على مدى ست سنوات عاشت دمشق وريفها معارك طاحنة كانت مجرياتها ونتائجها المؤشر الأبرز في الحرب السورية، حسم النظام الآن كل الجبهات وأعلن دمشق وريفها “آمنة ” لكن ذلك لم يخف بالنسبة للمعارضين والمؤيدين التكلفة الباهظة على البشر والحاضر والمستقبل.
وهي تحصي خساراتها تستدعي المعارضة أيام كانت ساحات وسط دمشق على مرمى بصر مقاتليها ورصاصهم، وكيف كادوا ينفذون إليها في 18 يوليو/تموز 2012 إثر تفجير مبنى الأمن القومي قتل خلالها وزير الدفاع داود راجحة ونائبهآصف شوكت، ورئيس مكتب الأمن القومي هشام بختيار ورئيس خلية إدارة الأزمة حسن تركماني، في حين أصيب وزير الداخلية محمد الشعار (ما زال في منصبه).
كانت تلك لحظة “سقوط دمشق التي ضاعت” كما يقول معارضون عندما لم تحقق عملية اجتياح المدينة التي كان مخططا لها أهدافها” بشكل غير مفهوم شكل لغزا كما يقول بعضهم، واستطاع النظام الصمود رغم لحظة الارتباك الكبيرة بمقتل أهم قادته الأمنيين والعسكريين.
ويستحضر النظام وأنصاره ضغوط الانتصارات المتتالية لفصائل المعارضة ومشهد دمشق وريفها خصوصا في الأعوام 2012 و2013 حيث كانت المدينة محاصرة من كل الاتجاهات وتقتصر مناطقها الآمنة على أحياء قليلة بوسط المدينة، وكيف أصبح سقوط العاصمة هو الخبر الأكثر انتظارا على وسائل الإعلام.
منذ ذلك التاريخ جرت مياه كثيرة تحت الجسور، وتغيرت خطوط المعارك والخرائط والتوازنات والاصطفافات وأمّن النظام عاصمته نهائيا من أي اختراق وجعلها خارج الضغوط والحسابات مرحليا، وكان الدخول الروسي والإيراني وقبلهما حزب الله العامل الأبرز في صمود النظام وجبهاته والانهيارات المتتالية لصفوف المعارضة حول دمشق.
الفاتورة الباهظة
يبرز المشهد على الأرض والدمار الهائل -سواء في الغوطتين أو مخيم اليرموك والحجر الأسودكما في كل ميادين المعارك- حجم الفاتورة الباهظة التي دفعت، سواء في عدد الضحايا المقدر بعشرات الآلاف أو النزيف الديمغرافي والشروخ الاجتماعية والنفسية والتكلفة الاقتصادية الهائلة.
ويقدر عدد قتلى الحرب في عموم سوريا بنحو 511 ألفا وفق تقديرات المرصد السوري، لكن الرقم قد يكون أكبر في ظل عدم وجود الإحصاءات الدقيقة، كما يقدر عدد النازحين والمهجرين في الداخل والخارج بنحو 11 مليون شخص.
وتشير التقارير التي نشرتها المعارضة إلى أن 85% من القتلى سقطوا جراء عمليات القصف والهجمات البرية التي يشنها النظام والتي استعمل فيها أسلحة محرمة دوليا -بينها الكيميائي- كما حصل في دوما بالغوطة الشرقية عام 2013 وفي المعارك الأخيرة.
وتتهم المعارضة النظام باعتماد الحصار والتجويع للمدنيين والأرض المحروقة خلال هجماته على مناطق سيطرتها، خصوصا في الغوطة الغربية (داريا) والمعضمية ومضايا وقرى وبلدات الزبداني ومدن الغوطة الشرقية قبل نحو شهر.
المعارضة تشير إلى أن النظام يعمل على إعادة تشكيل المناطق التي سيطر عليها وفق أجندته الأمنية والديمغرافية، لذلك فهو يصادر أملاك ملايين الهاربين من الحرب والمهجرين في دمشق ومحيطها كما في غيرها من المدن
وأصدرت الأمم المتحدة عشرين تقريرا تتهم فيها النظام السوري وتنظيم الدولة بارتكاب جرائم حرب والقتل الجماعي والاغتصاب والاعتقال القصري وتجنيد الأطفال، كما اتهمت روسيا بارتكاب جرائم حرب وكذلك بعض قوات المعارضة.
