أوروبا بين الإرهاب المحلي والعابر للأوطان

أوروبا بين الإرهاب المحلي والعابر للأوطان

379481_img650x420_img650x420_crop

أحد الجوانب الأكثر خطورة للهجمات الأخيرة في دول أوروبية‮ (‬فرنسا، بلجيكا، الدنمارك‮)‬ أنها جاءت في سياق اجتماعي‮- ‬سياسي مشحون فيما يتعلق بمكان الإسلام،‮ ‬ووجود المسلمين في الديار الأوروبية،‮ ‬حتي في دول لا تقوم علي فصل واضح بين المقدس والمدنس‮.‬

‬وبالتالي، فالنقاش لا ينحصر بالضرورة في ثنائية العلمانية‮ – ‬الإسلام، بل يتعداه إلي مسألة العلاقة مع الآخر الديني‮ ‬المسلم‮ ‬الذي يعدّه البعض في أوروبا جزءا من النسيج الاجتماعي المحلي،‮ ‬فيما يعدّه البعض الآخر دخيلا علي المجتمعات الأوروبية وخطرا‮ (‬الأسلمة‮) ‬علي أمنها المجتمعي والهوياتي‮. ‬وقد اتضح هذا التعارض بقوة في ألمانيا التي شهدت مظاهرات مناوئة للإسلام والمسلمين،‮ ‬ومظاهرات مضادة لها تدافع عن التسامح‮. ‬لكن النقاش يبدو أكثر احتداما في فرنسا التي تعيش فيها أغلبية مسلمي أوروبا‮. ‬ومع توالي الهجمات، من المنتظر أن يحتدم النقاش أوروبيا حول ثنائيات متعددة‮: ‬متطلبات الأمن-مقتضيات الحرية،‮ ‬سلمية الأنا‮ (‬الأوروبي عموما‮)- ‬عنف الآخر‮ (‬الإسلامي تحديدا‮)‬،‮ ‬الإسلام/المسلمون‮ -‬العلمانية،‮ ‬الإرهاب العابر للأوطان‮- ‬الإرهاب المحلي،‮ (‬الضالعون في العمليات الإرهابية الأخيرة لم يأتوا من خارج أوروبا، وإنما خرجوا من رحم مجتمعاتها‮).‬

الجديد في هذا المشهد يكمن في ظهور إرهاب محلي في أوروبا ذي امتدادات عابرة للأوطان‮. ‬فقد تعودت أوروبا علي إرهاب مستورد يضرب أراضيها،‮ ‬لكن الوضع تغير في السنوات الأخيرة مع الإرهاب المحلي و”الجهاديين‮” ‬الأوروبيين‮. ‬فهي تتعرض الآن لإرهاب محلي الصنع والأداء، كما أضحت مصدرا للإرهابيين‮. ‬فالدنمارك مثلا من كبري دول الاتحاد تصديرا للمقاتلين،‮ ‬مقارنة بعدد سكان البلاد‮.‬

ثلاث معضلات أوروبية‮:‬

تواجه أوروبا ثلاث معضلات في‮ ‬غاية من التعقيد‮. ‬كيف يمكن إيقاف تنقل‮ “‬جهاديين‮” ‬أوروبيين إلي مسارح‮ “‬الجهاد‮” ‬في الشرق الأوسط‮ (‬شق أمني بالأساس)؟،‮ ‬كيف يمكن تفادي هجمات إرهابية جديدة علي التراب الأوروبي‮ (‬شق أمني)؟،‮ ‬كيف يمكن الحيلولة دون تحول شباب أوروبيين من مجرد منحرفين إلي إرهابيين‮ (‬شق تربوي اجتماعي‮)‬،‮ ‬والشق الأمني هو الغالب حتي الآن في التحركات الأوروبية بسبب التهديد المباشر الذي تشكله الجماعات الإرهابية‮. ‬وتتفق الدول الأوروبية عموما علي بعض الإجراءات الواجب العمل بها علي الصعيدين الوطني والأوروبي‮: ‬محاربة الدعاية الجهادية عبر الإنترنت،‮ ‬وتدعيم الوحدات المختصة في محاربة الجريمة عبر الإنترنت،‮ ‬والتنسيق الأوروبي بتدعيم المراقبة علي حدود شنجن الأوروبية لضمان مراقبة وتقفي تنقلات الأشخاص المشتبه بهم‮. ‬ستدخل الآلية الفرنسية لمراقبة المسافرين عبر الجو حيز التنفيذ في سبتمبر‮ ‬2015،‮ ‬ويرتقب أن تطبق آلية مماثلة علي المستوي الأوروبي،‮ ‬إن تراجع البرلمان الأوروبي عن رفضه لها،‮ ‬كما سنري‮.‬ إذ تريد دول أوروبية مراقبة حركة تنقل مواطنيها المشتبه بهم لدي مغادرتهم ودخولهم التراب الأوروبي،‮ ‬لأن العناصر الملتحقة بالتنظيمات‮ “‬الجهادية‮” ‬في الخارج‮ ‬غالبا ما تسافر من بلدان أوروبية،‮ ‬أخري خوفا من اعتقالها،‮ ‬إن هي سافرت مباشرة من بلدها‮. ‬وكما سنلاحظ،‮ ‬فرغم الحديث عن مسألة الاندماج ودور المنظومة التربوية في مواجهة الفكر المتطرف،‮ ‬والجنوح نحو العنف والإرهاب، فإن المقاربة الأمنية هي سيدة الموقف،‮ ‬بالنظر لحجم وصدي العمليات الأخيرة‮.‬

