تحولات الدولة السورية بين ظاهرها القومي وباطنها الطائفي

تحولات الدولة السورية بين ظاهرها القومي وباطنها الطائفي

580

يستغرب البعض من عدم انهيار الدولة في سوريا، واحتفاظها بنواتها الصلبة، رغم سقوط المبرر الأخلاقي والسياسي لنظامها، خصوصا منذ بداية الحراك الشعبي قبل أربعة أعوام، وما تلا ذلك من مصاعب حقيقية وظروف استثنائية لهذه الدولة، عبر دخولها في حرب مفتوحة ومعلنة على قطاعات عريضة من المجتمع السوري.

وإذ يرتبط الجواب في أحد جوانبه بالدعم الحيوي اللامحدود من قبل إيران وروسيا وحلفائهما في المنطقة، ووضوح أهدافها في منع سقوط النظام، وإمداده بكل أسباب البقاء، من مال وسلاح ونفط ومعلومات، فإن السبب الرئيسي ربما يعود إلى عوامل ذاتية، ترتبط بطبيعة البنى “العميقة” والمركبة، ذات الصبغة التسلطية داخل الدولة السورية، وانكفاء تلك البنى على بعضها، وبشكل عصبوي متحجر في وقت الأزمات، بحيث يطغى نزوعها العسكري والأمني على الواجهة “المدنية”، وتتغلب فيها الانتماءات البدائية بشكلها “الطائفي” ونمطها “الفاشي” على كل قيمة ورابطة “وطنية”، كما يحدث الآن.

والحقيقة أن هذه الطبيعة المركبة والمعقدة للبنى المحتكرة لكل مصادر القوة والثروة في المجتمع السوري، والتي سخرت نفسها لصالح النظام في ممارسة سلطة “فاعلة”، نتجت عن الاستثمار المستمر من قبل النظام في التناقض الجوهري بين التنازع “الطائفي” و”القومي” الذي جمع بقوة الاستبداد والفساد داخل بنية الدولة وأجهزتها.

“وفر التناقض الحيوي مرتكزات حيوية للنظام من أجل القيام بأدوار وظيفية مختلفة، فقد سهل الجانب “القومي/العروبي”، في البنية “الظاهرة” للدولة، تدخلاته في لبنان وفلسطين والعراق، مثلما وفر الجانب “الطائفي” في البنية “الباطنية” للدولة، دعم فئات مذهبية وطائفية في جواره الإقليمي”

فقد عمد هذا التناقض الحيوي، الذي لا يسمح بالتعبير عنه أو الإشارة إليه، والمتضمن في جوهره محاولة إخراج السياسة من المجتمع السوري وإغلاقه من الداخل، إلى توفير مرتكزات حيوية للنظام من أجل القيام بأدوار وظيفية مختلفة، وعلى مستويات متعددة، فقد سهل الجانب “القومي/العروبي”، في البنية “الظاهرة” للدولة، تدخلاته في لبنان وفلسطين والعراق، مثلما وفر الجانب “الطائفي” في البنية “الباطنية” للدولة، دعم فئات مذهبية وطائفية في جواره الإقليمي.

لكن السبب الأساس في زيادة مستوى الاستثمار في التناقض “الطائفي” و”القومي”، كان مرتبطا بمعادلة الحكم في الداخل السوري، فعلى العكس مما روج له النظام، من محاربته وإنكاره لوجود هذا التناقض في بنية دولته، ووصف كل ما يتعلق “بالطائفية” واستخداماتها “بالرجعي والمتخلف”، فقد شكل هذا التناقض -تاريخيا- القوة الدافعة داخل حزب “البعث”، عبر توفير الخطاب “القومي” للمكنون “الأقلوي الطائفي”، الطامح إلى السلطة والنفوذ، والظروف والآليات المناسبة للوصول إلى الحكم.

وتتمة لذات المشروع السلطوي القائم على التأبيد في السلطة والحكم، جرى التميز والاصطفاء بين القطاعات و”المؤسسات” ضمن الدولة الواحدة، بتفضيل البعد “الطائفي” على “القومي”، وإعطائه الدفع اللازم في تشكيل بنى عميقة ومتداخلة.

حدث ذلك وبدرجات مختلفة في كل “المؤسسات” وأجهزة الدولة، لكنه تبدى وبشكله الأوضح في “منظومة” الجيش، الذي يفترض أنه “عقائدي” و”قومي”، حيث نزع عنه “الأسد الأب” سبل القيام بالتدخل في السياسية، في الوقت الذي دعم فيها قطاعات عسكرية، غلب عليها الطابع الطائفي، كالحرس الجمهوري والقوات الخاصة.

