عقب مرور ما يزيد عن أربعة أعوام على اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، أضحي الاقتصاد السوري يتسم بالتفتت واللامركزية في ظل انقسام الدولة إلى ما يشبه دويلات منفصلة وتقسيم نطاقات النفوذ بين نظام الأسد و”داعش” و”جبهة النصرة” والأكراد، بحيث تصاعدت ما يمكن تسميته أنماط “اقتصاد النواحي” لإدارة التفاعلات الاقتصادية وسد احتياجات المواطنين، في ظل اللامركزية الغالبة التي باتت حاكمة للاقتصاد السوري بسبب عدم قدرة نظام الأسد على ضبط حركة الاقتصاد أو تنظيم الأنشطة الاقتصادية واعتماده بصورة كلية على الدعم الخارجي من جانب إيران و”حزب الله” اللبناني، مع اختلاف هذا النمط عما تفعله قوى المعارضة المسلحة في إدارة المناطق المحررة أو ما تقوم به الأقليات في مناطق نفوذها مثل الأكراد.
انهيار الاقتصاد:
تعرض الاقتصاد السوري لانهيار شبه كامل على مدار سنوات كاملة من الحرب الأهلية، وهو ما تجلي في المؤشرات الاقتصادية الكلية وفق تقارير “مجموعة عمل اقتصاد سوريا” قبيل نهاية مارس 2015، حيث بلغت معدلات البطالة ما يقارب حوالي 60% من المواطنين في سوريا وفقدت العملة السورية حوالي 80% من قيمتها السوقية، بحيث بات الدولار يساوي حوالي 220 ليرة سورية مقابل 50 ليرة سورية قبيل تصاعد حدة الصراع الأهلي في سوريا، ويرتبط ذلك بارتفاع معدلات التضخم بنسب تتراوح بين 300% و500%.
وفي السياق ذاته، فقد الناتج المحلي الإجمالي لسوريا أكثر من ثلث قيمته، الذي يتم الحصول عليه من تصدير النفط، حيث أضحت 90% من حقول النفط والغاز في سوريا خارج نطاق سيطرة نظام الأسد ووزارة النفط السورية، وتراجع إنتاج النفط من 340 ألف برميل يوميًا إلي أقل من 10 آلاف برميل يوميًا بعد هيمنة تنظيم “داعش” والميليشيات الكردية علي مناطق إنتاج النفط وقيامها بتصدير النفط بصورة مستقلة عن الدولة السورية.
وفيما يتعلق بالأنشطة الاقتصادية السورية، فقد تعرضت لآثار تدميرية كبيرة نتيجة للصراع الأهلي، حيث فقد الإنتاج الصناعي ما يقارب 80% من قيمته، وهي نسبة تقارب المفقود من الإنتاج الزراعي نتيجة سيطرة تنظيم “داعش” على الأراضي الزراعية واستخدام الإنتاج لتمويل عملياته المسلحة.
أما البنية التحتية السورية فلم تعد مؤهلة لاستعادة النمو الاقتصادي في ظل تدمير مراكز تخزين الحبوب والقطن وما لا يقل عن 111 من محطات توليد الطاقة وشبكات الكهرباء وحوالي 87 سد لتنظيم تدفق المياه ومحطات لتصفية المياه من الشوائب، وما يقارب 3000 مدرسة، مما أدي لتوقف شبه كامل للعملية التعليمية، فضلا عن تدمير الطرق الواصلة بين المدن والطرق الداخلية بحيث تزايدت صعوبات الانتقال بين المدن السورية، ناهيك عن تأثير الاشتباكات الدامية على الاتصال بين المدن السورية.
وعلى الرغم من تصاعد تدفقات اللاجئين السوريين علي دول الجوار نتيجة الانهيار الاقتصادي والمجتمعي، وتراجع تعداد السكان في سوريا من 23 مليون إلى 17 مليون وفق بعض الإحصاءات الرسمية، إلا أن المجتمع السوري لا يزال يحتفظ بقدرته على التعايش مع الصراع وتلبية الاحتياجات الأساسية لأعضائه عبر تفاعلات اقتصادية غير رسمية تتسم باللامركزية والتعددية.
