ليس من عادة الانتخابات العربية تقديم مفاجآت حقيقية لمواطنيها وللعالم، وهذا لأنه صار معروفاً أن الاقتراع والتصويت يجريان في مكان، فيما تقبع السلطات الحقيقية الحاكمة في مكان آخر، بحيث تشبه الانتخابات التي تجريها الأنظمة العربية القول المنسوب للخليفة العباسي هارون الرشيد وهو يخاطب سحابة مثقلة بالمطر: أمطري حيث شئت، فإن خراجك لي.
لا تختلف الانتخابات العراقية في هذا الأمر عن انتخابات غيرها من البلدان العربية فالسلطة الحقيقية استتبّت بعد اجتياح الولايات المتحدة الأمريكية والتحالف الرديف لها في أيدي القوى الشيعيّة التي صارت نهباً لتأثير إيران، وللقوى الكرديّة التي كانت تحت حماية الأمريكيين، أما وقد تقسّم العراق على أسس مذهبية وإثنية فما كان على التيارات المحسوبة على السنّة إلا الائتلاف مع «النظام» الجديد مقابل الحصول على بعض المناصب الوزارية والمقاعد البرلمانية، فيما كان مصير المناهضين للنظام القتل والسجون والملاحقة، مرة، في إطار قانون «اجتثاث البعث» (الذي تم تفعيله بقساوة قبيل الانتخابات الحالية رغم مرور 15 عاماً على سقوط نظام البعث وصدام حسين)، ومرّات تحت قانون «مكافحة الإرهاب».
على هذه العلل الحاكمة لأسسها ومآلاتها، فقد قدمت الانتخابات العراقية الأخيرة معطى جديدا يستحق التأمل، وهو حصول الزعيم الشيعي مقتدى الصدر على النسبة الأكبر من الأصوات مشكلا كتلة انتخابية من 49 مقعدا، وهو ما جعله الأحق بتشكيل حكومة عراقية جديدة، وقد اندفعت بعض التحليلات الصحافية لاعتبار ما حصل انتصارا سعودياً على إيران، فيما اعتبرت وكالة أنباء شهيرة أن الصدر هو «مرشح الأمريكيين».
ترتكز التحليلات الأولى على أن الصدر زار السعودية وفتح بعض الخطوط السياسية معها، لكن الصحيح أن سياسيين عراقيين آخرين زاروا الرياض أيضاً بينهم رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته حيدر العبادي، فيما تعتمد التحليلات الثانية على أن مناصري الصدر هتفوا، أكثر من مرة، لخروج إيران، ورجلها القويّ قاسم سليماني، والحقيقة أنه رغم قوة الصدر الشعبية التي تتماحك مع باقي القوى الشيعية، بما فيها المرجعية الشيعية نفسها، ورغم تعبير جمهوره عن تيّار متنافر، بحدود، مع النفوذ الطاغي لإيران على العراق، لكنّها، لا يمكن أن تتصادم مع إيران استراتيجياً.
يحتسب للصدر، رغم الكلام السابق، أنه كوفئ من قبل الجمهور العراقي على كونه الزعيم الشيعي الأوحد الذي يماحك النظام الذي قامت بتركيبه أمريكا وإيران على أشلاء نظام حزب البعث السابق، وأنه لا يكتفي بالمناورات السياسية والبرلمانية بل يخوض معارك سياسية وشعبية ترعب النظام وتهدد مؤسساته.
إضافة إلى وراثته إرث أسرة ناضلت ضد نظام صدام حسين، فإن قوات الصدر كانت الطرف الشيعي الأكبر (اذا لم يكن الوحيد) الذي خاض معارك ضد الأمريكيين. وإذا كان من الصعب أن ينسى أن قوات محسوبة عليه شاركت في السنوات التي تلت سقوط النظام في المعارك الطائفية الدموية ضد السنّة، فإن من الضروريّ أيضاً أن يذكر أنه ردد كثيرا سرديّة وطنيّة تتواشج مع باقي المكونات المذهبية والقومية في العراق، وأن مواقفه افترقت عن مواقف نوري المالكي بخصوص الاعتصامات السلمية في الأنبار والمحافظات السنية، التي تأثرت بالثورات العربية، وأنه اتخذ مواقف مختلفة فيما يخص نظام الرئيس السوري بشار الأسد. ولعل الملخّص الذي يمكن الخروج به من هذه المعمعة فهو أن الطريق إلى التغيير في العراق ما زالت طويلة، وإذا كانت الانتخابات لا تقدّم وصفة ناجحة وسريعة للديمقراطية، وأنها قد تكون الوجه الآخر للحرب الأهلية التي لم تنطفئ جمراتها بعد، فإنها خيار سلميّ يساعد جمهور العراقيين على الإشارة بأصابع الاتهام إلى المسؤولين عن كارثتهم، وقد يمكنهم، في زمن لاحق، من تغيير قواعد اللعبة الدموية التي تحيط بالعراق.
القدس العربي