المنزل الذي رسم فيه حجي بكر خططه ثم قتل فيه في بلدة تل رفعت السورية – (أرشيفية)
كان ضابط عراقي هو الذي وضع الخطط لاستيلاء تنظيم “الدولة الإسلامية” على أجزاء من سورية. وقد تمكنت مجلة “دير شبيغل” الألمانية من الحصول على وصول حصري إلى أوراقه. وتصور هذه الأوراق منظمة قامت أولاً على الحسابات الدنيوية الباردة البحتة، ولو أنها تبدو في الظاهر مدفوعة بالتعصب الديني.
تنفيذ الخطة
بدأ توسع “الدولة الإسلامية” بطريقة مبهمة تماماً، حتى أن السوريين اضطروا، بعد عام من ذلك، إلى التوقف والتفكير للحظة في الوقت الذي ظهر فيه الجهاديون في وسطهم. كانت مكاتب الدعوة التي تم فتحها في العديد من المدن في شمال سورية في ربيع العام 2013 مكاتب تبشيرية بريئة المظهر، لا تختلف عن تلك التي فتحتها الجمعيات الخيرية الإسلامية في جميع أنحاء العالم.
عندما فُتح مكتب الدعوة في الرقة، “كان كل ما يقولونه هو أنهم ’إخوة‘، ولم يقولوا حتى ولو كلمة واحدة عن الدولة الإسلامية”، كما يقول طبيب فر من المدينة. وتم فتح مكتب للدعوة أيضاً في منبج، المدينة الليبرالية في محافظة حلب، في ربيع العام 2013. ويتذكر ناشط شاب في الحقوق المدنية من هناك: “حتى أنني لم ألاحظ ذلك في البداية. كان مسموحاً لأي شخص أن يفتح ما يشاء. لم نكن نشتبه في أن أي أحد آخر غير النظام يمكن أن يهددنا. فقط عندما اندلع القتال في كانون الثاني (يناير)، أدركنا أن “داعش” كان قد استأجر مسبقاً العديد من الشقق، حيث تمكن من تخزين الأسلحة وإخفاء رجاله”.
كان الوضع مماثلاً في بلدات الباب، وأتاريب وعزاز. وقد فتحت مكاتب الدعوة أيضاً في محافظة إدلب المجاورة في أوائل العام 2013، في بلدات سرمدا، وعتمة، وكفر تخاريم، والدانة وسلقين. وبمجرد أن حدد التنظيم ما يكفي من “الطلاب” الذين يمكن تجنيدهم كجواسيس، وسع “الدولة الإسلامية” وجوده. في الدانة، تم استئجار مبان إضافية، ورُفعت الأعلام السوداء وأُغلِقت الشوارع. وفي المدن التي واجه فيها الكثير من المقاومة، أو لم يتمكن فيها التنظيم من تأمين ما يكفي من المؤيدين، اختار أن ينسحب مؤقتاً. في البداية، كانت طريقة عمله هي التوسع من دون المخاطرة بمواجهة مقاومة مفتوحة، واللجوء إلى خطف أو قتل “الأفراد العدائيين”، في حين ينكر التنظيم في ذات الوقت أي تورط له في هذه الأنشطة الشائنة.
بالإضافة إلى ذلك، لم يكن المقاتلون أنفسهم واضحين أيضاً في البداية. لم يقم بكر وحرس الطليعة المتقدم بجلب المقاتلين مباشرة من العراق، وهو الأمر الذي يبدو منطقياً. بل إنهم حظروا صراحة على مقاتليهم العراقيين الذهاب إلى سورية في واقع الأمر. كما اختاروا أيضاً عدم تجنيد عدد كبير جداً من السوريين. وبدلاً من ذلك، ذهب قادة “الدولة الإسلامية” إلى خيار أكثر تعقيداً: قرروا أن يجمعوا معاً كل المتطرفين الأجانب الذين كانوا يأتون إلى المنطقة منذ صيف العام 2012. كان الطلاب القادمون من المملكة العربية السعودية، وموظفو المكاتب القادمون من تونس، والمتسربون من المدارس من أوروبا من دون أي تجربة عسكرية سابقة، سيشكلون جيشاً مع المقاتلين الذين عركتهم المعارك واختبروا القتال من الشيشان والأوزبك. وسوف يتم وضع هذا الجيش في سورية تحت قيادة عراقية.