ويحتاج الأمر إلي التوقف عند ثلاثة أبعاد أساسية لمسألة الإرهاب ومحاربته أوروبيا‮: ‬التفاعل بين نماذج فرعية للإرهاب ووضع المسلمين،‮ ‬وإشكالية العلاقة بين الأنا والآخر في سياق يتحول فيه الآخر إلي جزء من الأنا،‮ ‬وأيضا المقاربة الأمنية بمضامينها ومحاذيرها‮.‬

نماذج متقاطعة للإرهاب‮:‬

تواجه أوروبا التفاعل بين ثلاثة نماذج للإرهاب، تتداخل في تداعياتها الأمنية،‮ ‬والسياسية‮ – ‬الاجتماعية‮. ‬يكمن النموذج الأول في اختطاف واحتجاز مواطنين أوروبيين، فرنسيين بالخصوص في منطقة الساحل،‮ ‬وحتي في المشرق‮ (‬سوريا واليمن‮)‬،‮ ‬بالنظر للتدخل والوجود العسكري الفرنسيين في هذه المنطقة‮. ‬لكن رغم ما يمثله من ضغط علي الحكومات،‮ ‬فإن اختطاف‮ – ‬احتجاز الرهائن مسألة يمكن إدارتها سياسيا،‮ ‬نظرا لبعد مكان الجريمة عن أوروبا‮.‬

أما النموذج الثاني،‮ ‬فيتمثل في التحاق أوروبيين من أصول عربية-إسلامية،‮ ‬أو من معتنقين للإسلام حديثا بالتنظيمات‮ “‬الجهادية‮” ‬في سوريا وخارجها،‮ ‬لاسيما داعش، وما لذلك من تهديد مباشر للأمن الأوربي‮: ‬مخاطر تنفيذ عائدين من مسارح‮ “‬الجهاد‮” ‬هجمات،‮ ‬كما حدث في بلجيكا وفرنسا‮. ‬ويطرح هذا‮ “‬الجهاد‮” ‬الأوروبي المصدر مشاكل عدة للدول الأوروبية،‮ ‬أولاها أن بعض هذه الدول التي تحارب الإرهاب شرقا‮ (‬الانخراط في الائتلاف الدولي ضد داعش‮)‬،‮ ‬وجنوبا‮ (‬في دول الساحل‮)‬،‮ “‬تصدر‮” ‬في الوقت نفسه مقاتلين يدعمون صفوف تنظيمات إرهابية تحاربها قواتها المسلحة‮. ‬ثانيتها‮: ‬عودة بعضهم إلي الدول الأوروبية بما يهدد أمنها،‮ ‬خاصة أن هؤلاء تلقوا تدريبا عسكريا في مسارح‮ “‬الجهاد‮” ‬التي مروا بها، وبالتالي الهجمات التي قد ينفذونها ستكون محكمة‮ (‬من حيث الأداء والتنفيذ‮)‬،‮ ‬ومضرة للغاية من حيث الخسائر البشرية‮. ‬ثالثتها‮: ‬تخوف الدول الأوروبية من مشاركة هؤلاء وبفعالية‮ -‬بحكم تجربتهم‮- ‬في تجنيد شباب آخرين للقتال في الخارج،‮ ‬أو لتكوين خلايا‮ “‬جهادية‮” ‬مدربة لتنفيذ عمليات علي التراب الأوروبي‮. ‬رابعتها وأخيرا‮: ‬وجود هذه الظاهرة بحد ذاتها، أي تجنيد أوروبيين للقتال في صفوف تنظيمات إرهابية في الخارج، دلالة علي اختراق اجتماعي،‮ ‬وحتي أمني‮: ‬وجود خلايا تجنيدية تعمل في الخفاء،‮ ‬سواء عن بعد‮ (‬عبر الإنترنت،‮ ‬وشبكات التواصل الاجتماعي‮) ‬أو عبر اللقاء المباشر‮.‬