الثابت أن التحولات البنيوية داخل الدولة كانت رهينة للصراعات في مراكز القوة والنفوذ داخل حزب “البعث” منذ تسلمه السلطة، والتي استقرت بيد “الطائفيين”، ذلك أن طبيعة الإجراءات الطائفية في الدولة “القومية” البعثية، كانت تزداد باطراد مع زيادة توجهها العسكري والاستبدادي، ومعها كان التشنج والتشدد يزدادان في الخطاب “العروبي”.

فمع “البعث”، كان النزوع السلطوي “الطائفي” بسماته العسكرية يفرض إيقاعه على الحياة السياسية في سوريا، ذلك النزوع المتضمن في جوهره استثمار التناقض بين “القومي” و”الطائفي” إلى حدود الانفصام السياسي والأيديولوجي، نتج عنه إنكار السوريين ذواتهم، وثقافاتهم المتنوعة، والقبول بلعبة الخضوع والذوبان في بنى الدولة “القومية” الشمولية في العلن، وتحول المكون “الطائفي” إلى الميدان الذي يستسيغ منه الأفراد وعيهم في السر والخفاء.

لكن التحول الأهم لم يقتصر على جمع الدولة في بنيتها التسلطية خصائص الاستبداد التقليدي، إنما بانصياعها “للتوليتارية” الحديثة ونموذجها “الستاليني”، مع اعتماد حافظ الأسد نظرية “الأب القائد” للدولة السورية، تلك النظرية المتوافقة في بنيتها مع بنية “الدول الدينية”، مما يستوجب بالضرورة وجود “مريدين” ورعايا، يقدمون فروض الطاعة والولاء، ويطمحون بطبيعة الحال إلى الفناء، وهو ما وفره البعد الطائفي الكامن في “دولة البعث”.

وعلى اعتبار أن الأجهزة الأمنية كانت إحدى أهم إنجازات البعد الطائفي وولاءاته، فقد أسندت إليها مهمة التحكم وإدارة التناقض “القومي” و”الطائفي”، داعمة بذلك البنى العصبوية “العميقة”، وموفرة طبيعة مركبة، تسهم في تجسس الكل على الكل.

“على اعتبار أن الأجهزة الأمنية كانت إحدى أهم إنجازات البعد الطائفي وولاءاته، فقد أسندت إليها مهمة التحكم وإدارة التناقض “القومي” و”الطائفي”، داعمة بذلك البنى العصبوية “العميقة”، وموفرة طبيعة مركبة، تسهم في تجسس الكل على الكل”

مثلما أسندت إدارة الاختلالات العميقة والمدروسة حول تعدد الرؤى المناهضة للدولة “السورية”، والاحتفاظ بتواترات تلك الرؤى إلى وقت الحاجة، فأغلبية “السنة” تجد فيها قوة ظالمة تهضم “حقهم الشرعي” في سلطة البلاد، وأغلبية الكرد السوريين تجد فيها الوجه القومي “العروبي” ويصفونها “بالشوفينية”، بينما تكون بالنسبة للفقراء قوة استلاب كبيرة، وللأغنياء قوة ابتزاز لا حدود لها.

اللافت أن تحولات الدولة وتنازعها بين مكنوناتها “الطائفية” و”القومية” لم يرتق إلى عامل عدم استقرار وارتباك إلا بعد الثورة، على العكس، كان لهذا التنازع الدور الكبير في دعم آليات السلطة المركبة ذات الوجوه المتعددة، عبر إعانتها على اختراق المجتمع ووجدانه السياسي، سواء بجعله ينزاح نحو انتماءات “ما قبل الوطنية” أي “الطائفية”، أو بهروبه إلى المستقبل وادعاء الدفاع عن “العروبة” والعرب.

الآن، وإذ تكشف الأزمة السورية عن مدى الزيف والادعاء الذي يكتنف الجانب القومي لدى النظام وممانعته، فقد بات واضحا مدى تغلب البعد الطائفي والمذهبي في بنية النظام والدولة على بعده “القومي”، مفسرة بذلك أسباب تلك الهشاشة الوطنية واختراقها من قبل جماعات طائفية، بعد أن تقدم الوعي “الطائفي” وبنيته القاصرة، والمسكونة بهاجس الموت والزوال، على كامل الخيارات “الوطنية”.

ما يمكن قوله، إن ما يجري في سوريا اليوم ليس إلا ساحة انكشاف لجذر السلطة والدولة التي ترسب في جنباتها نمط “ثقافي” وأيديولوجي متطرف، مرتبط بمفهوم دولة “سوريا الأسد”، التي حولت كل صراع سياسي في سوريا إلى شكل من أشكال صراع “الهويات”، ذلك الصراع الذي يحول دون تمكين السوريين من بناء مجتمع ونظام سياسي تكون فيه الدولة وبنيتها منسجمة مع وعيهم وتكويناتهم وثقافاتهم المختلفة، وليست كما يراد لها، أداة تمارس الاستلاب السياسي الشامل بحق السوريين ومستقبلهم.

عماد مفرح مصطفى

نقلا عن الجزيرة نت