الغوطة سوف تسقط. هذه هي الرسالة. وعندما تسقط، لا بد أن تكون إدلب هي التالية بكل تأكيد. وعندئذٍ سيترتب على السوريين أن يقرروا كيف يكسرون سيطرة الولايات المتحدة والأكراد عن الرقة.
* * *
تواصل الحكومة السورية حشد قواتها المسلحة حول جيب الغوطة الشرقية في ضواحي دمشق، بما في ذلك وحدات الجيش التي يقودها شقيق الرئيس بشار الأسد، ماهر، والعميد سهيل الحسن، الملقب بـ”النمر”، والذي جعلته جملة الانتصارات التي أحرزها في مختلف أنحاء البلد رجلاً أسطورياً بالنسبة لأنصار الأسد.
بدلاً من التحرك في الليل –حسب التكتيك التقليدي الذي اعتمده الجيش السوري في هذه الحرب- كان عدد هائل من المدرعات السورية تهدر على الطريقة السريعة المفضية إلى العاصمة في رابعة النهار، قادمة من حلب وحمص في الشمال، ومن درعا في الجنوب، ومن ريف دمشق نفسه. وتريد السلطات أن تكون هذه التحشيدات مرئية، لكي تجعل الثوار الإسلاميين في الغوطة يعرفون كيف سينتهي المطاف بمعركتهم.
مع ذلك، وعلى الرغم من استخدام روسيا حق النقض “الفيتو” في الأمم المتحدة ليلة الخميس، تواصلت المفاوضات بين ثلاث من مجموعات الثوار وبين الجيش السوري -تحت الوساطة المباشرة للروس- من أجل إقامة “ممرات إنسانية” و”طرق للهروب” لعشرات الآلاف من المدنيين العالقين في داخل الغوطة، المنطقة الشاسعة من الأحياء الفقيرة في الضواحي والأراضي الزراعية، التي يسيطر عليها الإسلاميون وجماعات أخرى من الثوار منذ العام 2013. وكانت محادثات مماثلة تقريباً قد جرت بين الإسلاميين والحكومة السورية حول شرق حلب قبل سقوطه في يد القوات الحكومية في كانون الأول (ديسمبر) من العام 2016. وكان سفك الدماء والمفاوضات منذ وقت طويل من سمات الحرب السورية.
ولكن، على الرغم من الخطابات الغربية المتحمسة -واللازمة الثابتة التي تكررها الأمم المتحدة من أن المدنيين في الغوطة الشرقية يعيشون في “جهنم على الأرض- فإن القصف السوري والروسي الكثيف سوف يستمر. ويبدو أن “جبهة النصرة” الإسلامية، “ابنة” تنظيم القاعدة صاحب عار 11/9 ، ما تزال أكثر تردداً في الاستسلام للسوريين –حتى لو سُمح لمقاتليها بالمغادرة بأسلحتهم الخفيفة- من الميليشيا المفضلة لدى السعودية، “جيش الإسلام”، أو وكيل قطر “لواء الرحمن”. بل إن هناك أحاديث تدور عن أن الفصائل المدعومة من السعودية وقطر تتجادل بحدة فيما بينها –حتى في هذا الوقت، وهي محاصرة في داخل الغوطة- حول النزاع الخليجي بين السعوديين والقطريين.
وفي المقابل، لا يبدو أن هناك مثل هذا الانقسام بين أعدائهم. فقوات الحرس الرئاسي أصبحت تقف على أعتاب الغوطة، وقد جلب السوريون الفرقة 14 (القوات الخاصة) إلى الضواحي. كما أن الفرقة المدرعة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، ومقرها دمشق، تتمركز على حدود الغوطة أيضاً، وكذلك تفعل الفرقة السابعة في الجيش، والقوات التابعة للوحدات التي يقودها العميد، “النمر”، سهيل الحسن.
بالنظر إلى العدد الكبير من أفواج الجيش المتواجدة حول الغوطة، لا يستطيع الحسن أن يكون القائد العام، وهو منصب يتم الإبقاء عليه بلا تحديد لأغراض دبلوماسية. لكن قوافل الدبابات، والعربات المدرعة، ومدافع الميدان والشاحنات تتدفق في وضح النهار على دمشق -والتي التقطها بحماس أنصار الحكومة في فيلم فيديو- يُقصَد منها أن تُشاهد.
الغوطة سوف تسقط. هذه هي الرسالة. ومن داخل الجيش السوري، هناك محاولات لتفسير قسوة الهجوم وخلوه من الشفقة. فقد قُتل آلاف الجنود في المعارك حول الغوطة منذ العام 2013؛ وتم صب “موارد” عسكرية هائلة -الكلمة التي يستخدمها الجيش- في هذه المعركة على مر السنين. وجاءت معظم الهجمات بالسيارات المفخخة في دمشق، والقصف المتواصل لوسط العاصمة على مدى السنوات الأربع الماضية، من القوات الإسلامية المتمركزة في الغوطة، خاصة من ضاحية دوما. وبطبيعة الحال، هناك الشروحات الاعتيادية من ضباط الجيش: عن ضربات “جراحية” يجري تنفيذها ضد الثوار الذين يختبئون في المشافي والذين يستخدمون المدنيين كـ”دروع بشرية”؛ لكن هذه كلمات كان العالم قد سمعها من قبل -من الأميركيين عن الموصل وأفغانستان، ومن الإسرائيليين عن غزة، ومن الروس عن الشيشان.
كالعادة، تتحدث الصور أعلى من الكلمات. وبينما تفشل الصور القادمة من الغوطة بوضوح في التقاط الإسلاميين المسلحين الذين يقاتلون في الجيب، ليس هناك سبب للشك في المعاناة التي يقاسيها المدنيون. ويجب تذكر أن البعض من هؤلاء المدنيين سيكون بشكل حتمي من أقارب نفس الجنود السوريين الذين يخططون لاقتحام الغوطة؛ وكان هناك الكثير من أفراد الجيش السوري الذين استولوا على شرق حلب في العام 2016، ممن كانت عائلاتهم تعيش هناك أيضاً. لكن الغوطة تعاني نوعاً مختلفاً من الحصار -واحداً ليس له سابق من حيث الحجم خلال هذه الحرب. وقد أصبح “الرعب والصدمة” -أو الصدمة والروع- هو ما يُفترض أن يواجهه أعداء سورية. وتشكل الغارات الجوية الروسية والسورية دليلاً على ذلك. وحتى لو بدت الخرائط بسيطة على شاشات التلفزة، فإن الحروب الحقيقية تظل أكثر ارتباكاً وفوضوية بما لا يقاس. ولنفكر في طوبة تضرب الزجاج الأمامي لسيارة، وبعشرات الصدوع والكسور التي تُحدثها في كل أنحاء الزجاج؛ هكذا تبدو خرائط الجيش السوري.
الآن، يقال إنه إذا تحرك التقدم السوري الأول في داخل الغوطة ضد المناطق التي تسيطر عليها جبهة النصرة، فذلك يعني أن مقاتلي القاعدة سيكونون هم الأكثر عناداً في المفاوضات من المجموعتين الرئيسيتين الأخريين. وسيكونون هم الذين يعانون أولاً، إلى جانب المدنيين بطبيعة الحال. هذا هو الدرس الذي لا مفر منه للحرب المرعبة. ولدى السوريين، إلى جانب الميليشيات العراقية وحزب الله، خطط معدة في حقيقة الأمر لاجتياح مناطق الغوطة التي يسيطر عليها الثوار. فبعد هذا العرض الهائل للقوة النارية، كيف يمكن للسوريين والروس أن يتوقفوا الآن؟ وإذا فعلوا، من سيصدق رسالة الحصار التالي؟ في إدلب الشمالية الغربية، على سبيل المثال. أو في البلدات التي حولها؟
وهكذا، عندما تسقط الغوطة، فإن إدلب سوف تكون التالية على الأجندة بكل تأكيد. ثم سيكون على السوريين أن يقرروا بعد ذلك كيف يكسرون السيطرة الأميركية-الكردية على الرقة -وربما يكون هذا أحد الأسباب التي جعلت القوات الموالية للسوريين تُهرع الآن لنجدة الأكراد في منطقة عفرين الشمالية، من أجل دق إسفين آخر بين الأتراك والأميركيين، وبهدف إجبار واشنطن على التخلي عن حلفائها الأكراد على ضفاف الفرات.
من المؤلم تذكر كم عاشت هذه المشاهد الشاسعة من النهر والصحراء والجبال بسلام على مدى قرن كامل -ولو بينما كانت مجتمعاتها مقيدة، بطبيعة الحال، وبلا عدالة- قبل حمام الدم. وتتلقى منطقة الغوطة المياه من خمسة أنهار، وتصف الطبعة الفرنسية الصادرة في العام 1912 من كتاب رحلات بيديكر إلى “سورية وفلسطين” كيف أن الروافد التي تتدفق مياهها في رمال الشرق منحت الغوطة اسم “بحيرات المروج”. لكن تلك كانت سورية القديمة.
روبرت فيسك
صحيفة الغد