أما النموذج الثالث والأخير،‮ ‬فيكمن في ظهور الإرهاب المحلي، أي انخراط مواطنين أوروبيين، من أصول عربية‮ – ‬إسلامية،‮ ‬أو معتنقين حديثي العهد بالإسلام،‮ ‬في تنظيمات جهادية، وتنفيذ عمليات ضد بلدانهم‮. ‬ففي السابق،‮ ‬كانت العناصر الإرهابية تأتي بالأساس من خارج أوروبا‮ (‬إرهاب مستورد‮)‬،‮ ‬لكن ظاهرة الإرهاب المحلي استفحلت أخيرا، مما يجعل من الصعوبة بمكان محاربتها‮. ‬فالأجهزة تتعامل مع مواطنين أوروبيين،‮ ‬وفي إطار دولة القانون، ومن ثم فمن الصعب مراقبتهم،‮ ‬وتقفي تحركاتهم بشكل محكم‮. ‬لذا،‮ ‬من المتوقع أن توضع تشريعات جديدة لتوسيع صلاحيات الأجهزة الأمنية‮. ‬وأمام استفحال ظاهرة المقاتلين الأوروبيين في الخارج، فإن الأجهزة الأمنية تتحرك علي ثلاث جبهات لمحاولة التصدي لهذه الظاهرة واحتوائها‮: ‬مراقبة المشتبه بهم كإجراء وقائي لتجنب سفرهم إلي الخارج،‮ ‬ومحاولة تتبع تحركات المقاتلين الموجودين حاليا في مختلف بؤر التوتر في المشرق،‮ ‬وربما في الساحل،‮ ‬ومراقبة ورصد تحركات العائدين من مسارح‮ “‬الجهاد‮” ‬محاولة لمنعهم من تنفيذ عمليات إرهابية علي التراب الأوروبي‮.‬

تمخض عن التفاعل بين هذه النماذج الفرعية الثلاثة للإرهاب ظاهرة جديدة،‮ ‬هي‮: ‬الإرهاب الفردي المعزول‮. ‬جرت العادة علي أن تكون الأعمال الإرهابية نتيجة انتماء أفراد إلي خلية أو تنظيم معين يجندهم ويغذيهم بالفكر الجهادي،‮ ‬ويزودهم بالدعم الضروري لتنفيذ عمليات خطط لها التنظيم،‮ ‬بعيدا عن التراب الأوروبي،‮ ‬لكن ينفذها بوساطة موفدين أو محليين‮. ‬وهذا النوع من الإرهاب تعودت أجهزة الشرطة والمخابرات علي التعامل معه لإمكانية تحديد مسئولية وهوية الضالعين في العمليات بفضل‮ “‬هرمية‮” ‬الخلية،‮ ‬وتخصص كل واحد من أفرادها‮ (‬تخطيط،‮ ‬دعم لوجيستي، تنفيذ‮…). ‬إلا أن نمط العمل عرف تطورا في الآونة الأخيرة من حيث الأداء والنوعية،‮ ‬كما يتضح من عمليات بلجيكا،‮ ‬قبل وبعد الاعتداءات الأخيرة في فرنسا‮ (‬قبل عملية باريس‮) ‬والدنمارك‮: ‬قيام أفراد بعمليات،‮ ‬دون أن يكون وراءهم تنظيم محدد يدعمهم، بمعني أن التوافق‮ – ‬الاقتناع الأيديولوجي، بمنطق تنظيم ما ينشط علي آلاف الأميال من أوروبا، يكفي لتنفيذ عمليات إرهابية‮.‬

