أسبوع وراء أسبوع، وشهر وراء شهر، تستعر الحرب السورية الرهيبة الطاحنة بلا انتهاء، ويُقتل فيها المتحاربون من عديد الدول –والأكثر مأسوية من الجميع، المدنيون السوريون –الضحايا العرَضيون، بل المقصودون في كثير من الأحيان، لصراع الأطراف المتحاربة. وكما كتبت ليز سلاي ولوفداي موريس مؤخراً في صحيفة “الواشنطن بوست”، فإن “حرباً بدأت باحتجاجات سلمية ضد الرئيس بشار الأسد سرعان ما تحولت إلى تدافع عالمي للسيطرة على ما يتبقى من سورية الممزقة، وبما يَعرض خطر اندلاع صراع أوسع نطاقاً. وتحت سماء مزدحمة بطائرات نصف دزينة من البلدان، تقاتل مجموعة متنوعة من الفصائل المدعومة من القوى المتنافسة بعضها البعض في تكوينات مذهلة تدير الرأس”.
من السهل النظر إلى الحرب السورية على أنها فظيعة بطريقة فريدة، وعلى أنها نتيجة كارثية للجغرافيا، ووحشية الأسد الجبانة، وانتشار الجهادية وأيديولوجيتها الخبيثة، والتدخلات الأجنبية. لكن سورية في واقع الأمر تشكل رمزاً وتجسيداً، ونافذة مرعبة على مستقبل الحرب.
عمل خبراء الأمن لسنوات من أجل فهم الطابع المتغير للحرب، مدركين حقيقة أن العالم يمكن أن يجد لها حلولاً فقط بعد فهم هذا التغير، أو العثور على طرق لتخفيف العنف على الأقل. ومن خلال استلهام الصراعات المعقدة في منطقة البلقان، والتي أعقبت انقسام يوغسلافيا في التسعينيات، وصفت الأكاديمية البريطانية، ماري كالدور، على سبيل المثال، ما أسمته “الحروب الجديدة” التي اعتقدت أنها ستهيمن على البيئة الأمنية لفترة ما بعد الحرب الباردة. وسوف تكون الجهات التي تخوض هذه الصراعات، كما اعتقدت كالدور، تركيبات متحولة من الدول واللاعبين من غير الدول. وسوف تقوم هذه الحروب على أساس عناصر مثل الهوية أو الدين، أكثر مما تقوم على الأيديولوجية السياسية. وسوف يستخدم المتقاتلون التخويف والإرهاب للسيطرة على السكان. وسوف يمولون جهودهم من خلال الضراوة والجريمة، مما يفضي إلى ظهور “اقتصادات الحرب” التي تزود المتحاربين بمصلحة خاصة في الإبقاء على العنف مستمراً.
قوبلت أفكار كالدور بالنقد من بعض مفكري الحرب الآخرين الذين قالوا إن ما تصفه ليس جديداً، وإنما هو عُرف تاريخي للصراعات الداخلية. وفي حين أن هذا النقد كان صحيحاً إلى حد كبير، فقد كانت كالدور تتحدث عن شيء يتعلق بطابع صراعات فترة ما بعد الحرب الباردة. وسواء كان ذلك جديداً أم لا، فإنه بعد أن خبا عنف البلقان، اندلع شيء مثله من العراق إلى ليبيا إلى السودان. وبالعديد من الطرق، تشكل سورية اليوم مجرد طفرة أكثر تدميراً من حروب كالدور الجديدة، ببسانطة. وهي تَعرض أيضاً معاينة مخيفة لما قد تجلبه العقود القادمة.
إذا كانت سورية تصلح لأن تكون نموذجاً حقاً، فمن المرجح أن تتميز حروب المستقبل بالعديد من الخصائص المميزة. وسوف يعرض هذا المقال أربعا من خصائصها الأكثر إدهاشاً. وفي مقال لاحق، سوف أحفر أعمق وأستكشف الخصائص الاستراتيجية لحروب المستقبل التي تؤشر عليها سورية، بما في ذلك تداعياتها على الولايات المتحدة.
