د. سليم محمد الزعنون*
ملخص تنفيذي
ارتفعت حدة التهديدات والتحذيرات الإسرائيلية من إمكانية اندلاع مواجهة عسكرية سواء على الجبهة الجنوبية أو الشمالية، وبتحليل البيئة الخاصة بالأطراف الفاعلة والبيئة الدولية، فإن احتمالات اندلاع المواجهة في المدى المنظور متدنِ جداً.
على المستوى الإسرائيلي، لا تملك إسرائيل في الوقت الراهن نوايا بالمبادرة إلى الحرب، ولكن تهدف إلى منعها وليس إثارتها، فالتهديدات الإسرائيلية تهدف للضغط على الدول الكبرى وإيران للحد من نشاطاتها في سوريا ولبنان، ومنع حزب الله من تكرار تجربة حرب 2006.
على مستوى محور الشمال، احتمال مبادرة إيران وحزب الله إلى حرب مع إسرائيل في المدى المنظور (3- 5 شهور) غير واردة، لعدة اعتبارات ايران تعمل على تحقيق تسوية سياسية تمنحها الشرعية في سوريا، وتسعى للحفاظ على مكتسباتها السياسية التي تحققت خلال السنوات الأخير، وتنتظر قرار واشنطن في مايو القادم حول الاتفاق النووي، كما أن حزب الله على اعتاب انتخابات برلمانية أيضاً في مايو القادم، ويراعي متطليات الرأي العام الرافض للحرب.
على مستوى محور الجنوب، فإن إسرائيل مدركة جداً لخطورة الوضع القائم في غزة، وتخشى من أمرين: الأول سيطرة قوى متطرفة على الأوضاع، والثاني تحملها المسئولية وما يترتب عن من تكلفة عالية الثمن، لذلك تعمل جاهدة على تفكيك الأزمة الحالية حتى لا تتدحرج باتجاه المواجه، غير أن ذلك مرتبط بالانتقال من مفهوم “الردع” إلى مفهوم “التطويع”، وذلك مرتبط بالإطار السياسي الأوسع والانتقال بعملية السلام من مفهوم “الاحتواء” إلى مفهوم “الإرغام”.
على المستوى الدولي، حتى اللحظة لم تجد إسرائيل تجاوب من القوى الدولية الكبرى باستثناء الولايات المتحدة، تجاه صد طموح إيران في الشمال، وبالتالي لم تتمكن من توفير الغطاء الدولي لأي تحرك، ومن الممكن أن يحدث اختراق خلال الأشهر الخمسة القادمة في ايجاد صيغة للاتفاق النووي بحيث تتمتع إيران بمزايا الاتفاق مقابل لجم تحركاتها في سوريا ولبنان.
بيد أن عدم رغبة الأطراف في اندلاع المواجهة لا ينفي امكانية اندلاعها في أي وقت، وتؤشر التجربة السابقة إلى أن انجرار الأطراف للمواجهة رغم عدم رغبتهم فيها، فإي حدث عارض على واحدة من الجبهات قد يدفع باتجاه للمواجهة.
مقدمة.
ارتفعت حدة التحذيرات الإسرائيلية خلال الفترة الأخيرة من الخطر القائم على الجبهة الشمالية، نتيجة سعي إيران لتعزيز نفوذها في سوريا ولبنان، ونجاحها في تطوير منظومة توجيه جوي يمكن تركيبها على صواريخ بسيطة من إنتاجها وتحويلها إلى صواريخ دقيقة، والخوف من نقل التجربة الى حزب الله في لبنان، رافق ذلك تحرك إسرائيلي على المستوى الدولي لتشكّيل جبهة دولية تهدف إلى صد النفوذ الإيراني، سبق ذلك تنفيذ إسرائيل العديد من الضربات السرية والعلنية لأهداف تعود لحزب الله وإيران في سوريا، وتعتبر هذه العوامل بمثابة انذار لاندلاع المواجهة العسكرية على جبهة الشمال، كما أن تَعَثُر المصالحة، وقُدرة إسرائيل على تحييد الأصول الاستراتيجية “الانفاق”، والوضع الانساني والاقتصادي والمعيشي الصعب في قطاع غزة، جميعها عوامل تُنذر بالاتجاه نحو المواجهة العسكرية على جبهة الجنوب، بيدّ أن هذه العوامل على المحوريين لا تكفي وحدها لاستشراف وقوع المواجهة العسكرية بين الأطراف، ويتطلب ذلك تحليل عوامل البيئة الداخلية للأطراف الفاعلة في الصراع إلى جانب البيئة الدولية.