أنماط التفكك:
تكشف مراجعة الأوضاع الاقتصادية السورية في خضم الصراع الأهلي عن مدي التعددية التي باتت تتسم بها التفاعلات الاقتصادية، حيث أعلن أسامة القاضي رئيس “مجموعة عمل اقتصاد سوريا”، في 23 مارس 2015، عن فقدان النظام السوري قدرته على إدارة الاقتصاد الذي بات يتسم باللامركزية مع صعود أنماط “اقتصاد النواحي” الذي يقوم على تفكك البنية الاقتصادية للدولة وقيام إدارات النواحي البالغ عددها 280 ناحية وإدارة المناطق البالغ عددها 64 منطقة بتنسيق أنشطتها الاقتصادية بمعزل عن الدولة بحيث يعمل الاقتصاد بالحدود الدنيا للكفاءة وبدون تخطيط مركزي، وفي هذا الإطار يمكن رصد عدة أنماط لإدارة الاقتصاد السوري في ظل الحرب الأهلية:
1- اقتصاديات التعايش: بات الاقتصاد في المناطق التي يسيطر عليها نظام الأسد يتسم بالفوضى مع فقدان مؤسسات الدولة لقدرتها على تأدية أدوارها وتلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين، وهو ما دفع المواطنين وإدارات “النواحي” لتأسيس هيئات تنسيقية للتعايش مع الصراع والحصول على السلع الأساسية، حيث أضحت الأنشطة الزراعية في درعا وريف حلب ومحيط دمشق وفي مناطق تمركز العلويين خارج نطاق السيطرة المركزية وتخضع لإدارة ذاتية من جانب المواطنين في ظل سطوة الميليشيات المسلحة وفقدان الدولة قدرتها على التغلغل والهيمنة على الأنشطة الاقتصادية، وأضحي الأفراد والعائلات المتحكمين في التفاعلات الاقتصادية، والتي بات يغلب عليها أحيانًا طابع المقايضة لتحقيق الحد الأدني من الاكتفاء الذاتي مجتمعيًا من السلع الأساسية.
2- اقتصاديات الإدارة الذاتية: أصبح الأكراد في سوريا وفصائل “الجيش السوري الحر” مسئولين عن الإدارة الاقتصادية للمناطق التي يسيطرون عليها، ففي المناطق الكردية خاصة عفرين والجزيرة وكوباني والحسكة أقام حزب “الاتحاد الديمقراطي” ما يطلق عليه “الإدارة الذاتية الديمقراطية” والتي تتكون من مجلس إقليمي عام وإدارات فرعية تتولي إدارة الاقتصاد والزراعة والموارد الطبيعية، وتقوم هذه الإدارة بتوفير الموارد الاقتصادية عبر تصدير النفط إلى تركيا وإدارة المعابر وتحصيل الرسوم بهدف توفير التمويل لقوات حماية الشعب الكردي وتوفير الاحتياجات الأساسية للمواطنين في المناطق التي تقوم بإدارتها.
أما فصائل “الجيش الحر” فتقوم بإدارة مناطق بالغوطة الشرقية والغربية والقلمون وريف حمص وحماة وحلب والقنيطرة وتعتمد على التمويل الخارجي والتبرعات الإقليمية فضلا عن تهريب النفط والسلع الأساسية عبر المعابر الحدودية، إلى جانب اعتمادها على المبادرات الفردية والجماعية في توفير الخدمات للمواطنين على غرار مبادرة “حركة التغيير والبناء” في حلب لتوفير الغذاء للفقراء وتوزيع الملابس الشتوية وتأسيس نظام للضمان الصحي التطوعي.
وتشارك في إدارة المناطق التي يسيطر عليها فصائل “الجيش الحر” عدة كيانات تنسيقية ونقابية من أهمها اتحاد الهيئات الإغاثية، والمهندسون الأحرار، ومهندسون من أجل الوطن، والاتحاد الطبي الحر، وحرائر سوريا، وهيئة التآخي الكردية، وهيئة الدعوة والإرشاد، ومركز عمار الأرض، ومؤسسة جنى التعليمية، ومؤسسة ارتقاء، ومركز رشد، ومؤسسة تكافل، وإغاثة الملهوف، ومؤسسة الفرقان، واتحاد هيئات الإغاثة، ما يعكس مدي التعددية في إدارة الخدمات وعدم وجود سلطة مركزية.
3- الاقتصاديات المركزية: تتسم المناطق التي يسيطر عليها تنظيم “داعش” وتلك التي تسيطر عليها “جبهة النصرة” بقدر كبير من المركزية والانضباط في إدارة الانشطة الاقتصادية وتقديم الخدمات بالمقارنة بالمناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، حيث يسيطر تنظيم “داعش” على مناطق دير الزور والرقة ومناطق من حلب وحمص، ويعتمد التنظيم على مصادر متنوعة للدخل أهمها فرض الرسوم والضرائب على الإفراد والتجار والأنشطة الاقتصادية وجباية الزكاة وتهريب النفط عبر الحدود، فضلا عن الأموال التي تمكن التنظيم من الاستيلاء عليها من البنوك في العراق، ولا ينفصل ذلك عن السيطرة علي المناطق الزراعية في الرقة ودير الزور والحصول علي ضرائب علي الأنشطة الزراعية.
وعلى الرغم من الضغوط الاقتصادية والدينية التي يمارسها التنظيم على المواطنين السوريين، فإن إدارته الاقتصادية تتسم بالكفاءة والمؤسسية، وفقًا لاتجاهات عديدة، حيث يقوم التنظيم بمنح رواتب للمقاتلين تتراوح بين 400 و600 دولار فضلا عن توفير مناطق سكنية وامتيازات للمنضمين للتنظيم، وهو ما ينطبق أيضًا علي الموظفين الذين يحصلون على رواتب شهرية من “بيت المال”، وتحصل الأسر الفقيرة على مساعدات مالية من التنظيم، فضلا عن حصول الأرامل علي مبالغ تقدر بحوالي 100 دولار عن الطفل الواحد، كما يعمل التنظيم على الإبقاء علي أسعار منخفضة للسلع الأساسية ويقوم بعقاب التجار ممن يقومون برفع الأسعار.