الخاصية الأولى التي ربما تكون الأكثر تمييزاً للحرب السورية، هي تعقيدها الخادع والمميت. فبدلاً من دولتين أو تحالفين يقاتلان بعضهما بعضاً، تجري العديد من المعارك المتشابكة في نفس المكان والزمان. وفي الفترة الأخيرة، أرسل كولين كاهل، المسؤول السابق في إدارة أوباما الذي يعمل الآن أستاذاً في جامعة جورجتاون، تغريدة على “تويتر” وكتب فيها إن هناك الآن خمسة محاور رئيسية للصراعات الدائرة في سورية: الولايات المتحدة وقوات سورية الديمقراطية التي يهيمن عليها الأكراد، في مقابل نظام الأسد؛ وتركيا في مقابل قوات سورية الديمقراطية وميليشيا وحدات حماية الشعب الكردية المتحالفة معها؛ ونظام الأسد وحلفاؤه الخارجيون –روسيا، وإيران وحزب الله- في مقابل طيف من مجموعات المعارضة السورية؛ والآن إسرائيل في مقابل إيران، في صراع يتكشف عبر مرتفعات الجولان.
يؤدي هذا التشابك إلى دفع العنف في اتجاهات لا يمكن التنبؤ بها. فعلى سبيل المثال، يقوم الأسد بهدوء بمساعدة الأكراد السوريين ضد تركيا، في حين تقوم قوى موالية للنظام بمهاجمة الميليشيات الكردية. ويعرقل تشابك الحرب السورية التوصل إلى أي حل للصراع، بما أن كل لدى كل مشارك سبب مختلف وشركاء مختلفون، وغاية نهائية مختلفة.
ثانياً، توحي الحرب السورية بأن مستقبل الصراعات سوف يتضمن تكويناً من القوى، والذي سيكون مشروطاً بالموقف، بدلاً من التحالفات الدائمة. وبأحد المعاني، تبدو الحرب السورية عتيقة الطراز: فقد دعمت روسيا وإيران سلالة الأسد لسنوات. لكن الولايات المتحدة وتركيا –الحليفتين القديمتين في الناتو واللتين تشاجرتا في كثير من الأحيان- تقفان في أطراف مختلفة ويمكن أن ينتهي بهما المطاف إلى صراع مباشر. وهذا مجرد واحد فقط من التحالفات والعداوات الغريبة، بل وحتى الغرائبية، الحاضرة في سورية اليوم. والقائمة تطول كثيراً.
ثالثاً، يُظهر الصراع السوري أنه على الرغم من التكاليف البشرية الهائلة المعلَن عنها جيداً للحروب المعاصرة، فإن المجتمع الدولي فقد قابليته للتدخل الإنساني. وكان هناك اهتمام متزايد بالتدخل الإنساني بعد حروب البلقان في التسعينيات والفشل في وقف الإبادة الجماعية في رواندا في العام 1994، لكن الفوضى التي أعقبت التدخل العسكري الذي قاده حلف الناتو في ليبيا في العام 2011، امتص الحياة من هذا الاهتمام. واليوم، ثمة كوارث إنسانية مستمرة –ليس في سورية فقط، وإنما أيضاً في اليمن، وجنوب السودان وميانمار. لكن الدول القوية في العالم لا تنطوي على أي اهتمام بصنع السلام في هذه الأماكن وغيرها. ومن المرجح أن يستمر هذا الافتقار إلى الرغبة في وقف الكوارث الإنسانية –أو حتى الإبادة الجماعية المباشرة.
رابعاً، تجسد سورية شيئاً كان واضحاً منذ عقود: أن الأمم المتحدة ليست في وضع مناسب للعب دور رئيسي في الحروب الحديثة المعقدة، خاصة عندما يكون الأعضاء الدائمون لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الذين يتمتع كل منهم بحق النقض لحماية تصرفاته، متورطين في هذه الحروب. ولكن، ليست هناك أي فرصة أيضاً لأن تخدم أي منظمة دولية أخرى –باستثناء منظمة شمال الأطلسي (حلف الناتو)- كمنصة للعمل الجماعي لإيقاف حرب ما. وبعد ليبيا، حتى الناتو نفسه أصبح من غير المرجح أن يفعل ذلك خارج أوروبا.
وإذن، هذا هو ما تقترحه الحرب السورية حول مستقبل الصراعات: سوف تكون صراعات بالغة التعقيد بشكل يصعب حله؛ وسوف تتضمن تكوينات ومشاركين محددين بالصراع المعني؛ ولن تكون هناك تدخلات إنسانية لوقف الحروب؛ ولن تكون الأمم المتحدة عاملاً فاعلاً. لكن هذا ليس كل شيء، وسوف يشرح المقال التالي الكيفيات.
ستيفن ميتز
صحيفة الغد