الدبلوماسيون الأميركيون حلقة مؤثرة في صناعة القرار الأميركي

الدبلوماسيون الأميركيون حلقة مؤثرة في صناعة القرار الأميركي

في بلدان العالم المتحضر، وحتى متوسط المدنية، ذات المؤسسات السياسية المحترمة تكون للخبرات السياسية والدبلوماسية والعسكرية مكانة خاصة لا علاقة لها بتغيير الحكومات. ذلك أن تلك الخبرات النادرة تخدم أوطانها قبل حكامها. وعلى سبيل المثال نجد بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية تبعثان بسفرائهما للمنطقة التي تشكل نقطة جاذبة للمصالح الكبرى.

وبعد تقاعدهم يصبح هؤلاء السفراء خبراء معتمدين بالمشورة والتحليل ولا ينظر لهم على أنهم عملوا في إدارة سابقة حتى وإن كانت لدى الحزب الخصم. أما في بلداننا، وفي العراق بصورة خاصة، من يعمل سفيرا في ظل عهد سابق لا بدّ أن تشطب خبرته ومكانته، بل وتشطب حتى حقوقه الفردية أيضا، وهذه جزئية بسيطة مقارنة بما يعيشه العراق من كوارث العهد الجديد.

العلامة الفارقة ما بين البريطانيين والأميركيين هي أن بريطانيا لديها تقاليد وسياقات صارمة تفرض على الدبلوماسيين ألا يفشوا أسرار دولتهم إلا عبر الوثائق التي يفرج عنها بعد خمس وعشرين سنة، على خلاف الأميركيين، حيث نجد السياسيين الدبلوماسيين بعد انتهاء وظائفهم يؤلفون المذكرات ويظهرون في المحافل الأكاديمية والصحافية، وينشّطون في مراكز البحوث الكبيرة رصيد القرار السياسي الأميركي.

سبب هذه الإشارة الأولية، هو ما يلاحظ من اهتمام ملفت لأحاديث وتعقيبات ومقالات بعض السفراء الأميركيين الذين اشتغلوا في العراق مثل جون نغروبينتي وزلماي خليل زادة وروبرت فورد وريان كروكر والعديد من الآخرين. كبار الدبلوماسيين الأميركيين ليسوا نتاج أحزاب طائفية أو عرقية مثلما يحصل في عراق ما بعد 2003 وإنما هم نتاج مراكز ودوائر بحوث سياسية واستخباراتية.

خلال فترة الانتداب البريطاني وكما يقول الدبلوماسي والمؤرخ العراقي نجدة فتحي صفوت “ظهرت في مجتمع بغداد امرأة إنكليزية فريدة، احتلت مكانة بارزة، ومارست نفوذا واسعا في تأسيس الإدارة الجديدة، وفي حكم البلاد، وشاركت في الحياة السياسية، ودخلت مجتمع الرجال بلا تحفظ، فجالست ساسة البلاد وحكامها من عراقيين وبريطانيين. هذه المرأة هي مس بيل، التي وإن كانت صفتها الرسمية سكرتيرة شرفية للمعتمد السامي البريطاني في العراق، فإنها ـ في الواقع ـ كانت كما لقبها الكثيرون، ملكة غير متوجة للبلاد، لها في كل مجتمع صوت، وفي كل قضية رأي، وفي كل مقام مقال وليس من الأسرار التاريخية أن مس بيل وكان لها دور كبير في تأسيس الحكومة العراقية الجديدة وربما في تنصيب فيصل الأول على عرش العراق”.

بعد تراجع النفوذ البريطاني في العراق وتصاعد قوة أميركا الخارجية تزايد اهتمامها بالملف العراقي وتوزع هذا الملف بين دوائر عديدة في واشنطن ما بين الخارجية والمخابرات والبنتاغون تبعا لتطورات الوضع العراقي، كان هذا الملف من اهتمامات الخارجية والبيت الأبيض وفق مسارات العلاقات الدبلوماسية التقليدية، ثم تشاركت في ما بعد في المسؤولية عنه كل من المخابرات والبنتاغون خلال مرحلة التحضير لغزو العراق.