مسبقا،ً وبحلول نهاية العام 2012، كانت معسكرات الجيش قد أقيمت في عدة أماكن. في البداية، لم يكن أحد يعرف ما هي الجماعات التي ينتمي إليها هؤلاء المقاتلون. تم تنظيم المعسكرات بدقة وصرامة، وجاء الرجال الذين تواجدوا هناك من دول عديدة -ولم يتحدثوا إلى الصحفيين. كان عدد قليل جداً منهم من العراق. وتلقى القادمون الجدد شهرين من التدريب، وتم ترويضهم على الطاعة من دون قيد أو شرط للقيادة المركزية. كانت عملية الإعداد غامضة بدورها، وكانت هناك ميزة أخرى أيضاً: على الرغم من أن عملية الإعداد كانت فوضوية بالضرورة في البداية، فإن ما نجم منها كان قوات موالية تماماً. لم يكن الأجانب يعرفون أحداً خارج إطار رفاقهم، ولم يكن لديهم أي سبب لإظهار الرحمة تجاه الآخرين، وكان بالإمكان نشرهم بسرعة إلى العديد من الأماكن المختلفة. كان هذا الترتيب متناقضاً بشكل صارخ مع الثوار السوريين، الذين ركزوا في المعظم على مهمة الدفاع عن بلداتهم، وترتب عليهم رعاية أسرهم والمساعدة في جني المحاصيل. وفي خريف العام 2013، سجلت ملفات “الدول الإسلامية” 2.650 من المقاتلين الأجانب في محافظة حلب وحدها. وقد شكل التونسيون ثلث هذا المجموع، يليهم السعوديين والأتراك والمصريون، وبأعداد أقل الشيشان والأوروبيون والإندونيسيون.
في وقت لاحق أيضاً، كانت أعداد الثوار السوريين تفوق إلى حد يائس صفوف الجهاديين عددياً. وعلى الرغم من أن الثوار لم يكونوا يثقون بالجهاديين، فإنهم لم يوحدوا قواهم لتحدي “الدولة الإسلامية”، لأنهم لم يكونوا يريدون المخاطرة بفتح جبهة ثانية. ومع ذلك، استطاع تنظيم “الدولة الإسلامية” تعظيم هالته باستخدام خدعة بسيطة: ظهر الرجال دائماً وهم يرتدون أقنعة سوداء، والتي لم تكن تجعلهم يبدون مرعبين فقط، وإنما عنت أيضاً أن لا يستطيع أحد أن يعرف كم منهم يوجد هناك فعلاً. عندما تظهر مجموعات من 200 مقاتل في خمسة أماكن مختلفة، مكاناً تلو الآخر، هل عنى ذلك أن لدى “الدولة الإسلامية” 1.000 شخص؟ أو 500؟ أو أكثر قليلاً من 200؟ وبالإضافة إلى ذلك، ضمن الجواسيس أيضاً أن تعرف القيادة باستمرار أين يكون السكان ضعيفين أو منقسمين أو أين يوجد صراع محلي، على نحو يسمح لتنظيم “الدولة الإسلامية” بتقديم نفسه كقوة حامية من أجل الحصول لنفسه على موطئ قدم.
الاستيلاء على الرقة
كان على الرقة، التي كانت ذات مرة مدينة إقليمية هادئة على نهر الفرات، أن تصبح النموذج الأولي لغزو “الدولة الإسلامية” الكامل. وقد بدأت العملية فيها بشكل رقيق، لتصبح أكثر وحشية بالتدريج. وفي النهاية، ساد تنظيم “الدولة الإسلامية” على خصوم أكبر منه من دون خوض الكثير من القتال. وشرح طبيب كان قد فر من الرقة إلى تركيا: “لم نكن أناساً مسيسين كثيراً على الإطلاق. كما أننا لم نكن متدينين ولم نكن نصلي كثيراً”.