ولا يقتصر الأمر على جرائم الحرب المختلفة كما تقول المعارضة، فالنظام يخطط بشكل رئيسي عبر عمليات التهجيربعد الحصار المميت -كما تقول- لإجراء تغيير ديمغرافي على أساس الطائفة والهوية في ما يصف النظام ما يحصل بأنه عملية إجلاء المقاتلين وعائلاتهم والرافضين لإلقاء السلاح.
ومؤخرا قال الائتلاف السوري المعارض إن عمليات التهجير في الغوطة الشرقية هي جرائم حرب وفق القانون الدولي، وطالب بنقلها إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاسبة مرتكبيها، وبينهم الرئيس بشار الأسد ونظيره الروسيفلاديمير بوتين، وفق بيان له.
المعارضة تشير إلى أن النظام يعمل على إعادة تشكيل المناطق التي سيطر عليها وفق أجندته الأمنية والديمغرافية لذلك فهو يصادر أملاك ملايين الهاربين من الحرب والمهجرين في دمشق ومحيطها كما في غيرها من المدن ويمنحها لأتباعه ومقاتليه.
ونفى النظام هذه المعلومات التي نشرتها أيضا صحيفة التايمز البريطانية، كما يؤكد أن المدن والبلدات التي استرجعها أو تلك التي خضعت لما يسميها المصالحات والتسويات ما زالت تحافظ على نسيجها الديمغرافي السابق وقد عاد أهلها النازحون إلى بيوتهم دون مضايقات.
ويتشكك معارضون من أن نماذج التهيئة العمرانية الجديدة التي يجريها النظام في عدد المناطق المدمرة مثل المعضميةداريا أو بمدن الغوطة الشرقية وما سيأتي منها ستكون طريقة للاستيلاء على عقارات تابعة لأشخاص هجروا أو هاجروا أو غيبتهم ظروف الحرب.
جبهات وتحديات
ويضع النظام دمشق في خانة تغيرات ميدانية جذرية لفائدته كما يقول محللوه العسكريون، وهو يضم هذا “الإنجاز” إلى استعادة مدن وبلداتالقلمون الشرقي، ومؤخرا السيطرة الكاملة على محافظة حمص بعد اتفاق تسوية مع المعارضة في الريف الشمالي وكذلك ريف حماة الجنوبي.
ومع تصفية بقية الجبهات بالحرب أو “التسويات” تبقى درعا وجبهتها المفتوحة هي العقبة الكأداء للنظام، فهو يسيطر فقط على نحو 30% منها أي 1200 كيلومتر مربع تمتد من غباغب (الريف الشمالي) إلى مركز المحافظة مدينة درعا، في حين تسيطر المعارضة على نحو 65% (2500 كيلومتر مربع) بما فيها الحدود مع الأردن وتنظيم الدولة الإسلامية على نحو 5% (250 كيلومترا مربعا).
وفي المنطقة الجنوبية تسيطر المعارضة المسلحة أيضا على أجزاء من محافظة القنيطرة (نحو 360 كيلومترا مربعا)، وكذلك في التنف حيث القاعدة الأميركية على الحدود السورية الأردنية العراقية، وهذه الجبهة هي الأخطر على النظام والمكسب الأساسي للمعارضة في ظل التراجعات الكبيرة.
وينتظر أن تكون هذه الجبهة هي وجهة جيش النظام المقبلة باعتبار أهميتها لجهة قربها من الحدود الأردنية حيث المعابر الرئيسية وإسرائيل وتهديدها لدمشق في صورة اندلاع معركة كبرى (75 كيلومترا)، لكن التحرك بالمنطقة الخاضعة لمناطق خفض التصعيد يبقى محكوما بمحاذير التشابكات الدولية الكثيرة.
وينظر النظام إلى محافظة إدلب -التي يفد إليها المهجرون من كل المناطق- واستعاد مؤخرا نحو 650 كيلومترا مربعا بريفها الشرقي بعد أن كانت كلها تحت سيطرة المعارضة ضمن مخططاته العسكرية المقبلة لكن المعركة أيضا والتسوية في المحافظة تبقى محكومة بالتوافقات التركية الروسية والإيرانية ومخرجات اجتماع أستانا.
وفي حساب الجبهات -ما حسم منها وما بقي- لا تخفي المعارضة خسائرها الكبيرة في دمشق وحولها، في حين يواصل النظام انتشاءه بـ”النصر” الذي أعاد نفوذه عسكريا وسياسيا على عاصمته إلى ما قبل عام 2012، في حين تراكمت الكثير من عوامل التفجير والانفلات في الشروخ النفسية والوضع الاقتصادي والإحباط الذي لم يزل والضغائن التي نفشت وفي الحرب التي لم تضع أوزارها بعد.