المسلمون بين المطرقة والسندان‮:‬

هناك رافدان يغذيان معاداة المسلمين والعرب في أوروبا‮. ‬يتمثل الرافد الأول في أيديولوجية اليمين المتطرف التي كانت من فعل أقلية،‮ ‬لكنها انتشرت خلال العقدين الأخيرين في أوساط سياسية واجتماعية حديثة العهد بالتوجهات المتطرفة المعادية للإسلام، وفي تخوف من الإسلام،‮ ‬خاصة مع ولوجه الفضاء العام في العقود الأخيرة‮. ‬أما الرافد الأخير،‮ ‬فيكمن في أيديولوجية وسلوك الجماعات الإسلامية المغالية من جهة،‮ ‬والإرهابية من جهة أخري،‮ ‬والتي تغذي هذا الجو المشحون بأقوالها وسلوكاتها،‮ ‬وفي حال الجماعات الإرهابية بأعمالها الإجرامية،‮ ‬إسهاما بدورها في انخفاض سقف التسامح في المجتمعات الأوروبية‮. ‬هكذا،‮ ‬أصبحت الكراهية المتبادلة بين القطبين المتطرفين، الأوروبي والإسلامي، وقودا للإقصاء المتبادل، فضلا عن الامتدادات العابرة للأوطان،‮ ‬والتداعيات الناجمة عن أعمال الجماعات الإرهابية،‮ ‬وبعض سياسات القوي الكبري الغربية في أجزاء من العالم الإسلامي‮.‬

ومن ثم،‮ ‬يجد المسلمون أنفسهم بين مطرقة القوي اليمينية المتطرفة وغير المتطرفة المعادية لهم،‮ ‬وسندان الجماعات الإسلامية المتطرفة والإرهابية‮. ‬فالفئة الأولي لا تعدّهم في أحسن الأحوال أوروبيين بما فيه الكفاية،‮ ‬وفي أسوأ الأحوال جسما دخيلا علي النسيج الاجتماعي الأوروبي برافده الديني والحضاري اليهودي‮ – ‬المسيحي، بل وجماعة متطرفة تريد فرض معتقداتها الدينية،‮ ‬وتغيير هوية المجتمعات الأوروبية‮. ‬أما الفئة الأخيرة،‮ ‬فتري أنهم ليسوا مسلمين بما فيه الكفاية لتعرضهم لعوامل التعرية الحضارية،‮ ‬والدينية،‮ ‬والهوياتية بسبب اندماجهم في المجتمعات الأوروبية، منصبة نفسها وليا عليهم لإعادتهم إلي‮ “‬الطريق المستقيم‮”‬،‮ ‬ساعية لدق إسفين بينهم وبين المجتمعات الأوروبية التي هم جزء منها‮. ‬وهنا بيت القصيد بالنسبة للجماعات الإسلامية الإرهابية المعادية للغرب عموما‮.‬ فباستهدافها رموز حرية التعبير،‮ ‬أو نمط العيش الغربي باسم الإسلام، تمنح حجة قوية للمعادين للمسلمين‮. ‬وبالتالي،‮ ‬لم يعد اليمين المتطرف الأوروبي بحاجة إلي برامج دعائية وإقناعية لتعبئة الأوروبيين، فهناك من ينوب عنه وباسم الإسلام‮. ‬والحقيقة أن التطرفين الإسلامي والأوروبي‮ (‬اليمين المتطرف‮) ‬يغذي ويتغذي كل واحد منهما من خطاب وسلوك الآخر، ولهما مصلحة متبادلة في تغذية الاحتقان السياسي والاجتماعي‮. ‬والمشكلة أن اقتناعات اليمين المتطرف بدأت تلقي مزيدا من التقبل في أوساط واسعة من المجتمعات الأوروبية‮.‬