عندما سقطت الرقة في أيدي الثوار في شهر آذار (مارس) 2013، تم انتخاب مجلس للمدينة بسرعة. المحامون والأطباء والصحفيون نظموا أنفسهم. وتأسست جماعات نسائية. وتأسست جمعية الشباب الحر، وكذلك حركة “من أجل حقوقنا” والعشرات من المبادرات الأخرى. في ذلك الوقت، بدا أي شيء ممكناً في الرقة. لكن ذلك أشر أيضاً، من وجهة نظر بعض الذين فروا من المدينة، على بداية سقوطها.
في مطابقة لخطة حجي بكر، أعقبت مرحلة التسلل والاختراق مرحلة القضاء على كل شخص قد يكون زعيماً أو خصماً محتملاً. كان أول شخص قاموا بضربه هو رئيس مجلس المدينة، الذي اختطفه ملثمون في منتصف أيار (مايو) 2013. وكان الشخص التالي الذي اختفى هو شقيق لكاتب روائي بارز. وبعد ذلك بيومين، اختفى الرجل الذي قاد المجموعة التي رسمت العلم الثوري على جدران المدينة.
وشرح أحد أصدقائه: “كانت لدينا فكرة عن الذين خطفوه. لكن أحداً لم يعد يجرؤ على عمل شيء”. لقد شرع نظام الرعب في توطيد أركانه. وبدءاً من تموز (يوليو)، اختفى العشرات أولاً، ثم المئات من الناس. في بعض الأحيان، كان يُعثر على جثثهم، لكنهم عادة ما كانوا يختفون دون أن يبقى لهم أي أثر. وفي آب (أغسطس)، أرسلت قيادة “الدولة الإسلامية” العسكرية عدة سيارات يقودها انتحاريون إلى مقر لواء الجيش السوري الحر، وجماعة “أحفاد الرسول”، ما أسفر عن مقتل العشرات من المقاتلين وأجبر البقية على الفرار. ووقف الثوار الآخرون ينظرون فحسب. ونسجت قيادة “الدولة الإسلامية” شبكة من الصفقات السرية مع الألوية بحيث اعتقد كل منها أن الآخرين فقط هم الذين ربما يكونون أهدافاً لهجمات “الدولة الإسلامية”.
يوم 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2013، دعا “الدولة الإسلامية” كل قادة المجتمع المدني ورجال الدين والمحامين في المدينة لحضور اجتماع. في ذلك الوقت، اعتقد البعض أن ذلك قد يكون إيماءة للمصالحة. ومن بين الـ300 شخص الذين حضروا الاجتماع، تحدث اثنان فقط ضد الاستيلاء المستمر، وعمليات الخطف والقتل التي يرتكبها “الدولة الإسلامية”.
أحد هؤلاء الشخصين كان مهند حبايبنا، الناشط في الحقوق المدنية والصحفي المعروف في المدينة. وقد عثر عليه بعد خمسة أيام مقيداً ومقتولاً بطلق ناري في رأسه. وتلقى أصدقاؤه بريداً ألكترونياً مجهول المصدر مع صورة لجثته. وتضمنت الرسالة جملة واحدة فقط: “هل أنت حزين على صديقك الآن؟” وخلال ساعات، فر نحو 20 شخصاً من قيادات المعارضة إلى تركيا. لقد وصلت الثورة في الرقة إلى نهايتها.
وبعد وقت قصير، قدم 14 من رؤساء أكبر العشائر البيعة والولاء للأمير أبو بكر البغدادي. حتى أن هناك فيلماً يصور ذلك الحفل. وكان هؤلاء هم شيوخ نفس العشائر التي كانت قد أقسمت يمين الولاء الثابت الذي لا يتزعزع للرئيس السوري بشار الأسد قبل عامين من ذلك وحسب.
موت حجي بكر
حتى نهاية العام 2013، كان كل شيء يسير وفقاً لخطة “الدولة الإسلامية” -أو على الأقل وفقا لخطة حجي بكر. كانت الخلافة تتوسع من قرية إلى قرية من دون أن تواجه مقاومة موحدة من الثوار السوريين. وفي الواقع، بدا الثوار مشلولين في مواجهة قوة “الدولة الإسلامية” الشريرة.
