفلحت في ذلك طائفة معزولة ومدفوعة خارجيا من أبناء هذه الأمة التي نُكبت بطعن الداخل أكثر ما آلمها من سهام الخارج.
في حالتنا الراهنة أيقن أعداء الأمة، وخصوصا القوى المستكبرة المهيمنة على القرار والسياسة الدولية، أن جهودها المضنية لصد المسلمين عن دينهم الصحيح وإشاعة روح الميوعة في الأمة وحملها على الانبهار بالحضارة الغربية والاستسلام لقيمها ومفاهيمها لم تأتِ بالنتائج المرجوة، فتفتقت عقولهم الخبيثة عن أسلوب شيطاني لهدم قيم الأمة وضربها وتفتيتها من الداخل عبر صناعة جماعات تتدثر -زورا وبهتانا- بالزي الإسلامي وتحمل اسم الدين، وهي أبعد ما تكون عن الدين ودعوته الخالدة وقيمه السامية ومفاهيمه الرحيمة التي أنزلها الله تعالى رحمة وهداية للعالمين.
ويبدو لافتا أن محاولات التنصير المنتشرة في مختلف البقاع، ومحاولات تشويه الدين والإساءة لرسولنا العظيم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عبر الرسوم الكاريكاتورية الحاقدة، وغيرها من المحاولات القذرة، قد بان عجزها وخوارها عن تحقيق أهدافها، بل إنها جاءت بردود فعل عكسية استفزت المسلمين للدفاع عن دينهم القويم ورسولهم الكريم، في ذات الوقت الذي تمكنت فيه جماعة كـ”داعش” من الإساءة إلى الدين وتشويه القيم والمعتقدات الإسلامية بما عجز أعداء الأمة عن تحقيقه على مدار القرون الماضية.
وما يؤسف له أن الأعمال الإجرامية التي يرتكبها “داعش” صباح مساء قد تركت آثارا بالغة السلبية في نفوس كثير من المسلمين الذين تشكلت لديهم قناعات نفسية محبطة إزاء التنظيمات والتيارات الإسلامية التي ترفع الإسلام شعارا لها، وبلغت قناعات البعض منهم حد تشوه قيم ومبادئ ومعاني الدين في نفوسهم، مما يعني بلوغ حالة ارتكاس جديدة لدى قطاعات معتبرة لا يمكن التقليل من حجمها في أوساط الأمة وأبنائها الموحدين.
ولعل القول الفصل الذي يقطع بالإرادة الغاشمة التي يحملها “داعش”، والتي تضع من تشويه الدين هدفا أساسيا لها، أن كثيرا من الأفعال والممارسات جاءت بدون أي سبب أو مبرر يمكن الاتكاء إليه أو اتخاذه ذريعة لإتيان هذه الجرائم والموبقات، من قبيل قتل من يتم سؤاله أسئلة عن عدد الصلوات أو ركعات الصلوات ثم يخطئ في الإجابة، وذبح الأقباط المصريين في ليبيا دون أن تصدر عنهم أي مخالفة، وحادثة إحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، والكثير من الجرائم وحالات الانتقام والإحراق البشعة التي اقترفها “داعش” دون أي تغطية مسببَة هنا وهناك.
تفتيت الأمة
لا يحتاج المرء إلى كثير عناء كي يدرك أن تفسيخ وتفتيت الأمة وتقسيمها إلى دويلات طائفية يشكل هدفا مركزيا يستحث “داعش” لتحقيقه خلال المرحلة المقبلة.
وفي كل الأحوال فإن العقل المجرد لا يمكن أن يستوعب أصل وطبيعة نشأة “داعش” الملتبسة بالإبهام والغموض، وانتشاره الواسع المحفوف بالأسئلة الحساسة في دول عربية بذاتها، وحجم تسلحه وعتاده الكبير، والانتصارات الغريبة والمفاجئة التي يحققها على قوى وجيوش قائمة، في ظل أوقات ومفاصل زمنية حساسة، إلا في إطار مخطط غربي-إسرائيلي مفضوح لتفتيت الأمة من الداخل وتقسيمها إلى دويلات وطوائف، سياسيا وجغرافيا، بما ينزع كل مقومات القوة في الأمة ويُحيلها إلى أرض خَرِبة يتصارع فيها المتصارعون ويسهل تطويعها وإخضاعها وفرض الإرادة الخارجية عليها دون عناء.
وفي تعليق أحد المفكرين حول نشأة وتدخلات “داعش” الكثير من الأهمية، حين أوضح أن “داعش سوريا” ظهر عندما تقدم الجيش الحر وجبهة النصرة نحو دمشق لإنقاذ نظام بشار الأسد، وعندما بدأت ثورة القبائل السنية في العراق واقتربت من بغداد ظهر “داعش العراق” لإنقاذ دولة المالكي الطائفية الشيعية، وعندما ضاق الخناق على قوات خليفة حفتر في ليبيا ظهر “داعش ليبيا” لتحريض الدعوة إلى تحالف دولي لإنقاذ النظام الانقلابي هناك، وسيظهر “داعش اليمن” عندما يضيق الخناق على الانقلابيين الحوثيين.
وواقع الحال أن الأمة ودولها تعيش في ظل “داعش” حالة صعبة من الإرباك والاضطراب الجمعي، فيما أصاب التفتيت الفعلي بعض الدول مثل العراق وسوريا وليبيا، ولن يكون غريبا أن يمتد هذا السرطان الخبيث كي ينشب أظفاره ومخالبه في مزيد من الدول العربية التي تقع ضمن دائرة الاستهداف والرغبة في التفتيت والتقسيم غربيا.