التحرك الأوروبي لمكافحة الإرهاب‮:‬

أقرت دول الاتحاد الأوروبي، منتصف فبراير‮ ‬2015،‮ ‬خطة أمنية لمحاربة الإرهاب،‮ ‬تضمنت عدة تدابير لم يفصح عنها كلها، لكنها تخص بالأساس العناصر الآتية‮: ‬تدعيم التعاون الاستخباراتي بين الدول الأوروبية،‮ ‬تبادل المعلومات مع دول الشرق الأوسط حول المقاتلين الأجانب،‮ ‬تدعيم مراقبة الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي،‮ ‬تعديل بعض قواعد شنجن،‮ ‬حتي تتسني المراقبة المنهجية لكل المسافرين القادمين أو المغادرين لتراب دول الاتحاد الأوروبي المنخرطة في نظام شنجن‮ (‬22‮ ‬من أصل‮ ‬28‮ ‬دولة عضو في الاتحاد الأوروبي،‮ ‬تضاف إليها أربع دول مشاركة‮ ‬غير أعضاء في الاتحاد،‮ ‬هي أيسلندا، والنرويج، وسويسرا، وليختنشتاين‮)‬،‮ ‬التفتيش العشوائي في الأراضي الأوروبية،‮ ‬التصدي للمخاطر الناجمة عن عودة المقاتلين الأوروبيين من مسارح‮ “‬الجهاد‮” ‬في الخارج، مراقبة هؤلاء ورصد تحركاتهم باستمرار،‮ ‬منح صلاحيات جديدة لأجهزة الأمن لمراقبة المشتبه بهم،‮ ‬والقيام بإجراءات استباقية ضد أشخاص يحتمل أن يقوموا بأعمال إرهابية،‮ ‬تشديد الخناق علي الشبكات‮ “‬الجهادية‮” ‬بمنح المزيد من الوسائل القانونية والمالية لأجهزة الشرطة والمخابرات،‮ ‬إنشاء سجل أوروبي لبيانات المسافرين جوا لتعقب تنقلات المشتبه بهم،‮ ‬ولتقفي حركة‮ “‬الجهاديين‮” ‬أو المشتبه بهم،‮ ‬ومراقبة مجمل حركة الخروج والدخول‮ (‬والعبور‮) ‬إلي التراب الأوروبي جوا‮. ‬ويعد هذا الإجراء تداركا أيضا للفراغ‮ ‬الموجود في نظام شنجن الأوروبي،‮ ‬وتشديد الرقابة علي الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي لمحاربة الفكر‮ “‬الجهادي‮”‬،‮ ‬وشبكات التجنيد عبر الإنترنت،‮ ‬لاسيما وسائل الاتصال المجاني،‮ ‬وشبكات التواصل الاجتماعي لتحديد وغلق المواقع‮ “‬الجهادية‮” (‬تكليف الشرطة الجنائية الأوروبية‮ -‬يوروبول‮- ‬بهذه المهمة‮)‬، بالتعاون مع كبريات شركات الإنترنت‮. ‬وتعمل الدول الأوروبية علي إقناع شركات الإنترنت الأمريكية العملاقة للتعاون معها للتصدي للشبكات والمضامين‮ “‬الجهادية‮” ‬في الإنترنت،‮ ‬ومواجهة الدعاية الإعلامية للتنظيمات‮ “‬الجهادية‮” ‬بدعاية رسمية لتجنب تجنيد شباب أوروبيين،‮ ‬وتجفيف مصادر تمويل الإرهاب‮.‬

وفضلا عن هذه الخطة،‮ ‬تؤكد الدول الأوروبية مسائل تراها أساسية‮: ‬ضرورة التمييز بين المسلمين والإرهابيين،‮ ‬ورفض أي اختزال لمحاربة الإرهاب في صراع بين الإسلام والغرب،‮ ‬ومطالبة ممثلي المسلمين بالتنديد بالإرهاب وإدانته،‮ ‬والعمل علي توعية المسلمين في الديار الأوروبية ضد مخاطر الإرهاب،‮ ‬والتعاون مع الدول العربية الإسلامية،‮ ‬ليس فقط في مجال الاستخبارات وتقاسم المعلومات،‮ ‬بل وأيضا في مجال الدعاية بتعبئة الإسلام الرسمي للرد علي دعاية التنظيمات‮ “‬الجهادية‮”.‬