لكن شيئاً غير متوقع حدث عندما قام أتباع “الدولة الإسلامية” بتعذيب قائد محبوب من قادة الثوار وطبيب وإعدامهما في كانون الأول (ديسمبر) من العام 2013. في جميع أنحاء البلاد، انضمت الألوية السورية معاً –من الفصائل العلمانية وأجزاء من جبهة النصرة المتطرفة على حد سواء- لمقاتلة مجموعة “الدولة الإسلامية”. وعن طريق مهاجمة “الدولة الإسلامية” في كل مكان وفي نفس الوقت، تمكنوا من تجريد الإسلاميين من ميزتهم التكتيكية -القدرة على التحريك السريع للوحدات المقاتلة إلى حيث تكون هناك حاجة ماسة إليها.
في غضون أسابيع، تم طرد “الدولة الإسلامية” من مناطق واسعة من شمال سورية. وحتى الرقة، عاصمة “الدولة الإسلامية”، كانت على وشك السقوط تقريباً في الوقت الذي وصل فيه 1.300 مقاتل للنجدة من العراق. لكنهم لم يسيروا إلى المعركة ببساطة. بدلاً من ذلك، استخدموا طريقة أكثر مكراً وتعقيداً، كما يتذكر الطبيب الذي فر من هناك. “في الرقة، كان هناك الكثير جداً من الألوية التي تتحرك في المكان، ولم يكن أحد يعرف بالضبط مَن يكون الآخرون. وفجأة، بدأت مجموعة ترتدي ملابس الثوار بإطلاق النار على الثوار الآخرين. وعندئذٍ، فروا جميعاً، بكل بساطة”.
لقد ساعدت حفلة تنكرية بسيطة مقاتلي “الدولة الإسلامية” على تحقيق النصر: ما عليك سوى أن تقوم فقط بتغيير الملابس السوداء إلى بناطيل الجينز والسترات العادية. وقد فعلوا الشي نفسه في بلدة جرابلس السورية الحدودية. وفي العديد من المناسبات، كان الثوار في مواقع أخرى يأسرون السائقين من مركبات “الدولة الإسلامية” الانتحارية. وكان أولئك السائقون يسألون باستغراب: “أنتم من السنة أيضاً؟ قالي لي أميرنا أنكم كفار من جيش الأسد”.
بمجرد اكتمالها، تبدو الصورة الكلية غرائبية تماماً: ثمة أشخاص يزعمون لأنفسهم مهمة تنفيذ إرادة الله على الأرض، والذين يخرجون ليستخلصوا بالقهر إمبراطورية دنيوية مستقبلية، وإنما بماذا؟ بملابس النينجا، والحيل الرخيصة وخلايا التجسس المموهة في شكل مكاتب تبشيرية. لكن هذه الأساليبت أثمرت. فقد تمكن “الدولة الإسلامية” من التمسك بالرقة، واستطاع استعادة بعض أراضيه المفقودة. لكن ذلك جاء متأخراً جداً بالنسبة للمخطط الكبير، الحجي بكر.
بقي الحجي بكر متخلفاً هناك في بلدة تل رفعت الصغيرة، حيث يحتفظ تنظيم “الدولة الإسلامية” باليد العليا منذ وقت طويل. لكن المدينة أصبحت مقسومة في غضون بضع ساعات فقط عندما هاجمها الثوار في نهاية كانون الثاني (يناير) من العام 2014. بقي نصفها تحت سيطرة “الدولة الإسلامية”، بينما استطاعت إحدى كتائب الثوار المحلية انتزاع السيطرة على النصف الآخر. وعلُق الحجي بكر في النصف الخطأ. وبالإضافة إلى ذلك، وحتى يبقى متخفياً، أحجم عن الانتقال إلى واحد من مقرات “الدولة الإسلامية” العسكرية مشددة الحراسة. وهكذا، وشى أحد الجيران بعراب الوشاية نفسه. هتف الرجل: “هناك شيخ من داعش يسكن هنا!”. واتجه قائد محلي يدعى عبد الملك حدبة مع رجاله بمركباتهم إلى منزل بكر. وقالت امرأة فتحت بفظاظة: “زوجي ليس هنا”.
