بعد نحو عام من نزوحه من مدينة دير الزور (شرق سوريا)، واستقراره في مدينة جرمانا بريف العاصمة دمشق، بلغ اليأس أقصى درجاته لدى مهند عبد الرازق، وقرر بيع كليته للحصول على مبلغ مادي يؤمن
به تكاليف حياة عائلته.
خطوة كان ثمنها ألفي دولار أميركي، مما شكل “إنقاذاً” للرجل الخمسيني وعائلته، وفي الوقت نفسه يصفه بأنه قرار من أسوأ ما حدث له في حياته.
“عانينا الأمرّين أنا وزوجتي وطفليّ بعد نزوحنا منذ نحو عامين، ولم أتمكن من العثور على أي عمل سوى بعض الأعمال اليومية المتفرقة، واستنفدنا كل مدخراتنا، إلى أن سمعت في إحدى المقاهي الشعبية وسط دمشق من يتحدثون عن بيع الكلى كفرصة للحصول على مبلغ مادي جيد”. يتحدث الرجل للجزيرة نت ويستطرد “تتبعت الموضوع إلى أن تمكنت من التواصل مع أحد مدبري هذه العمليات، وليتم الأمر خلال ليلة وضحاها”.
أُجريت العملية الجراحية -وفق حديث عبد الرازق- في عيادة صغيرة بحي الزاهرة جنوب شرق المدينة، ولا يستطيع أن يجزم بأنها أجريت ضمن الشروط الصحية اللازمة، كما لا يعلم بكم بيعت كليته بعد ذلك، وإن كان يعتقد بأن المبلغ تضاعف.
ويضيف عبد الرازق في حديثه أنه بكل الأحوال لم أعانِ بعدُ من أي آثار صحية، لكنني أشعر بالندم، صحيح أنني استخدمت النقود في دفع أجرة منزل صغير لعام قادم، وشراء بعض الحاجات الضرورية؛ لكن ماذا بعد؟ كان بيع كليتي حلاً مؤقتاً بدافع اليأس الشديد، وسأعود بعد أشهر للبحث عن منفذ جديد لتأمين ظروف معيشية أفضل لعائلتي”.
إعلانات
لا يبدو عبد الرازق اليوم وحيداً في معاناته، فعشرات من قاطني العاصمة السورية دمشق يلجؤون لبيع أعضائهم، خاصة الكلى وقرنية العين، لما تدر من أرباح كبيرة على صاحبها، وهو على الأغلب من الطبقة المسحوقة مادياً، وسيتم البيع بسعر مضاعف داخل أو خارج سوريا، كجزء من عمليات اتجار غير مشروعة تشهدها البلاد في ظل الحرب، وذلك وفق حديث الطبيب محمد سلطان الذي يعمل جراحا عاما في مشفى المواساة الحكومي بمنطقة المزة (غرب المدينة).
وتتنوع طرق اجتذاب بائعي الأعضاء المحتملين؛ فهي إما عن طريق التواصل الشفهي، أو الإعلانات المنتشرة في شوارع دمشق، خاصة المناطق المزدحمة والقريبة من المشافي والصيدليات، وتبحث عن متبرعين بالأعضاء دون أن تكون لغاية إنسانية بالضرورة.
“مريضة بحاجة لكلية زمرة (فصيلة) الدم B+، يفضل من لديه تحليل أنسجة”، و”مريض بحاجة لكلية زمرة الدم O+ أو B+، يرجى ممن لديه الرغبة في التبرع الاتصال على الرقم أدناه”. إعلانات تسهل رؤيتها في مناطق مكتظة كالمزة وشارع الثورة، وما يلفت النظر فيها بحث بعضها عن فصائل دم متعددة وليست فصيلة محددة، كما يقول سلطان، الذي فضل الحديث باسم مستعار لأسباب أمنية.
ويضيف الطبيب عاينت في عيادتي الخاصة عدة حالات ممن باعوا أعضاءهم وخضعوا لعمليات جراحية ضمن ظروف غير صحية، وعانوا بعد ذلك من مضاعفات عدة؛ الفقر يكون دافع المتخلين عن أعضائهم والطمع دافع عصابات تعمل دون رقيب”.
إحصائيات وقوانين
تتراوح تقديرات نسبة الفقر في سوريا حالياً، وفق إحصائيات دولية عدة، بين 70 و85%، مقارنة بأقل من 30% قبل عام 2011، ويرجع ذلك لدمار الاقتصاد السوري على كافة المستويات، وتراجع الإنتاج المحلي، وانهيار الليرة السورية، وتدمير البنية التحتية في كثير من أنحاء البلاد.
إضافة إلى ذلك، تقدر الأمم المتحدة أعداد النازحين داخل سوريا بأكثر من ستة ملايين شخص، كانت لدمشق وريفها حصة كبرى في استقبال نحو 30% منهم، وفق إحصائيات محلية، يعيش معظمهم ظروفاً اقتصادية غاية في الصعوبة، باحثين عن منافذ وحلول لتحسين واقعهم، واليوم بات بيع الأعضاء البشرية واحداً منها، وهو ما تستغله شبكات اتجار بالأعضاء أخذت بالانتشار في دمشق.
القانون السوري يمنع منعاً باتاً بيع الأعضاء البشرية، ويجرم من يقوم بذلك بعقوبات جنائية تصل إلى الحكم بالسجن والأشغال الشاقة، ومادية تتمثل في دفع غرامات مالية، لكنه يسمح بالتبرع بتلك الأعضاء بالمجان دون مقابل، حيث يقر المتبرع لدى الكاتب بالعدل بشكل خطي برغبته وموافقته على التبرع، وهو ما يدفع التجار إلى نشر إعلانات تبحث عن متبرعين وليس عمن يرغبون في بيع أعضائهم.
هذه الإعلانات، وفق حديث الطبيب سلطان، ما هي إلا طرف خيط يوصل لشبكات تشتري الأعضاء البشرية وتبيعها داخل أو خارج البلاد بأسعار مضاعفة، مستفيدة من غياب الرقابة بشكل تام، حيث يستغرب سلطان عدم متابعة أي جهة قانونية في دمشق تلك الإعلانات أو حتى أعضاء شبكات باتت معظم أماكن تواجدهم معروفة وعلنية، سواء من يتصيدون البائعين المحتملين، أو من يجرون العمليات الجراحية في عيادات عدد كبير منها غير مؤهل صحياً، أو من ينقلون تلك الأعضاء البشرية إلى وجهتها النهائية.
جهات سورية حكومية، ومنها قسم الطب الشرعي في جامعة دمشق، تحدثت عن ازدهار تجارة الأعضاء في سوريا، فوثقت نحو عشرين ألف حالة بيع أعضاء، أغلبها كلى وقرنيات عين، وبشكل خاص ممن هم دون سن العشرين حتى العام الفائت، كما وثقت محاكم دمشق ورود عشرات الشكاوى المتعلقة بتجارة الأعضاء البشرية ضد عدد من الأطباء والعيادات، لكن دون أن يتعدى الحديث تلك التوثيقات والأرقام.
“يدفع ذلك للشك الأقرب لليقين بضلوع متنفذين في النظام بهذه الشبكات، وهو جزء من فساد ينخر المجتمع السوري اليوم بعد سنوات من الحرب”، حسب قول سلطان.
المصدر : الجزيرة