أولاً: إسرائيل.
تَحمل التصريحات الإسرائيلية حول حرب الشمال رسالة متعددة الأطراف إلى موسكو، واشنطن، برلين، باريس، بأن حرباً جديدة في المنطقة ستورط جميع الأطراف، في محاولة لاقناعهم بأن صد الطموح الإيراني في سوريا ولبنان يصب في مصلحتهم، وبالتالي دفعهم للتحرك للجم التمدد الإيراني.
في ذات السياق تُدرك إسرائيل الفرق بين سوريا ولبنان، في الحالة السورية نفذت إسرائيل هجمات متعددة بدون رد بحكم أن سوريا خلال السنوات الأخيرة أصبحت دولة مباحة بلا سيادة، أما في الحالة اللبنانية فإن أي ضربة سيعتبرها العالم مساس بسيادة الدولة اللبنانية، وسيستدعي رداً من حزب الله وتدخلاً محتملا من الروس.
كما أن الحالة البنانية وبخلاف الحالة السورية يتوفر فيها “ميزان ردع متبادل”، فحجم الدمار الذي خلفته حرب 2006 شَكّل رادع لحزب الله لتكرار التجربة، كما أن مخزون الصواريخ الهائل التي يمتلكها الحزب يردع إسرائيل من الانزلاق نحو الحرب، كونه قد يُلحق ضرر هائل في مؤسساتها الحيوية.
نظراً لذلك لا تملك إسرائيل في الوقت الراهن نوايا بالمبادرة إلى الحرب، ولكن تهدف إلى منع الحرب وليس إثارتها، فالتهديدات الإسرائيلية تهدف للضغط على الدول الكبرى وإيران للحد من نشاطاتها في سوريا ولبنان، ومنع حزب الله من تكرار تجربة حرب 2006.
ثانياً: محور الشمال.
احتمال المبادرة إلى حرب من جانب إيران أو حزب الله في المدى المنظور متدنِ جداً، ويرتبط ذلك بعدة اعتبارات لكلا الطرفين:
إيران، غير معنية في الوقت الراهن في خوض حرب مع إسرائيل، لا على حدود الجولان ولا على الحدود اللبنانية، لعدة اعتبارات: أولاً معنية بتسوية سياسية في سوريا، تعطي شرعية لاستمرار وجود قواتها البالغة 20 ألف مقاتل من المليشيات الشيعية، ثانياً المحافظة على مكتسباتها الاستراتيجية من نتائج الحرب السورية (الهلال الشيعي، والمكاسب الاقتصادية في اعادة الاعمار واستخراج النفط، وتطوير قطاع الطاقة)، ثالثاً انتظار قرار “ترامب” في مايو القادم حول الاتفاق النووي.
حزب الله، غير معني بالتورط في حرب في الوقت الراهن مع إسرائيل، لعدة اعتبارات: الأول حسن نصر الله كزعيم لقوة سياسية معني بمراعاة الرأي العام اللبناني والشيعي، الذي يعارض الحرب بعد أن سقط قرابة 2.000 من مقاتليه وقرابة 8.000 جريح في سوريا، الثاني لبنان على أعتباب انتخابات برلمانية في مايو 2018، ويتوقع حزب الله أن يتمتع فيها لأول مرة باحتمال تحقيق أغلبية شيعية في البرلمان.
ثالثاً: محور الجنوب.