جدلية الأمن والحرية‮:‬

سمحت فرنسا،‮ ‬منذ‮ ‬2006،‮ ‬تحت شروط معينة، للشرطة وللجمارك بالحصول علي بيانات شخصية للمسافرين من شركات الطيران المدني في إطار ما يعرف بقاعدة بيانات المسافرين جوا، لدي حجز وشراء تذكرة السفر لكل مغادر لفرنسا،‮ ‬أو قادم إليها‮. ‬وتسهر اللجنة الوطنية للإعلام الآلي والحريات علي احترام قاعدة البيانات هذه مع بعض الضمانات، لاسيما فيما يتعلق بالحياة الشخصية‮. ‬فمثلا،‮ ‬من هذه البيانات‮: ‬جمع المعلومات التي تعدّ‮ ‬حساسة وممنوعة،‮ ‬مثل الانتماء الديني أو العرقي للمسافر، أو حتي معطيات حول طبيعة الوجبة الغذائية‮ (‬حلال مثلا‮) ‬التي يطلبها المسافر،‮ ‬ويحتفظ بهذه المعطيات لمدة خمس سنوات‮. ‬ويتم حجبها بعد سنتين من جمعها‮. ‬وبعد هجمات باريس،‮ ‬في يناير الماضي،‮ ‬تقرر إنشاء قاعدة بيانات مركزية في سبتمبر‮ ‬2015‮ (‬تحويل المنظومة المعلوماتية القائمة إلي منظومة متكاملة‮) ‬لتسهيل جمع ومعالجة المعطيات التي يحتفظ بها‮ (‬يتم تخزينها في الحاسوب المركزي‮) ‬لمدة أقصاها خمس سنوات‮. ‬لا تعني قاعدة البيانات الفرنسية إلا بالرحلات المغادرة أو القادمة إلي فرنسا‮. ‬وبما أن الاتحاد الأوروبي يقوم علي حرية تنقل الأشخاص، فإن العمل بقاعدة بيانات وطنية لن يجدي نفعا،‮ ‬لأنه بإمكان أي شخص أن يغادر التراب الأوروبي،‮ ‬أو أن يصل إليه من المطار الذي يختاره‮. ‬فالفرنسي الذي يغادر التراب الأوروبي من مطار مدريد،‮ ‬بعد أن وصل إليه علي متن سيارة من إحدي المدن الفرنسية باتجاه اسطنبول مثلا،‮ ‬لا يخضع لمراقبة هذا النظام‮. ‬وفي ظل‮ ‬غياب آلية من هذا النوع علي المستوي الأوروبي، تكتفي الدول الأوروبية بالتعامل فيما بينها وفق برتوكولات متفق عليها علي الصعيد الثنائي‮. ‬ولتدارك الأمر،‮ ‬تطالب فرنسا بتعميم نظام المراقبة هذا علي المستوي الأوروبي‮. ‬وقد اتفق وزراء داخلية الاتحاد علي إنشاء قاعدة بيانات أوروبية تسمح بمراقبة المقاتلين الأوروبيين المتجهين نحو مسارح‮ “‬الجهاد‮”‬،‮ ‬والعائدين منها‮. ‬وبالفعل،‮ ‬كان موضوع تزويد أوروبا بآلية مركزية لجمع وتبادل البيانات الشخصية للمسافرين،‮ ‬دعما لإجراءات محاربة الإرهاب الوطنية،‮ ‬وللتنسيق والتعاون علي الصعيد الأوروبي، محل نقاش في الاجتماع الذي ضم وزراء الداخلية الأوروبيين في باريس مباشرة،‮ ‬عقب الهجمات التي عرفتها العاصمة الفرنسية‮.‬

