ليست إيران دولة عادية في الشرق الأوسط، فهي باتت ذات حضورٍ يحاكي الامبراطوريات الكبرى. وخلال زمن وجيز من عمر الثورة، لا يتجاوز أربعة عقود، بات نفوذها أقوى من دول حكمت المنطقة في أزمنة سابقة، كفرنسا وبريطانيا. تتحكّم إيران اليوم في لبنان والعراق وسورية وجزء من اليمن، ولديها تأثير غير منظور في عموم البلدان العربية وأوروبا وحتى الولايات المتحدة، ووظفت لذلك إمكانات مالية وطاقات بشرية كبيرة.
حين وقّعت الاتفاق النووي مع دول 5 +1 (الولايات المتحدة، روسيا، الصين، فرنسا، بريطانيا + ألمانيا)، في سبتمبر/أيلول 2015، نظر إليه موقعوه الغربيون كتحصيل حاصل، وترجمة للقوة والنفوذ الإيرانيين، وبمثابة تسوية في منتصف الطريق، يتم بموجبها تجميد المشروع النووي الإيراني، مقابل امتيازات اقتصادية هائلة، واعترافٍ غربي بالدور الخاص في الشرق الأوسط. وهنا يندرج التسليم الأميركي والأوروبي بسيطرة إيران على العراق وسورية، وهذا ما يفسر عدم اتخاذ أي موقف جدي أميركي أو أوروبي إزاء مسؤولية إيران عما لحق بالعراق وسورية، قبل توقيع الاتفاق وبعده.
جاء خطاب وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، يوم الاثنين الماضي، في معهد هيرتيج، ليهز المعادلة الموجودة، ويضع المنطقة أمام حساباتٍ مختلفة كليا عن التي عرفتها خلال العقود الماضية، وقدم 12 شرطا من أجل اتفاق جديد يحل محل الاتفاق الذي انسحبت منه إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قبل أكثر من أسبوعين.
الخلاصة الأساسية أو الرسالة التي حملها الخطاب، مطالبة إيران بانسحاب استراتيجي من المنطقة، وهي الدولة التي أقامت كل حضورها في المنطقة على النظرية الاستباقية، وحسبت كل ما بنته من قوة عسكرية واقتصادية وسياسية من هذا المنظور. وها هي الولايات المتحدة تأتي لتهدّدها بفرض عقوباتٍ “قد تكون الأقوى في التاريخ”، وأن واشنطن ستمارس ضغطاً مالياً غير مسبوق على إيران، وطالبها بالخروج من سورية، والتوقف عن دعم ما وصفه بالمجموعات الإرهابية، كحزب الله وحركتي حماس والجهاد الإسلامي. وقال الوزير الأميركي إن بلاده ستتعقب “شركاء إيران في المنطقة، وستقضي عليهم”، واصفاً العقوبات بأنها “ستزداد إيلاماً إذا لم تغيّر إيران سلوكها”، وأنها “لن تخفّف قبل أن ترى واشنطن تحولاً ملموساً في السياسات الإيرانية”.
حملت الشروط الـ12 إعلان حربٍ اقتصادية على إيران. ولكن ليس هذا فقط ما في جعبة واشنطن من مفاجآت تقدمها لإيران، فعدا عما جاء في خطاب الوزير، يجري العمل على تحضير تحالف دولي، سيتم إعلانه قريبا، وهناك من يتنبأ بأنه سيكون على غرار التحالف الدولي ضد “داعش”.
لا يزال هذا التطور الجديد في بدايته. ولذا سيكون من الصعب الجزم بالمسارات التي سوف يسلكها، ومدى السرعة التي سيتقدم بها، لكن رد الفعل الإيراني الأولي الذي صدر بعد ساعة من خطاب بومبيو، وجاء على لسان مسؤول إيراني كبير، يعني أن طهران تلقت الرسالة، وقال لوكالة رويترز إن التصريحات الأميركية “تثبت سعي واشنطن إلى تغيير النظام في إيران”، معتبراً أن “الولايات المتحدة تسعى إلى إرغام طهران على الإذعان لضغوطها”.
قد يبدو الإذعان مخفّفا بالقياس إلى ما ورد في خطاب بومبيو الذي وضع أمام طهران 12 شرطا أشبه بالاستسلام، عندما طالبها بالخروج من سورية التي تعتبر وجودها فيها شأنا استراتيجيا. وبالقياس على ما تقدم به بومبيو إلى كوريا الشمالية مقابل تفكيك مشروعها النووي، يبدو خطابه أكثر تشدّدا وأعلى سقفا، وهذا يجد مبرّره في الفارق بين الحالتين والمنطقتين.
لا تقدم الولايات المتحدة لإيران شيئا في مقابل طلب الانكفاء الاستراتيجي، وهي هنا تراعي التوازن الإقليمي الذي تضغط أطرافه المؤثرة، مثل إسرائيل والسعودية، من أجل تحجيم دور إيران بصورةٍ نهائية.
بشير البكر
العربي الجديد