لكن سيارته واقفة في الخارج أمام المنزل، رد الثوار.
في تلك اللحظة، ظهر الحجي بكر على الباب في منامته. وأمره حدبة بأن يخرج ويذهب معهم، فاحتج بكر بأنه يريد أن يرتدي ملابسه. كلا، كرر حدبة: “تعال معنا على الفور!”
برشاقة مثيرة للدهشة بالنسبة لعمره، قفز بكر عائداً إلى داخل المنزل وركل الباب خلفه وأغلقه، وفقاً لرواية الشخصين اللذين شهدا الحادثة. ثم اختبأ تحت الدرج وصرخ: “لدي حزام ناسف! سوف أفجرنا جميعاً!”. لكنه سرعان ما خرج وفي يده بندقية كلاشينكوف وبدأ بإطلاق النار. وعندئذ أطلق حدبة النار من سلاحه وقتل بكر.
عندما عرف الرجال فيما بعد من هو الشخص الذي قتلوه، قاموا بتفتيش المنزل، وجمعوا أجهزة الحاسوب، وجوازات السفر، وبطاقات تعريف الهواتف الخلوية SIM cards، وجهاز للملاحة GPS، والأهم من ذلك كله: الأوراق. ولم يعثروا على قرآن في أي مكان.
مات حجي بكر وأخذ الثوار المحليون زوجته إلى المعتقل. وفيما بعد، بادلها الثوار برهائن أتراك لدى “الدولة الإسلامية” بناء على طلب من أنقرة. وتم إخفاء أوراق بكر القيّمة في بداية الأمر وحفظها في غرفة، حيث ظلت هناك لعدة أشهر.
مخبأ آخر للمستندات
استمرت دولة الحجي بكر في العمل، حتى من دون وجود مؤسسها. وقد تأكد مدى الدقة التي تم بها تطبيق خططه –نقطة بنقطة- لدى اكتشاف ملف آخر. عندما تم إجبار “الدولة الإسلامية” باطراد على مغادرة مقراته في حلب في كانون الثاني (يناير) 2014، حاول مقاتلوه إحراق أرشيفهم، لكنهم واجهوا مشكلة تشبه تلك التي واجهتها أجهزة السلطة السرية الألمانية قبل 25 عاماً: كان لديهم الكثير من الملفات.
بعض هذه الملفات ظل سليماً لم يُمس، وانتهى به المطاف إلى أيدي “لواء التوحيد”، أكبر الجماعات الثورية في حلب في ذلك الوقت. وبعد مفاوضات مطولة، وافقت المجموعة على إطلاع “شبيغل” على هذه الأوراق ومنحها حقوق النشر الحصرية –كل شيء ما عدا قائمة تضم أسماء جواسيس “الدولة الإسلامية” في داخل لواء التوحيد.
يكشف فحص هذه المئات من صفحات الوثائق عن نظام معقد للغاية، والذي يتضمن آليات الاختراق والمراقبة لكافة المجموعات الأخرى، بما فيها جماعة “الدولة الإسلامية” أنفسهم. وقد احتفظ مسؤولو أرشيف الجهاديين بقائمة طويلة تبين المخبرين الذين قاموا بزرعهم، وفي أي من كتائب الثوار والميليشيات التابعة للحكومة. بل وذُكرت فيها أيضاً أسماء الأشخاص من بين الثوار الذين كانوا جواسيس لجهاز مخابرات الأسد.
يقول الشخص المكلف بحراسة الوثائق: “كانوا يعرفون أكثر مما نعرف، أكثر بكثير”. وكانت الملفات الشخصية للمقاتلين من بين هذه الوثائق، بما فيها رسائل طلب الانتساب المفصلة من المقاتلين القادمين. وعلى سبيل المثال، هناك مقاتل أردني أرسل قائمة طويلة تضم كل مراجعه من الإرهابيين، بما فيها أرقام هواتفهم، ورقم ملف قضية جنائية ضده. كما كانت هواياته مذكورة في الرسالة أيضاً: الصيد، الملاكمة، وصناعة القنابل.
