يُغفل العديد من التحليلات التي تحاول فهم سياسة الإدارة الأميركية الحالية في المنطقة، عاملا أساسيا، هو أثر الحرب الأميركية على العراق، في العام 2003، على سيكولوجيا الناخب الأميركي. فبعد فشل هذه الحرب في تحقيق الأهداف التي نادى بها الرئيس السابق جورج بوش الابن؛ بالتخلص من أسلحة الدمار الشامل وتحقيق الاستقرار وجلب الديمقراطية للمنطقة، إضافة إلى الكلفة الهائلة للحرب على الولايات المتحدة، بات الناخب الأميركي معارضا، وبنسبة عالية جداً، لأي تدخل أميركي في الخارج عموما، وفي الشرق الأوسط تحديدا. وإن تم إدراك هذه النقطة، فيمكن فهم السياسة الأميركية الحالية، بغض النظر عن درجة اتفاقنا أو اختلافنا معها.
تبعا لذلك، فإن الرئيس باراك أوباما الذي يشعر أنه انتخب على خلفية ضرورة انسحاب أميركا من العراق وأفغانستان، لم يكن يوما متحمساً للتدخل في سورية، إلا بالقدر الأدنى الذي تلزمه علاقات أميركا في المنطقة. ولذلك، فإنه قاوم، وسيبقى يقاوم، أي تدخل بري أميركي. ولا تشعر الولايات المتحدة أن تنظيم “داعش” يشكل خطرا على الأمن القومي الأميركي، بغض النظر عن همجية التنظيم، مثلما تشعر أن نظام الأسد مشكلة إقليمية وليست دولية. وتؤيد أميركا في ذلك استطلاعات الرأي كافة في المنطقة، والتي تعارض الغالبية فيها نظام الأسد والتدخل الأميركي في الوقت نفسه. ولذلك، فإن كل ما تقوم به الولايات المتحدة في سورية والعراق اليوم من محاربة لداعش، يندرج تحت باب إدارة الأزمة فقط، لأن الاعتبارات الداخلية الأميركية لا تريد أكثر من ذلك.
تبعا لذلك أيضاً، فإن الرئيس أوباما لا ينظر للقضية الفلسطينية على أنها أولوية، بغض النظر عن موقفه الشخصي الذي قد يكون متعاطفا مع الفلسطينيين أكثر من العديد من الرؤساء الذين سبقوه. فتعنت نتنياهو، والتأييد الأعمى من الكونغرس لإسرائيل، ساهما في إقناع أوباما بأن التدخل الأميركي الفاعل غير مجد، وأن فرص الحل ضعيفة جداً في أحسن الأحوال، وستجبره على مواجهة الكونغرس الذي يحتاج دعمه لمسائل أخرى؛ بعضها داخلي، والبعض الآخر يتعلق بالملف الإيراني. وكل محاولات وزير خارجيته جون كيري في هذا الموضوع لم تحظ بالدعم المطلوب من البيت الأبيض، وانتهت بالفشل. حتى إنه من الصعب أن تجد اليوم متخصصا حقيقيا في ملف النزاع العربي-الإسرائيلي داخل البيت الأبيض. وبالتالي، فإن أي جهد في هذا الملف لن يتعدى محاولة إدارة الأزمة فقط، لحين رحيل الإدارة الحالية.
اعتقد كثيرون أن الولايات المتحدة دعمت الجماعات الإسلامية في بداية الثورات العربية، وهذا ليس صحيحا. الصحيح أن الولايات المتحدة لها تاريخ طويل في عدم الوقوف مع قوى الوضع القائم، إن شعرت أن هناك رغبة شعبية لتغييرها، بغض النظر عمن يخلف هذه القوى. وبعد آخر تدخل في المنطقة لصالح قوى الوضع القائم في إيران العام 1953؛ حين تمت الإطاحة برئيس الوزراء الإيراني مصدق لصالح شاه إيران، عكست أميركا هذه السياسة مع الشاه نفسه العام 1979 ومبارك العام 2011. ولا يعني هذا أنها دعمت الخميني في إيران أو الإخوان المسلمين في مصر، بل يعني عدم رغبتها اليوم في دعم قوى الوضع القائم رغما عن شعوبها. ولعل ذلك من أبلغ الدروس لأي دولة في المنطقة؛ بأن صمام الأمان يأتي من شعوبها وليس من الأميركيين.
تكاد تكون الأولوية الوحيدة للولايات المتحدة في المنطقة اليوم، إبرام اتفاق نووي مع إيران، تماشيا مع سياستها بتجنب حرب تدفع لها إسرائيل، وقد تضطرها للتدخل فيها رغم معارضة ناخبيها. وليست هناك أولوية تعلو على ذلك للإدارة الحالية. فَهم ذلك ضروري، ولا يعني أن الولايات المتحدة تدعم سياسة ايران في المنطقة، بل إن أميركا لا تنظر إلى هذا الملف بالأبيض والأسود.
خلاصة الأمر أن هناك حقائق جديدة علينا التعامل معها. وانسحاب أميركا من المنطقة تطور من المفترض أن يكون إيجابيا، فقد آن الأوان أن نكون نحن مسؤولين عن سياساتنا ومستقبلنا، ولا نعوّل الكثير على الخارج لحل مشاكلنا.
مروان المعشر
صحيفة الغد الاردنية