في الأسبوع الثالث من آذار/مارس الحالي، أحيا الأكراد أحد أسوأ الأيام في تاريخنا الحديث، ألا وهو الهجوم بالأسلحة الكيميائية على مدينة حلبجة الذي نفذه الدكتاتور العراقي صدام حسين انتقاماً من المقاومة الكردية لنظامه. إن ذكرى مثل هذه الفظائع التي لا تنفك ترتكبها ضدنا حكومات البلدان التي نعيش فيها هي التي تجعل الأكراد تواقين إلى السعي وراء تحقيق الحلم الذي لطالما راودنا بأن تكون لنا دولة خاصة بنا.
وحمل هذا التوق المتقّد بوطن كردي نتائج عكسية كبيرة في العام الماضي. ففي أيلول/سبتمبر، رأت «حكومة إقليم كردستان» فرصةً يمكن اغتنامها لدفع مسعاها إلى الاستقلال قدماً من خلال إجراء استفتاء، متشجّعة بنجاحها في بناء مؤسساتها الخاصة وتنميتها علاقات جيدة مع دول الجوار. وقد صوّتت الأغلبية الساحقة من أكراد العراق الذين شاركوا في الاستفتاء لصالح الاستقلال.
إلّا أنّ هذا العرض الواعد انتهى بكارثة. فقد تصدّت له الحكومة في بغداد بقوّة حرصاً منها على منع الانفصال الفعلي لجزء من أراضيها – بمباركة تركيا وإيران والموافقة الضمنية للولايات المتحدة. وبموجب صفقة أجرتها مع فصيل كردي محلي، أرسلت بغداد جنودها الذين سرعان ما سيطروا على نصف أراضي «إقليم كردستان» وصادرات نفطه. وضيّقت الحكومة المركزية الخناق على الحكومة الكردية من الناحية الاقتصادية ومنعت الرحلات الدولية إلى مطاراتها. [ولا شكّ في] أن الدرس كان قاسياً ولكن واضحاً: إن الحدود الشرق أوسطية التي رسمتها القوى الاستعمارية الفرنسية والبريطانية قبل أكثر من قرن من الزمن هي أكثر ترسخاً مما قد يرغب به الأكراد. إنه أمر مُجحف، لكن على الأكراد أن يسلّموا بهذا الواقع المرير.
ومع ذلك، ثمة آفاق مستقبلية. لقد حان الوقت للقادة الأكراد لكي يحددوا مسار بديل نحو تقرير المصير، إذ يتعيّن عليهم اعتماد شكل واقعي من النزعة القومية يضعون فيه أولوياتهم على أمن مواطنيهم وحريتهم ورفاهيتهم، وعدم تعرضيهم للخطر. وقد يقتضي ذلك قبول ما هو أقل من دولة رسمية. غير أن الحوكمة الجيدة والديمقراطية الحقيقية يجب أن تثبتا أنهما تعويض وافر.
فقبل بضع سنوات فقط ، كان «إقليم كردستان» نموذجاً يُحتذى به للعراق والشرق الأوسط برمته. فسياسة الباب المفتوح في الإقليم استقطبت الشركات والصحفيين والأكاديميين. كما أن «إقليم كردستان العراق» يضمّ الجامعات الأمريكية الوحيدة في العراق وكذلك اثنتين من شركات الهاتف النقال الثلاث في البلاد. وحتى قبل بضعة أشهر، كان الإقليم يصدّر أكثر من نصف مليون برميل من النفط يومياً. فضلاً عن ذلك، لم يساهم الجيش الكردي، أي قوات “البيشمركة” المتبجحة، في حماية كردستان فحسب، بل في تحرير الموصل من تنظيم «الدولة الإسلامية».
لكن هذا النجاح حمل بذور الهزيمة المقبلة. ففي الوقت الذي ازدادت فيه ثقة أكراد العراق في قدرتهم على الصمود بمفردهم، قلّ اهتمامهم في الحفاظ على حصتهم في حكومة بغداد، حيث لطالما مارسوا نفوذاً كبيراً منذ انهيار نظام صدام حسين عام 2003. وكان هذا الابتعاد مبرراً ومفهوماً بالكامل، نظراً إلى خيبة أملهم من العجز المستمر للحكومة المركزية عن التقيّد بالتزاماتها الدستورية تجاه «إقليم كردستان».
والآن، يتعيّن على أكراد العراق مواجهة الواقع من خلال إعادة تأكيد دورهم كفاعلين مهمين في بغداد. يجب على الأحزاب الكردية العراقية اختيار أقوى مرشحيها لخوض الانتخابات العراقية في أيار/مايو ويتعيّن على هؤلاء المرشحين بذل قصارى جهدهم للدفاع عن حقوقهم الدستورية. إن قاعدة الحكم ذات الأغلبية الشيعية تشكّل خطراً حقيقياً على التعددية السياسية في العراق، لكن الردّ الكردي يجب أن يتمثل بالانخراط وليس التهرب. صحيح أن الديمقراطية في العراق شائبة، لكن الانتخابات لا تزال تكتسي أهميةً كبيرة.
ويتعين على الأكراد أيضاً انتهاز الفرصة لترتيب وإصلاح الجبهة الداخلية. ويبقى التحزّب ورأسمالية المحسوبية والفساد آفات «إقليم كردستان». وعليه، يجب أن يكون الإصلاح الأولوية الجديدة للأكراد.
وإذا كان الاستقلال بعيد المنال، مهما كانت هذه الخطوة جائرة، فيتعين على الأكراد التركيز على جعل إقليمهم منارة للديمقراطية وقصة نجاح اقتصادي (من ضمنها أساساً جعل كردستان ملاذاً لرواد الأعمال من جميع أنحاء البلاد). إن هذا الهدف سامٍ ولا يختلف كثيراً عن هدف أي دولة رسمية – ويمكن تحقيقه بالكامل.
ورغم أن واشنطن تعارض استقلال كردستان، تلتزم الولايات المتحدة بإقليم كردي قوي في عراق قوي. وغالباً ما اعتبرت حكومتا بغداد وكردستان هاتين الفكرتين متعارضتين تماماً. وقد لا يكون المجتمع الدولي راغباً في دعم دولة كردية، لكنه رحّب بإقليم كردي عراقي يتمتع بحكم ذاتي ووفر الحماية له، أي دولة مستقلة في كل شيء إلا بالاسم.
إن مساعدة كردستان هذه تخدم المصالح العراقية والأمريكية على حد سواء. ولا يمكن لبغداد كبح الطموحات الكردية بالقوة – فقد سبق أن باءت كافة محاولات الأنظمة العراقية بالفشل. وعليه، من مصلحة بغداد – وأنقرة ودمشق وطهران، في هذا الصدد – أن يركّز الكرد طاقتهم من خلال حكم إقليمهم وتطويره بدلاً من حملهم السلاح. وبإمكان الولايات المتحدة المساعدة عبر حثّ الحكومة في بغداد على بناء المؤسسات المنصوص عليها في الدستور واحترامها، ولا سيما تحقيق فدرالية كاملة وتقاسم نسبي لإيرادات النفط.
ومرة أخرى، نجد أنفسنا نحن الأكراد نكرر القول المأثور القديم “لا أصدقاء لنا سوى الجبال”. ومع ذلك، علينا اعتبار هذا الواقع تحدٍ من أجل تأسيس مجتمع جديد فقط ضمن الحدود التي يفرضها الواقع السياسي. وفي عالم خالٍ من العدالة، يحتاج نضال القومية الكردية القائم منذ قرن من الزمن إلى رؤية جديدة.
بلال وهاب
معهد واشنطن