أراد “الدولة الإسلامية” أن يعرف كل شيء، لكن التنظيم أراد في الوقت نفسه خداع الجميع فيما يتعلق بأهدافه الحقيقية. وعلى سبيل المثال، هناك تقرير من عدة صفحات، يذكر بعناية كل الذرائع التي يمكن أن يستخدمها “الدولة الإسلامية” لتبرير استيلائه على أكبر مطحنة للدقيق في شمال سورية. ويتضمن التقرير أعذاراً مثل وجود اختلاسات مزعومة، وكذلك السلوك الفاجر للعاملين في المطحنة. أما الحقيقة –أنه يجب الاستيلاء على كافة المرافق المهمة استراتيجياً، مثل المخابز الصناعية، وصوامع الحبوب، ومحطات التوليد، وإرسال معداتها إلى عاصمة الخلافة غير الرسمية في الرقة- فيجب الإبقاء عليها طي الكتمان.
مرة تلو المرة، كشفت الوثائق عن تلازم وتطابق مع خطط حجي بكر لتأسيس “الدولة الإسلامية” –على سبيل المثال، ضرورة تشجيع زواج أعضاء التنظيم من بنات العائلات النافذة. كما ضمت الوثائق من حلب أيضاً قائمة بأسماء 34 مقاتلاً أرادوا الزواج، بالإضافة إلى حاجيات منزلية أخرى. وعلى سبيل المثال، أشار أبو لقمان وأبو يحيى التونسي، إلى أنهما في حاجة إلى شقق. وطلب أبو صهيب وأبو أحمد أسامة أثاثاً لغرف النوم. وطلب أبو البراء الدمشقي مساعدة مالية بالإضافة إلى مجموعة كاملة من الأثاث، في حين أراد أبو عزمي غسالة أوتوماتيكية بالكامل.
تحالفات متغيرة
ولكن، وفي الأشهر الأولى من العام 2014، شرع عنصر آخر من إرث الحجي في لعب دور حاسم: فترة العقد من الاتصالات التي أجراها مع أجهزة استخبارات الأسد.
في العام 2003، أصيب نظام دمشق بالذعر من احتمال أن يعمد الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، بعد انتصاره على صدام حسين، إلى جعل قواته تواصل تقدمها إلى داخل سورية لإسقاط الأسد أيضاً. وهكذا، في السنوات التي تلت ذلك، تولى ضباط المخابرات السوريين تنظيم عملية نقل الآلاف من المقاتلين المتطرفين من ليبيا، والمملكة العربية والسعودية وتونس، إلى مجموعة القاعدة في العراق. وقد دخل 90 في المائة من المهاجمين الانتحاريين العراق عبر الطريق السوري. وتطورت علاقة غريبة بين الجنرالات السوريين، والجهاديين الدوليين، والضباط العراقيين السابقين الذين كانوا موالين لصدام –في مشروع مشترك لألد الأعداء، والذين التقوا بشكل متكرر إلى الغرب من دمشق.
في ذلك الحين، كان الهدف الأساسي هو جعل حياة الأميركيين في العراق جحيماً لا يطاق. وبعد 10 سنوات من ذلك، أصبح لدى بشار الأسد حافز جديد لبث حياة جديدة في أوصال ذلك التحالف: أراد أن يسوق نفسه للعالم على أنه الأقل شراً بين العديد من الشرور. كان الإرهاب الإسلاموي، وكلما كان أكثر بشاعة كان ذلك أفضل، ضرورياً جداً بحيث لا يجب أن يُترك أمره للإرهابيين. وقد تميزت علاقة النظام بتنظيم “الدولة الإسلامية” –تماماً كما كان الحال مع سلفه قبل عقد سابق- ببراغماتية تكتيكية كاملة. وفي هذه العلاقة، يحاول كل من الطرفين استخدام الآخر على افتراض أنه سوف يكون القوة الأقوى في نهاية المطاف، والقادرة على إلحاق الهزيمة بمتعاون الأمس. وبذلك، لم تكن لدى قادة “الدولة الإسلامية” مشلكة في تلقي المساعدة من سلاح جو الأسد، على الرغم من كافة تعهدات المجموعة بإبادة الشيعة المرتدين. وابتداءً من كانون الثاني (يناير) 2014، ستقوم الطائرات المقاتلة السورية بانتظام –وبشكل حصري- بقصف مواقع الثوار ومقارهم خلال المعارك بين “الدولة الإسلامية” ومجموعات الثوار الأخرى.