واتسم نهج التنظيم بقدر كبير من البراجماتية، حيث قام بعقد صفقات تجارية مع رجال أعمال موالين للأسد، وقام بالاستعانة بموظفين سابقين لدي نظام الأسد لإدارة المطاحن وتوزيع الدقيق والإشراف علي المخابز وإدارة سد الرقة الذي يزود المدينة بالمياه والكهرباء، وارتبط ذلك بقيام التنظيم بالفصل بين الإدارة المدنية والجناح العسكري للتنظيم وتقسيم المناطق التي يسيطر عليها لولايات لتسهيل إدارتها، فضلا عن الاستعانة بالمتطوعين الأجانب على غرار بعض التونسيين لإدارة قطاع الاتصالات في الرقة.
أما “جبهة النصرة” فتسيطر علي بعض مناطق إدلب وبعض قري ريف حلب وتعتمد على التبرعات من جانب بعض التيارات السلفية في لبنان وبعض دول الجوار والقيام ببعض الأنشطة مثل فرض ضرائب ورسوم على الأنشطة الاقتصادية مثل الحصول على 2 مليون ليرة مقابل السماح لشبكة “سيرياتيل” للمحمول للعمل في مناطق تمركزها والحصول على إتاوات مقابل حماية الشركات والمصانع وأنشطة الاختطاف مقابل فدية، وتقوم الجبهة بتحديد أسعار السلع الأساسية في المناطق التي تسيطر عليها بحيث تكون في متناول الفقراء وتقوم بتوزيع هذه السلع مجانًا على الفقراء فضلا عن فرض ضرائب على الأثرياء يتم الافادة منها في تمويل بعض الخدمات وتسليح التنظيم واستقطاب كوادر جديدة.
تداعيات التعددية:
أدي تفكك الاقتصاد السوري لتكون عدة اقتصاديات فرعية متداخلة تقوم على اللامركزية والاستقلالية والافتقاد لآليات تنسيقية فيما بينها في ظل تعدد الفاعلين وتأثير شبكات التهريب والعصابات الاجرامية والميليشيات المسلحة على التفاعلات الاقتصادية التي أضحت غايتها الأساسية هي تأمين الاحتياجات الأساسية للمواطنين وتحقيق الاكتفاء الذاتي في خضم الصراع الأهلي.
وتتسم الإدارة الاقتصادية لأطراف الصراع الأهلي في سوريا بقدر كبير من البراجماتية، وهو ما يستدل عليه باستعانة “داعش” بالموظفين السوريين السابقين، وإبرام رجال الأعمال الموالين للنظام لصفقات مع “داعش” و”جبهة النصرة”، وسعي بعض الشركات السورية للإفادة من الميليشيات المسلحة لمضاعفة أرباحها وحماية أنشطتها الاقتصادية، في المقابل تواجه كافة المناطق السورية تصاعد التضخم وارتفاع أسعار التدفقات السلعية بصورة غير مسبوقة تضاهي ثلاث وأربعة أضعاف قيمتها السوقية في بعض الأحيان نتيجة الاعتماد على التهريب والالتزام بدفع رسوم وإتاوات للميليشيات المسلحة والأطراف القائمة على إدارة المناطق المختلفة.
وعلى الرغم من تداعي قدرة نظام الأسد على السيطرة على التفاعلات الاقتصادية، إلا أنه لا يزال قادرًا على إدارة المناطق التي يسيطر عليها سواء من خلال توفير بعض السلع الأساسية للمواطنين أو الالتزام بدفع الرواتب للموظفين في المناطق التي لا تزال تحت سيطرته ويستعين في ذلك بالمساعدات المالية التي تقدمها إيران و”حزب الله”.
وختامًا من المرجح أن يؤدي التفتت الاقتصادي لاستدامة الصراع الأهلي بين الفرقاء السوريين نتيجة السعي للسيطرة على الموارد الطبيعية للحفاظ على ثبات المصادر المالية التي تكفل توفير الاحتياجات الأساسية للمناطق التي يسيطرون عليها وتعزيز قدرة كل منهم علي التوسع الإقليمي وضم مناطق جديدة وشراء الأسلحة والمعدات العسكرية ودفع رواتب المقاتلين، ويظل كل من تنظيم “داعش” و”جبهة النصرة” الأقدر على تحقيق قدر من المركزية والكفاءة الاقتصادية المستقلة التي تمكنهم من الاستمرار في الصراع الأهلي والتوسع بالمقارنة بمختلف أطراف الصراع الأخرى، مثل نظام الأسد والأكراد، التي تعتمد على دعم الجهات الخارجية في تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين في المناطق التي تسيطر عليها وتعزيز قدراتها العسكرية للحفاظ على بقائها.
المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية