تستدعي جولات وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، متنقلاً بين العواصم العربية الكويت، عمان، بيروت، تلك الجولات التي ختمها بزيارة جارة العرب أنقرة، تستدعي من ذاكرتي مشهد الجولات المكوكية لهنري كيسنجر إلى الشرق الأوسط في السبعينات من القرن الفائت سعياً إلى تسخين محادثات السلام الفلسطينية- الإسرائيلية عبر تعقيدات الظروف السياسية لهذا الملف، ووفق معطيات ذاك الوقت التي قد تكون نقطة في بحر من أمواج الراهن الشرق أوسطي العاتية وقد تكاد تقلب المركب بركّابه الإقليميين والدوليين كافة إلى مقلب حرب شاملة تلتهم كل حيّ وشبه حيّ.
فهنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق الملقّب بثعلب السياسة الخارجية الأميركية، كان قد تمكن من ترتيب خروج الولايات المتحدة من حرب فييتنام المدمرة وإبرام اتفاقية لوقف إطلاق النار في شمال البلاد، ما خوّله نيل جائزة نوبل للسلام في 1975، كما أبرم اتفاق فصل القوات بين مصر وسورية وإسرائيل في 1974 جالباً بعضاً من السلام إلى منطقة الشرق الأوسط المشتعلة أبداً بحروبها الصغيرة أو الكبيرة.
لقد وصل ريكس تيلرسون إلى الشرق الأوسط في مهمة تكاد تكون موازية لمهمة سلفه، ولكن بحيثيات أكثر تعقيداً وأبلغ أثراً على أمن المنطقة والعالم بأسره. فحرب العراق، وبعدها الحرب على سورية، أفرزتا حالة من العنف لا سابق لها بلغت ذروتها في انتظام الإرهابيين ضمن تنظيمات عنفية عابرة للقارات بدأت بـ «القاعدة»، وانتهت بـ «داعش» الذي تفوّق على «القاعدة» ومشتقاته في التفنن بأشكال القتل والترويع والتنكيل وتوثيق عمليات الإعدام بالذبح أو الصلب أو الحرق حياً في مشاهد مصورة سرعان ما ينشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي مثيراً رهاباً عالمياً لا سابق له.
من نافلة القول أن مهمة تيلرسون ابتداء من دعم إعادة إعمار العراق في المؤتمر الذي حضره في الكويت، إلى زيارته عمان التي توزعت بين لقاءات رسمية مع ملك الأردن ومسؤولي حكومته وأخرى غير رسمية التقى بها ممثلين عن المعارضة السورية، ثم وصوله إلى لبنان ولقائه الرؤساء الثلاثة وتسميته «حزب الله» من على أرضه وعلى بعد كيلومترات من مقرات الحزب في الضاحية بالمنظمة الإرهابية، تلك المهمة تندرج تحت عنوان واحد صاحب الأولوية بالنسبة إلى الولايات المتحدة وهو مكافحة الإرهاب وتخفيض التوتر وإعادة الأمن المفقود في المنطقة التي غدت بؤرة لتصدير العمليات الإرهابية إلى العالم. وتأتي إيران في رأس القائمة التي استدعت تلك المتوالية من الزيارات كونها الراعي الأعظم للميليشيات الإرهابية العابرة الحدود التي مدّت أذرعها الأخطبوطية إلى محيطها العربي في محاولة لربط خط الإمداد من طهران إلى سواحل بيروت مروراً بالموصل ودمشق.
أما زيارة تيلرسون لبنان فتصادفت في الوقت الذي يستعد البلد للانتخابات النيابية التي لا شك تريدها الولايات المتحدة شفافة وديموقراطية، إلا أن الوزير الأميركي الضيف لم يخفِ على الرؤساء الثلاثة توجّسه من ارتفاع منسوب النفوذ الإيراني في لبنان إذا ما تمَ تأمين غطاء سياسي لـ «حزب الله» والتحالف معه بما يضمن نجاحه في الانتخابات، وهذا ما تكره الولايات المتحدة أن يحدث، ولاسيما أن هناك انتخابات برلمانية ستجرى قريباً في العراق حيث يُخشى أيضاً، وفي شكل كبير، أن تكون أيدي إيران ومخالبها السياسية حاضرة وبقوة في مجرياتها، ولها مؤيدوها وأنصارها في القوائم الانتخابية. وليس خلع الحشد الشعبي البذة العسكرية ودخوله بحلّة مدنية في المعركة الانتخالية إلا نموذجاً صادماً لمستقبل الديموقراطية والحياة المدنية البرلمانية في العراق وربما لبنان الآن وسورية في المستقبل، إثر انحسار العمليات العسكرية الموجهة لـ «داعش» وأخواته. وتشير المعلومات الواردة من بغداد إلى أن ما يقارب ستين شخصية عسكرية بارزة من قيادات ميليشيات عراقية كانت قد انضوت في بوتقة الحشد الشعبي ستخوضُ الانتخابات القادمة بعد أن أعلنت تخلّيها عن العمل المسلح وحصولها على الترخيص القانوني المطلوب ممثلةً للأحزاب والحركات السياسية التي شكّلتها على عجل.
فصل المقال في متوالية زيارات تيلرسون، التي تكاد تقارب في المكان والحيثية مكوكيات سلفه على كرسي الديبلوماسية الأميركية كيسنجر، أن للولايات المتحدة هذه المرّة خلافاً لسابقتها غريماً محدّداً وخبيثاً يتخفّى وراء نقاب طائفي سميك وله مخالب نووية لن تكتفي واشنطن بتقليمها بل يسعى جمهوريوها إلى اقتلاعها من جذورها بشتى السبل. وما كاد يمضي يومان على انتهاء زيارة تيلرسون لبنان حتى صرح مستشار الأمن القومي الأميركي، هيربرت ماكماستر، في كلمة له خلال فاعليات مؤتمر ميونيخ للأمن ما مفاده بـ «أن الوقت قد حان للرد على نشاطات إيران التي تزعزع الاستقرار وعلى دعمها الوكلاء والميليشيات الإرهابية التي تغذّي نزاعات مُدَمّرة عبر الشرق الأوسط».
مرح البقاعي
صحيفة الحياة اللندنية