في المعارك بين “الدولة الإسلامية” والثوار خلال شهر كانون الثاني (يناير) 2014، قامت طائرات الأسد بانتظام بقصف مواقع الثوار، بينما أصدر أمير “الدولة الإسلامية” أوامره إلى مقاتليه بالامتناع عن إطلاق النار على الجيش. وكان ذلك ترتيباً أصاب العديد من المقاتلين الأجانب بخيبة أمل عميقة وجردهم من الأوهام؛ كانوا قد تصوروا الجهاد بشكل مختلف.
قام “الدولة الإسلامية” بإلقاء كامل ترسانته من الأسلحة على الثوار، حيث أرسل المزيد من المفجرين الانتحاريين إلى صفوفهم خلال بضعة أسابيع فقط أكثر مما كان قد أرسله خلال كامل السنة السابقة ضد الجيش السوري. وبفضل ما يعود في جزء منه إلى الضربات الجوية، تمكن “داعش” من استعادة الأراضي التي كان قد فقدها لفترة وجيزة.
لا شيء يمكن أن يرمز إلى التحول التكتيكي في التحالفات أكثر من مصير وحدة الجيش السوري رقم 17. كانت القاعدة المعزولة بجوار الرقة تحت حصار الثوار لأكثر من عام كامل. لكن “الدولة الإسلامية” استطاع بعدئذ إلحاق الهزيمة بالثوار هناك، وتمكنت قاعدة الأسد الجوية هناك مرة أخرى من تشغيل رحلات الإمداد الجوية دون خوف من احتمال التعرض للهجوم.
ولكن، بعد نصف سنة، بعد احتلال “الدولة الإسلامية” مدينة الموصل والسيطرة على مستودع هائل للأسلحة هناك، شعر الجهاديون بأنهم أقوياء بما يكفي لمهاجمة معاونيهم السابقين. وقام مقاتلو “الدولة الإسلامية” باجتياح الكتيبة 17 وذبح الجنود، الذين كانوا يحمونهم مؤخراً فقط.
ما الذي قد يخبئه المستقبل
النكسات التي تعرض لها “الدولة الإسلامية” في الأشهر الأخيرة –الهزيمة في القتال على الجيب الكردي في مدينة كوباني، وبعد ذلك، خسارة مدينة تكريت العراقية- ولدت الانطباع بأن نهاية “الدولة الإسلامية” أصبحت وشيكة. بدا كما لو ان التنظيم، في خضم جنون عظمته، والمبالغة في تمديد نفسه، وفقدان سحره وهالته، أصبح في حالة تراجع وسوف يختفي في القريب. لكن مثل هذا التفاؤل القسري سيكون سابقاً لأوانه على الأرجح. ربما يكون “الدولة الإسلامية” قد فقد العديد من مقاتليه، لكنه استمر في التوسع في سورية.
صحيح أن تجارب الجهاديين في حكم منطقة جغرافية محددة فشلت في السابق. لكن ذلك كان في معظمه، على الأغلب، بسبب افتقارهم إلى المعرفة المتعلقة بكيفية إدارة منطقة، أو حتى دولة. لكن تلك بالضبط هي نقطة الضعف التي كان استراتيجيو “الدولة الإسلامية” واعين لها منذ وقت طويل –والتي تمكنوا من التخلص منها. في داخل “الخلافة”، تمكن أولئك الذين في السلطة من إقامة نظام هو أكثر استقراراً وأكثر مرونة مما يبدو من الخارج.
ربما يكون أبو بكر البغدادي هو الزعيم المسمى رسمياً، لكنه يبقى من غير الواضح ما هو مدى السلطة التي يتمتع بها. وعلى أي حال، عندما اتصل مبعوث من زعيم القاعدة، أيمن الظواهري، بتنظيم “الدولة الإسلامية”، فقد كان الحجي بكر وضباط استخبارات آخرين، وليس البغدادي، هم الذين تقرب منهم. وبعد ذلك، قال المبعوث شاكياً: “هؤلاء الثعابين الزائفون الذين يخونون الجهاد الحقيقي”.
في داخل “الدولة الإسلامية”، هناك هياكل دولة، وبيروقراطية وسلطات. لكن هناك أيضاً هيكل قيادة مواز: وحدات نخبة تعمل بجوار القوات العادية؛ قادة إضافيون إلى جانب القائد العسكري الاسمي عمر الشيشاني؛ وسطاء قوة يقومون بنقل أو تخفيض أدوار أمراء الأقاليم والمدن، أو حتى جعلهم يختفون من الوجود تماماً. وبالإضافة إلى ذلك، لا تتخذ القرارات –كقاعدة- من جانب مجالس الشورى، التي تشكل اسمياً أعلى هيئة لاتخاذ القرار. بدلاً من ذلك، يقوم باتخاذ هذه القرارات “أهل الحل والعقد”، وهم دائرة سرية أخذت اسمها من إسلام العصور الوسطى.
يستطيع “الدولة الإسلامية” أن يتعرف إلى كافة أنواع الثورات الداخلية وخنقها. وفي الوقت نفسه، يفيد نظام المراقبة المحكم أيضاً في استغلال الدولة المالي لرعاياها.
ربما تكون الضربات الجوية التي ينفذها التحالف بقيادة الولايات المتحدة قد تمكنت من تدمير آبار ومصافي النفط. لكن أحداً لا يستطيع أن يمنع السلطات المالية للخلافة من انتزاع النقود من الملايين من الناس الذين يعيشون في المناطق الواقعة تحت حكم “الدولة الإسلامية” –في شكل ضرائب ورسوم جديدة، أو بمصادرة الأملاك ببساطة. ويعرف تنظيم “الدولة الإسلامية” بعد كل شيء، كل شيء من جواسيسه ومن البيانات التي نهبها من البنوك، وملفات السجل العقاري ومكاتب صرف العملات. إنه يعرف من هو الذي يملك أي بيوت وأي حقول؛ وهو يعرف من الذي يمتلك الكثير من الأغنام ولديه الكثير من المال. وربما لا يكون الرعايا راضين عن ذلك، لكن هناك أقل حد من المتسع أمامهم لتنظيم أنفسهم، ثم التسلح والثورة.
بينما يتركز اهتمام الغرب بشكل كبير على احتمال وقوع هجمات إرهابية في المقام الأول، تم التقليل من قدر السيناريو الآخر: الحرب الإسلامية الداخلية الوشيكة بين السنة والشيعة. وسوف يسمح مثل هذا الصراع لتنظيم “الدولة الإسلامية” بالتخرج والتحول من كونه منظمة إرهابية مكروهة إلى قوة مركزية.
اليوم، تتعقب خطوط الجبهة الأمامية في سورية والعراق واليمن فعلياً هذا الخط الطائفي، حيث يقاتل الأفغان الشيعة ضد الأفغان السنة في سورية، وحيث يستفيد “الدولة الإسلامية” في العراق من الهمجية التي تمارسها الميليشيات الشيعية الوحشية. وفي حال استمر هذا الصراع الإسلامي القديم في التصاعد، فإنه يمكن أن يفيض ويمتد إلى الدول المختلطة طائفياً، مثل المملكة العربية السعودية، والكويت، والبحرين ولبنان.
في مثل هذه الحالة، يمكن لدعاية “الدولة الإسلامية” حول يوم القيامة ونهاية العالم الوشيكة أن تصبح واقعاً. وفي خضم هذا التدفق، سيصبح من الممكن إقامة دكتاتورية استبدادية مطلقة
*نشر هذا التحقيق تحت عنوان:
The Terror Strategist: Secret Files Reveal the Structure of Islamic State
كريستوف رويتر – (دير شبيغل) 18/4/2015
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
صحيفة الغد