رسم بعض السفراء الأميركيين علامات سياسية لا يمكن إلا أن توضع في مجال التقديرات والتوقعات للوضع السياسي العراقي، فكان اجتماع السفيرة الأميركية في العراق غلاسبي مع الرئيس الراحل صدام حسين علامة على توريطه من قبل واشنطن لغزو الكويت عام 1990 مثلما أشيع. أما بعد احتلال الأميركيين للعراق عام 2003 فقد برز دبلوماسيان أميركيان مازالت فعالياتهما تتابع وتؤشَر على تقويم الفعاليات السياسية العراقية وتشير إلى مدى تأثيرهما في الوضع السياسي العراقي وهما زلماي خليل زادة والثاني بول بريمر؛ الأول أحد مهندسي الاحتلال الرئيسيين، والثاني مديره التنفيذي وأول حاكم مدني في عراق ما بعد 2003.

بريمر أفصح في كتابه “عام قضيته في العراق” عن المستوى المتدني للعقليات التي جلبها بنفسه لتشكيل النظام السياسي، وكانت انطباعاته عبارة عن مجموعة فضائح في عالم السياسة. قدم بريمر مجموعة وصايا للسفير المعين من بعده نغروبنتي، المعروف بتطرفه وتاريخه الدموي في السلفادور، تلك الوصايا فيها من التوصيفات “الرخيصة” بحق السياسيين الذين عينهم بالمناصب من بينها “إياك أن تثق بأي من هؤلاء الذين آويناهم وأطعمناهم، نصفهم كذابون والنصف الآخر لصوص، مخاتلون لا يفصحون عما يريدون ويختبئون وراء أقنعة مضللة، يتظاهرون بالطيبة واللياقة والبساطة والورع والتقوى وهم في الحقيقة على النقيض من ذلك” وهذه الوقائع تشكل نقطة سوداء وارتهانا مهينا أمام المحتل لم يحصلا في تاريخ العراق.

أما الأكثر فعالية وخصوصية من الدبلوماسيين الأميركيين الذين وضعوا ومازالوا علامات مهمة في تطورات الوضع السياسي العراقي فهو زلماي خليل زادة، حيث اكتسب من خلال مواقعه في دوائر صناعة القرار الأميركي على مدى أربعين عاما قدرة على تحديد معالم الأزمة العراقية قبل سقوط نظام صدام حسين وبعده واستشراف الحلول من وجهة نظر المحافظين، فقد قيل عنه إنه يكره العراق وسعى إلى احتلاله وتقسيمه طائفيا، بالتعاون مع إيران، وهو عضو مؤسس في مشروع القرن الأميركي الجديد وهو الذي وقّع مذكرة إلى الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون تطالبه باحتلال العراق ومعه أبرز المحافظين، دونالد رامسفيلد وجيفري بيرغنر وريتشارد بيرل وبول بريمر، وإذا كانت كتلة المحافظين الجدد قد تراجع نفوذها داخل البيت الأبيض منذ أواسط فترة حكم الـ8 سنوات لأوباما لكن زلماي خليل زادة ظل متابعا للملف العراقي حتى بعد مجيء دونالد ترامب للسلطة وعبر قنوات نافذة ومؤثرة بالقرار السياسي الأميركي. ومازال يعتز بأيامه الزاهرة حين كان سفيرا للرئيس الأسبق جورج بوش لدى المعارضة العراقية عام 2002 و2003، ثم سفيرا لبلاده في بغداد عامي 2005 و2006. ويجد لنفسه الحرية في الحديث عن تفصيلات إدارته للعملية السياسية العراقية وفي صناعة الحاكم العراقي.

العرب