في ظل تعثر المصالحة، ورفض السلطة وحماس تَحَمُل المسئولية الإدارية عن غزة، إلى جانب تدهور الوضع الانساني والاقتصادي والمعيشي، وهناك علاقة وثيقة بين انهيار الأوضاع والوضع الأمني واحتمالات التصعيد مع إسرائيل، وفقاً لهذا المنظور تتحرك إسرائيل باتجاه عمل يقود إلى تغيير حقيقي للواقع في محاولة لانقاذ الوضع في قطاع غزة ومنع انزلاق الأمور باتجاه المواجهة، انطلاقاً من سببين: الأول استمرار فقدان الأمل في صفوف مواطنين غزة يُسرع “مسار التطرف” الذي قد ينتهي بسيطرة جهة متطرفة على السلطة في القطاع، والثاني تخشى من أن تقع المسئولية على عاتقها وما يترتب عليها من تكلفة عالية، وفقاً لهذا المنظور يأتي التحرك الإسرائيلي الأخير:
فقد طرح مجموعة من كبار الضباط في يونيو 2017 وعلى رأسهم منسق المناطق الجنرال “يوآب مردخاي” تفعيل ما يشبه “خطة مارشال” لقطاع غزة، يتم في اطارها تحويل مبالغ مالية كبيرة من المجتمع الدولي لتحسين الاقتصاد وتحويل القطاع إلى بيئة نامية تشمل المناطق الصناعية المتقدمة والمناطق السياحية وقنوات النقل المبتكرة والبنية التحتية التي تلبي احتياجات السكان.
وفي تقديرات المؤسسة الأمنية الإسرائيلية الأسبوع الماضي لخطورة انهيار الأوضاع في غزة، قدمت توصيات لرئيس الحكومة “نتنياهو” بضخ المساعدات الإنسانية، بما في ذلك الغذاء والأدوية المباشرة إذا لم يتم ضخ مساعدات أجنبية للقطاع.
وخلال الاجتماع الطارئ للدول والجهات المانحة للفلسطينين في بروكسل بتاريخ 31 يناير الماضي قدمت خطة للتأهيل الإنساني في قطاع غزة تهدف إلى منع الانهيار، وعرض ممثل إسرائيل “تساحي هنغبي” خطة انقاذ تضمنت: إنشاء بنى تحتية في مجالات تحلية المياه والكهرباء والغاز وتطوير المنطقة الصناعية إيرز، بتكلفة تصل إلى مليار دولار تقريباً، وطلبت إسرائيل من المجتمع الدولي تمويل هذه الخطة.
بيدَّ أن عملية الانعاش ومنع الانهيار الكامل في غزة ما زالت وفقاً للمنظور الإسرائيلي مرتبطة بالانتقال من عملية “الردع” إلى عملية “التطويع” والقائمة على الدمج بين الترتيبات الأمنية والاقتصادية، من خلال الحد من التضخم العسكري لحماس وحل مشكلة المفقودين الإسرائيليين مقابل التنمية وتفكيك الأزمة الاقتصادية والانسانية.
في ذات السياق لا يمكن الفصل بين ذلك وما يجري في الساحة السياسية الأوسع، إن عملية السلام وصلت إلى منتهاها، ووفقاً للمنظور الأمريكي مرتبطة بالانتقال من مرحلة “الاحتواء” إلى مرحلة “الإرغام / الإكراه”، في محاولة الولايات المتحدة فرض تسوية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وإرغام الفلسطينين على قبولها باستخدام التهديد وتطبيق العقوبات، في هذا السياق يأتي التلويح بالبدائل، وامكانية التعامل مع غزة ككيان منفصل.
رابعاً: المستوى الدولي.
التحرك الإسرائيلي الخارجي خلال الفترة الأخيرة في محاولة لإقناع ترامب، بوتين وزعماء أوروبا للتعاون في خطوة لمنع ترسيخ الوجود الإيراني، حتى هذه اللحظة لا يوجد هناك تجاوب من هذه القوى باستثناء الولايات المتحدة، وبمعنى آخر لم تتمكن إسرائيل حتى هذه اللحظة من توفير شرعية دولية لأي عمل على جبهة الشمال.
بيدّ أنه من المحتمل أن تكون هناك فرصة لتغيير الأمور، ففي 12 مايو القادم ينتهي الإنذار الذي حدده ترامب لتعديل الاتفاق النووي مع إيران، بحيث تضغط الولايات المتحدة وروسيا وزعماء أوروبا لانجاز صفقة يتم بموجبها لجم إيران في سوريا ولبنان مقابل مواصلة تمتعها بثمار الاتفاق النووي، وفي حالة عدم الوصول إلى مثل هذه الصفقة سيرفض ترامب توقيع تمديد الاتفاق النووي، وستكون أزمة من نوع آخر.
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية