ليس اليمين الاسرائيلي، الذي شجعه اعتراف الرئيس ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، هو الفصيل الوحيد الذي يطالب الآن بدولة واحدة بين نهر الأردن والبحر المتوسط.
فقد بدأت منظمة التحرير الفلسطينية بالتساؤل هي أيضاً عما إذا كان ذلك قد لا يكون فكرة سيئة، على الرغم من أن لديها وجهة نظر مختلفة جذرياً حول ما ستبدو عليه تلك الدولة الواحدة.
بينما ينحسر زخم الحل القائم على الدولتين للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، أصبح كلا الجانبين يلقيان نظرة أخرى على فكرة الدولة الواحدة. لكن هذا الحل كان منذ وقت طويل إشكالياً بالنسبة لكلا الجانبين.
بالنسبة للإسرائيليين، سوف يعني استيعاب ثلاثة ملايين فلسطيني من الضفة الغربية إما التخلي عن الديمقراطية، أو القبول بنهاية فكرة الدولة اليهودية. كما أن الفلسطينيين، الذين لا يرغبون العيش في ظل ظروف تشبه الفصل العنصري أو الاحتلال العسكري، نظروا أيضاً إلى حل دولتين على أنه أفضل أمل لهم.
والآن، للمرة الأولى منذ أن أعلنت دعمها لدولة فلسطينية تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل في العام 1988، أصبحت منظمة التحرير الفلسطينية تناقش بجدية ما إذا كانت ستتبنى خيارات بديلة، بما في ذلك السعي إلى تحقيق خيار الدولة الواحدة.
يقول مصطفى البرغوثي، الطبيب وعضو المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي توقع البعض احتمال أن يجري تغييرات فى استراتيجية الحركة الوطنية الفلسطينية الشهر الماضي: “(هذه المسألة) تهيمن على النقاشات”.
ويتصور أنصار الفكرة من الفلسطينيين دولة واحدة بحقوق متساوية للفلسطينيين واليهود. وسوف تكون للفلسطينيين سلطة سياسية متناسبة، والذين سيشكلون -بالنظر إلى الاتجاهات الديموغرافية الراهنة- أغلبية قبل مرور وقت طويل، مما سيؤذن بنهاية المشروع الصهيوني.
لكن هذه النتيجة غير مقبولة لدى الجناح اليميني الإسرائيلي الذي يضغط من أجل ضم الأرض في الضفة الغربية المحتلة حيث أقام المستوطنون اليهود مجتمعات محلية، في حين يتم اختزال أماكن وجود الفلسطينيين إلى المناطق التي يعيشون فيها الآن.
وفي المقابل، يعترف مؤيدو هذه الأفكار الإسرائيليون بحرية بأن المناطق الفلسطينية ستكون أقل بكثير من أن تشكل دولة، كبداية على الأقل: بل إن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وصفها بأنها “دولة-منقوصة”. وفي نهاية المطاف، كما يقول هؤلاء المؤيدون، ربما يحقق الفلسطينيون دولة في كونفدرالية مع الأردن أو مصر، كجزء من إسرائيل، بل وربما بشكل مستقل -وإنما ليس في وقت قريب.
وكان الجانبان قد أيداً رسمياً منذ فترة طويلة فكرة حل الدولتين للصراع، في حين اتهم كل منهما الآخر بإخفاء خطط للاستيلاء على كامل الأرض. لكن إعلان ترامب الأخير عن مدينة القدس غير الحسابات كلها.
لم تؤيد حكومة ترامب فكرة حل الدولة الواحدة، وهي تعمل على إعداد خطة سلام خاصة بها، وتصر على وجوب أن يتم التفاوض على أي اتفاق نهائي، بما في ذلك الحدود، بين الجانبين. لكن قرار كانون الأول (ديسمبر) الماضي الذي اتخذه الرئيس بالاعتراف بالقدس عاصمة لاسرائيل، في تحد لسياسة الولايات المتحدة التي استمرت عقوداً وتمتعت بإجماع دولي ومن دون ذكر للمطالب الفلسطينية بالمدينة، نُظر إليه على أنه يضع إبهام الولايات المتحدة لترجيح الكفة الإسرائيلية من الميزان.
وقال صائب عريقات، المفاوض الفلسطيني المخضرم، إن إعلان السيد ترامب كان بمثابة توجيه ضربة الموت لحل الدولتين، وأنه يجب على الفلسطينيين تحويل تركيزهم إلى إقامة “دولة واحدة يمتع مواطنوها بحقوق متساوية”. وقد اكتسب موقفه منذ ذلك الحين زخماً وجاذبية في أوساط القيادة الفلسطينية.
وفق هذه الفكرة، سوف تتحول الحركة الفلسطينية إلى خوض صراع من أجل تحصيل الحقوق المدنية المتساوية، بما في ذلك حرية التنقل والتجمع والتعبير، والحق في التصويت في الانتخابات الوطنية. وقال البرغوثي “ذلك قد يعني أن فلسطينياً يمكن أن يكون رئيس الوزراء”.
تشكل فكرة الدولة الواحدة، بالنسبة لمؤيديها الفلسطينيين، عزاء مريراً بعد عقود من السعي إلى إقامة دولة بموجب اتفاقات أوسلو للسلام، والتي يعتقد الكثيرون أنها لم تحقق شيئاً سوى توفير الغطاء لإسرائيل وشراء الوقت لها لتوسيع المستوطنات الإسرائيلية.
وقال أسعد غانم، المحاضر في العلوم السياسية بجامعة حيفا، والذي يعمل مع مجموعة من الإسرائيليين والفلسطينيين منذ بعض الوقت على وضع إطار استراتيجية لإقامة دولة واحدة: “إنك عندما تؤيد حل الدولتين، فإنك تدعم نتنياهو. لقد آن الأوان لكي نقدم نحن الفلسطينيين بديلاً”.
ثمة الكثير من الجهود التي يتم بذلها حالياً في هذا السياق. وتعتزم مجموعة عمرها 10 سنوات تدعى “الحركة الشعبية لأجل الدولة الدميقراطية الواحدة” بقيادة راضي الجراعي، القائد السابق في حركة فتح والذي قضى 12 عاماً في السجون الإسرائيلية بعد مساعدته في قيادة الانتفاضة الأولى في العام 1987، تعتزم شن حملة إعلامية لشرح الفكرة لسكان الضفة الغربية.
ويقول الجراعي: “إنهم يعتقدون أن هذا يعني أن يحمل الفلسطينيون الهوية الإسرائيلية ويعيشوا في ظل نظام فصل عنصري. لكن فكرتنا هي إقامة دولة ديموقراطية واحدة، من دون امتيازات لليهود أو أي جماعة عرقية أو دينية أخرى”.
وثمة آخرون يتحدثون عن صياغة نموذج مبدئي لدستور هذه الدولة واحدة، أو تشكيل حزب سياسي في إسرائيل والضفة الغربية للدفع من أجل كتابته.
يقول حمادة جابر، المُنظِّم في مجموعة تدعى “مؤسسة الدولة الواحدة”، إن “ما لا يقل عن 30 في المائة من الفلسطينيين يؤيدون فكرة الدولة الواحدة بينما لا يتحدث أحد عن ذلك”. ويضيف: “إذا كان هناك على الأقل حزب سياسي واحد على كل جانب، والذي يتحدث عن الفكرة ويتبنى هذه الاستراتيجية، فإن الدعم سينمو”.
ويقول خليل الشقاقي، مستطلع الآراء الفلسطيني، إن هذه الفكرة تتمتع بدعم أقوى بين الشباب، وخاصة الطلاب والمهنيين الذين طالبوا بإحداث تغيير في الاستراتيجية منذ الربيع العربي في العام 2011.
وبالنسبة لليمين الإسرائيلي، فإن التخلي عن هدف حل الدولتين هو أمر جيد، والذي يتم من خلاله تجنب تهديد طويل الأجل. وينظر الكثيرون إلى غزة، التي انسحبت منها إسرائيل من جانب واحد في العام 2005، ويتصورون قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية تستولي عليها منظمة حماس المتشددة بالمثل، وحيث تتساقط الصواريخ على مطار بن غوريون من الشرق، بدلاً من المزارع وأفنية المدارس من الجنوب.
لكن اليمين الإسرائيلي لم يشرح تماماً كيف ستتغلب دولته الواحدة على المعضلة الديموغرافية. فسوف يؤدي استيعاب ما يقرب من ثلاثة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية إلى نهاية فكرة الدولة اليهودية أو تدمير الديمقراطية الإسرائيلية في حال حُرم الفلسطينيون من التمتع بحقوق متساوية. ولن تكون حتى أغلبية يهودية ضئيلة قادرة سياسياً على حرمان الفلسطينيين من المواطنة الكاملة والحقوق في دولة واحدة ذات سيادة.
يقول يواف كيستش، عضو البرلمان الإسرائيلي من حزب نتنياهو، والذي يدفع بخطة للحكم الذاتي الفلسطيني مستخدماً الأسماء التوراتية للضفة الغربية: “ما كنتُ لأعطي الجنسية أبداً لأجزاء كبيرة من السكان العرب في يهودا والسامرة”.
ويقول السيد كيستش إن ما تبقى من المناطق الفلسطينية يمكن أن يصبح جزءاً من الأردن أو مصر، أو أن يصبح نوعاً من “الدولة-المنقوصة”، والتي تتمتع بسيادة محدودة. وفي الوقت نفسه، يقول إنه مستعد للقبول بإعطاء الجنسية الإسرائيلية الكاملة لحوالي 30 ألف فلسطيني من الضفة الغربية، من الذين يعيشون في المناطق التي يريد أن تؤكد إسرائيل سيادتها عليها. لكن مثل هذه الخطوة لن تكون مقبولة للفلسطينيين. ولعل ما تشترك فيه هاتان الرؤيتان المتباينتان بحدة حول الدولة الواحدة هو وجود قناعة بأن حلاً يقوم على مبدأ الدولتين أصبح بعيد المنال.
من المؤكد أن منظمة التحرير الفلسطينية لا تتخلى تماماً عن حل الدولتين. وهي ما تزال تتابع السبل الدبلوماسية الأخرى. وقد دعا السيد عريقات الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية مؤخراً إلى العمل على أساس الالتزامات السابقة بقطع العلاقات مع أي دولة تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
وقال السيد البرغوثي في مقابلة: “إننا ندرك أن علينا أن نكون حذرين للتأكد من أن العالم لا يسيء فهمنا. إذا مات حل الدولتين، فإن ذلك سيكون مسؤولية إسرائيل وليس مسؤولية الفلسطينيين”. ولكن إذا كان الإسرائيليون هم الذين يقتلون هذا الحل، وهم في بصدد ذلك الآن -وللأسف بمساعدة إدارة ترامب- فإن الخيار الوحيد الذي يتبقى لنا هو محاربة نظام الفصل العنصري وإسقاطه، وهو ما يعني دولة واحدة بحقوق على قدم المساواة للجميع”.
ثمة شكوك تسود بين الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء بأن القادة الفلسطينيين مثل السيد عريقات ومحمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، يمكن أن يتخلوا حقاً عن عملية أوسلو في أي وقت، وهي التي كرسوا حياتهم المهنية لها، والتي يدينون لها بسبل عيشهم.
ومن ناحية أخرى، إذا -وعندما- يتم انتخاب حكومة إسرائيلية أكثر ليبرالية، فإنها يمكن أن تعيد إحياء عملية السلام على أساس الدولتين. لكن التكاليف والصعوبة السياسية التي ينطوي عليها سحب الإسرائيليين من الضفة الغربية تزداد مع كل أسرة مستوطنة تنتقل للعيش في المناطق الفلسطينية.
يشير دانيال ك. كيرتزر، الأستاذ في جامعة برينستون والذي عمل سفيراً لدى مصر في عهد إدارة كلينتون ولدى إسرائيل فى عهد جورج بوش، إلى أن حوالي 120.000 عامل فلسطيني يذهبون إلى إسرائيل كل يوم، كما قدمت أجهزة الأمن الفلسطينية المساعدة لإسرائيل في حماية سكانها أنفسهم، وأراحت الإدارة الفلسطينية للسلطة الفلسطينية إسرائيل من عبء التزام سلطة الاحتلال بالوفاء باحتیاجات اللاجئین.
ويضيف السيد كورتزر: “أنت وأنا سوف نقول: ‘ذلك لن يحدث أبداً، سوف يعودون إلى صوابهم’”. ويضيف: “ولكن، إلى متى يمكنك العيش مع الوضع الراهن؟ سوف نستيقظ ذات يوم وسوف تكون هناك دولة واحدة فعلياً. سيكون الأمر مثل ‘ثيلما ولويز’. إنكَ تمضي على الطريق السريع وترى الحياة عظيمة. لكن هناك جرفاً”.
ديفيد م. هالبينغر
صحيفة الغد