هذه الآلية ليست أمرا جديدا بالنسبة للأوربيين، فقد سبق للمفوضية الأوروبية أن أعدت نصا قانونيا بهذا الخصوص في‮ ‬2011،‮ ‬لكن البرلمان الأوروبي رفضه لقلة الضمانات التي يحتويها في مجال احترام الحريات الفردية،‮ ‬عادًّا أنه يمس الحياة الشخصية للمسافرين الأبرياء‮. ‬وتعمل فرنسا، منذ هجمات‮ ‬7‮ ‬يناير في باريس، علي إقناع شركائها الأوروبيين بضرورة تفعيل مشروع قاعدة البيانات الأوروبية،‮ ‬كما تسعي ودول أوروبية أخري للضغط علي البرلمان الأوروبي للعدول عن موقفه‮. ‬وللرد علي تخوف هذا الأخير من مخاطر هذا النظام علي الحريات الفردية،‮ ‬والحياة الشخصية للمواطنين الأوروبيين، تقول المفوضية الأوروبية إن الدول التي اعتمدت مثل هذا النظام علي المستوي الوطني حققت نجاحات في مجال محاربة الجريمة والإرهاب بتجنبها بعض العمليات‮. ‬ويتمثل النظام المرتقب في إنشاء قاعدة بيانات أوروبية تربط النظم المعلوماتية الوطنية بعضها بعضا بإنشاء نظام أوروبي مركزي،‮ ‬يمكن لأي بلد عضو في الاتحاد أن يستغل معطياته في أي وقت، خاصة أن الشبكة ستجهز بأنظمة إنذار تخص الأشخاص المشتبه بهم،‮ ‬والذين أدخلت معلومات خاصة بهم في قاعدة البيانات‮. ‬إلا أن البرلمان الأوروبي منقسم علي نفسه بشأن إقامة قاعدة بيانات أوروبية للمسافرين جوا‮.‬ فكتلة الحزب الشعبي الأوروبي‮ (‬يمين‮)‬،‮ ‬وكتلة المحافظين والإصلاحيين يبدو أنهما تساندان المشروع، بينما كتل الخضر،‮ ‬واليسار الأوروبي،‮ ‬وتحالف الديمقراطيين،‮ ‬والليبراليين من أجل أوروبا،‮ ‬يبدو أنها تعارضه‮.‬

الغرض من هذا النظام ليس فقط تقفي حركة المشتبه بهم لمعرفة تحركاتهم وتنقلاتهم وبالتالي اعتقالهم بسهولة،‮ ‬في حال شك،‮ ‬أو كإجراء استبقي‮ (‬إن سمحت التشريعات القادمة بذلك‮)‬، ولكن أيضا محاولة تحديد واكتشاف سلوكات‮ ‬غير طبيعية،‮ ‬مثل شراء شاب‮ ‬غير متعود علي السفر تذكرة ذهاب فقط باتجاه مناطق،‮ ‬أو بلدان مصنفة ضمن خانة الاتجاهات الحساسة،‮ ‬أو التي تعرف صراعات مسلحة، أو الحجز في آخر لحظة باتجاه هذه البلدان كمحاولة لتمويه وإرباك الأجهزة الأمنية التي قد تراقبه، أو حجز تذكرة مع العبور عبر عدة مطارات،‮ ‬أو التوقف في أكثر من بلد لحجب الرؤية عن الوجهة النهائية‮. ‬وبهذا،‮ ‬يكون بإمكان الأجهزة الأمنية منع إرهابي ينوي تفجير طائرة من ركوبها،‮ ‬أو حتي إجبار هذه الأخيرة علي النزول في مطار دولة أوروبية لدي تحليقها في مجالها الجوي لاعتقال الشخص المشتبه به‮.‬

جدير بالذكر أن الولايات المتحدة بدأت استغلال بيانات السفر الجوي عقب عمليات الحادي عشر سبتمبر،‮ ‬كما وضعت أيضا قائمة لممنوعين من السفر عبر الطائرات،‮ ‬انطلاقا أو باتجاه التراب الأمريكي‮. ‬كما بدأت بريطانيا استغلال بيانات سجل مماثل منذ‮ ‬2008‮ ‬لمحاربة الإرهاب،‮ ‬والجريمة،‮ ‬والهجرة السرية‮. ‬وهناك دول أخري،‮ ‬مثل بلجيكا،‮ ‬والسويد،‮ ‬والدنمارك،‮ ‬تسمح للشرطة بالحصول علي مثل هذه البيانات من شركات الطيران المدني‮.‬