وبلغة السياسة والواقع، فإن الأمة لم تواجه مثل هذا الخطر الداهم على مدار العقود الماضية، إذ مرت الأمة بمنعطفات قاسية وتحديات بالغة عبر موجات احتلالها ونهب خيراتها وثرواتها على يد الاستعمار الأجنبي، إلا أنها استطاعت مواجهتها والتغلب عليها في نهاية المطاف كونها تحديات خارجية يسهل حشد قوى الأمة للتصدي لها، لكن الأمة تواجه اليوم تحديات شرسة من الداخل بشكل لم يسبق له مثيل، بما يجعل القدرة على مواجهتها والتغلب عليها أمرا صعبا ودونه الكثير من العنت الشديد والأثمان الباهظة.
سبل العلاج
إن استدراك الموقف المتأزم عربيا لمواجهة السرطان الخبيث الذي يحمله “داعش” ويفتت أكباد الأمة يوما بعد يوم، يحتم العمل على ما يلي:
أولا: جهد رسمي (دول وحكومات)
ينبغي أن تبادر الدول العربية إلى جملة من الإجراءات والخطوات، سياسيا وماليا وميدانيا واجتماعيا وإعلاميا، وذلك على النحو التالي:
– إنهاء أي علاقة تربط أي دولة عربية بتنظيم “داعش”، وإيقاف أي دعم مالي يقدم لها.
– رفع الغطاء عن المخطط الأميركي الإسرائيلي البريطاني الذي عمل على صناعة “داعش” وتوظيفها لضرب الأمة عبر خطوات سياسية يتم التوافق عليها، بدءا بالتحذير اللفظي، مرورا بالشكوى الجادة لدى المحافل والمؤسسات الدولية، وصولا إلى فرض إجراءات عقابية رادعة، فرديا وجماعيا.
– عدم تقديم أي تسهيلات ميدانية من أي دولة عربية لعناصر التنظيم هنا وهناك.
– وقف أي مظهر من مظاهر التوظيف السلبي لأعمال وجرائم “داعش” على المستوى العربي الداخلي، ومبادرة الحكومات بخطوات لنزع الاحتقان وتعزيز الثقة والأمان والاستقرار بين مكونات شعوبها المختلفة.
ثانيا: جهد حركي شعبي (قوى وتنظيمات ومجتمع) ويتمثل في التالي:
– توجيه إدانة جماعية صريحة من لدن كل القوى والتنظيمات والمؤسسات والشخصيات الإسلامية والوطنية والمجتمعية لجرائم “داعش”، والدعوة للتصدي له ومنع المزيد من تغوله على الدماء.
– امتناع القوى العلمانية عن استغلال جرائم “داعش” لتصفية حساباتها مع القوى الإسلامية.
– تسيير فعاليات جماعية منظمة في مختلف الأقطار العربية للتنديد بجرائم “داعش” وفضح المخطط الغربي الإسرائيلي الكامن وراءه
بلورة وضخ جهد توعوي ذي بعد سياسي ثقافي للتحذير من “داعش” وجرائمه، وكشف عورة القوى المتآمرة التي تقف وراءه، والحيلولة دون خلط الأوراق بين “داعش” وغيره من القوى الإسلامية والقومية والوطنية.
ثالثا: جهد إعلامي
إذ ينبغي استفراغ الوسع من أجل تشكيل لجنة موحدة تمثل الفضائيات ووسائل الإعلام العربية المختلفة، بحيث تعمد إلى وضع رؤى ومحددات ذات علاقة بخطاب إعلامي دقيق وموحد تجاه ظاهرة “داعش” وأهدافها والقوى الكامنة وراءها.
وبالرغم من صعوبة هذا الطرح فإنه بالإمكان إحداث مقاربات إعلامية في هذا السياق، بما يدفع باتجاه إنضاج الخطاب الإعلامي العربي الغارق في الإرباك والعشوائية تجاه “داعش” حتى اليوم.
رابعا: جهد ديني (مؤسساتي)
ويختص بمؤسسة الأزهر الشريف والاتحادات الإسلامية المحلية والإقليمية والدولية التي يفترض أن تضطلع بدور مركز في مواجهة “داعش” والمتآمرين عليها، فلا يعقل أن يبقى الجهد الصادر عن هذه المؤسسات الدينية متناثرا ولا يدور في فلك خطة موضوعة، وهو ما يضاعف من حجم المسؤولية المفروضة على هذه المؤسسات، وطبيعة الدور الذي ينبغي أن تجسده عبر تعبئة الأمة ونشر الفكر الصحيح والوعي الديني الكامل في مختلف المحافل والميادين، الدينية والإعلامية والاجتماعية.
وأخيرا.. ما كان لتنظيم مدفوع خارجيا مثل “داعش” أن يفعل فعله الشنيع في الأمة ودولها لولا تفرقها وسيادة لغة الخلاف والاحتراب فيما بينها، وما لم تؤب الأمة ودولها إلى كلمة سواء تُعلي من شأن الوحدة والتفاهم والوفاق في ما بينها بين يدي المرحلة القادمة، فإن هذا السرطان سيبقى متغلغلا في تفاصيل حياتنا إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
مؤمن بسيسو
الجزيرة نت