وعموما، مع اختلافات حسب قانون كل بلد، تضم قاعدة بيانات المسافرين جوا نحو‮ ‬20‮ ‬فئة من المعطيات،‮ ‬تحتفظ بها شركات الطيران في أنظمة الحجز لديها‮: ‬الاسم واللقب، تاريخ السفر، الرحلة‮ (‬رقمها، مطار الإقلاع ومطار الهبوط،‮ ‬العبور إن وجد‮)‬، طريقة تسديد التذكرة‮ (‬نقدا، صكا بنكيا، بطاقة ائتمان‮)‬، طبيعة الأمتعة، التفضيلات الغذائية‮. ‬في الولايات المتحدة،‮ ‬من الممكن أيضا تخزين معلومات تخص الأصل العرقي‮. ‬وتعدّ‮ ‬هذه المعطيات كنزا ثمينا بالنسبة لأجهزة المخابرات المختلفة،‮ ‬لأن جمعها لا يكلفها لا الوقت ولا المال،‮ ‬وهي‮ ‬غنية جدا بالمعلومات، وما عليها إلا أن تقوم بعمليات تقاطعية بين ما لديها من معلومات‮ (‬أشخاص تبحث عنهم‮) ‬بتلك الواردة في قوائم شركات الطيران‮. ‬بالنظر للقوانين الأوروبية في مجال الحريات الفردية، من الصعب علي دول الاتحاد أن تسن قوانين وطنية شبيهة بـ‮ “‬الباتريوت أكت‮” ‬الأمريكي‮. ‬أما علي مستوي الاتحاد، فإن البرلمان الأوروبي‮ ‬غير مستعد لقبول قوانين من هذا النوع‮. ‬وعليه،‮ ‬فمن المستبعد أن تتضمن قاعدة البيانات الأوروبية المرتقبة بعض المعطيات الحساسية،‮ ‬مثل طبيعة الانتماء العرقي، وطبيعة الوجبة الغذائية‮.‬

ويتساءل البعض في أوروبا عن مخاطر انتهاك حرية التعبير بدعوي الدفاع عنها،‮ ‬والانزلاق نحو تسيير أمني للمجتمع علي الطريقة الأمريكية،‮ ‬بعد عمليات الحادي عشر سبتمبر‮. ‬وسيحتدم النقاش عندما يعاد طرح المشروع علي البرلمان الأوروبي،‮ ‬لأن المدافعين عن الحريات الفردية يتخوفون من جمع معطيات ضخمة عن المواطنين،‮ ‬عبر أنظمة بيانات السفر،‮ ‬والتنصت الإلكتروني‮. ‬ورغم أن‮ “‬باتريوت أكت‮” ‬علي النمط الأمريكي مستبعد في أوروبا،‮ ‬فإن بعض الإجراءات قد يبدو أنها مستلهمة منه،‮ ‬لاسيما تلك المتعلقة بمراقبة الإنترنت،‮ ‬وشبكات التواصل الاجتماعي،‮ ‬وجمع المعطيات الرقمية‮.‬

المحصلة أن عمليات باريس وكوبنهاجن عمقت الانقسام في المجتمعات الأوروبية حول التعامل مع المسلمين والإسلام‮. ‬فالبعض يري فيهم خطرا علي الأمن المجتمعي في أوروبا، ويقول بضرورة وضع الجالية المسلمة تحت المراقبة،‮ ‬بدعوي أن الإرهابيين خرجوا من رحمها،‮ ‬وأن العبادات والخطابات التقليدية قد تحمل في ثناياها التطرف فالإرهاب‮. ‬بينما يري البعض الآخر أن ما يحدث هو من فعل أقلية قليلة جدا،‮ ‬ولا يمكن تحميل الأغلبية تبعات سلوكها، ويقول بضرورة التمييز بين المسلم والإرهابي،‮ ‬وأن كل مسلم متطرف ليس بالضرورة إرهابيا‮. ‬أما المسلمون، في أغلبيتهم الساحقة، فهم في وضع لا يحسدون عليه، فدينهم يوظف لضربهم،‮ ‬ولخدمة مآرب لا ناقة ولا جمل لهم فيها، وهم مطالبون بالتنديد بالإرهاب‮.‬ أما حينما يتعرض مسلمون للإرهاب،‮ ‬فإن ازدواجية المعايير هي القاعدة السائدة في الغالب، كما اتضح أخيرا من المعالجة الإعلامية المزدوجة للعمل الإرهابي الذي استهدف مسلمين في شابل هيل‮ (‬أمريكا‮)‬،‮ ‬والعمل الإرهابي الذي استهدف‮ ‬غير مسلمين في كوبنهاجن‮. ‬لكن يجب الاعتراف أيضا بأن الدول والشعوب العربية الإسلامية لم تحرك ساكنا،‮ ‬ولم تندد بقوة،‮ ‬ولم تتظاهر تضامنا مع ضحايا شابل هيل‮. ‬وهذا لم يحدث،‮ ‬ولن يحدث في هذه الدول،‮ ‬لأن هذه الأخيرة تقمع مواطنيها في أوطانهم،‮ ‬ولا يمكنها أن تدافع عنهم خارجها‮.‬

د. عبدالنور بن عنتر

مجلة السياسة الدولية