تتبادرُ إلى الأذهان، فورَ سماع خبر زيارة المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، الرئيسَ الروسي فلاديمير بوتين، في مدينة سوتشي الروسية، وطرحها مسألة القانون الذي أصدره بشّار الأسد قبل أسابيع، مسألة الابتزاز التي يجيدُ ممارستها الساسة. وهو قانون يعطي السلطة التنفيذية الحقّ في تنظيم وإعادة تنظيم أية منطقة عقارية تحدّدها هي، وتقوم العملية على مبدأ حلّ الملكيات الفردية، واعتبار المنطقة كاملة بمثابة عقار واحد، يتمّ إعادة تقسيمه بعد اقتطاع النسب المجانية للصالح العام. ويعتبرُ أكثر الحقوقييّن السوريين هذا القانون بمثابة سلاح جديد يستخدمه النظام لتجريد السوريين المعارضين، خصوصا منهم المهجرين، من ملكياتهم العقارية، فقد اشترط على ملّاك العقارات إثبات ملكياتهم خلال شهر أمام لجان إعادة التنظيم، لمعرفته باستحالة ذلك، في ظلّ التعقيدات الأمنية الهائلة المفروضة عليهم، وعلى وكلائهم القانونيين، في حال تمكّنوا من توكيل أحد يمثّلهم.
أن تذهبَ بنا عقولُنا المشرقيّة المبنيّة، منذ بدايات زمن الانحطاط، بشكلٍ مكثّف وشبه تام على حضور نظريّة المؤامرة في تفسير كلّ حدثٍ خارجٍ عن إرادتنا، ونعجزُ عن تفسيره، أمرٌ لم يعُد ينطلي على كثيرين، أو على الأقل لم يعُد يروق لكثيرين. التاريخُ حركةُ تفاعل جدليّ، وصراعٌ بين مجموعة من المصالح والقيم والمفاهيم، وهو ليس نتاج أفرادٍ يقرّرون بخالص إرادتهم هذه السيرورة المعقّدة، لكنّ المتتبّع لدور الأفراد في التاريخ يجدُ، في المقابل، أنه لم يكن أبداً حاصلاً صفريّاً، بل هو قيمةٌ محسوسةٌ ذات وزن قابلٍ للقياس.
“رسَم بوتين بدعمه طغاة الشرق الأوسط خطّاً بيانيّاً صاعداً لليمين المتطرّف في أوروبا”
صحيحٌ أنّ العامل الفردي يبقى محدود التأثير، ويتمظهرُ انعكاسا، بشكل أو بآخر، لمجموعة القوى الفاعلة، إلّا أنه يكون أحياناً عاملَ حسمٍ، وعتلةً رافعةً للتغيير المطلوب في لحظةٍ مفصليّة من لحظات التاريخ، وهذا ما ينطبقُ بشدّة على الرئيس الروسي الذي يعتبره بنو قومه المسيح المخلّص الذي قام من موته، وبعثَ معه العِرقَ الروسي وشعوره القوميّ المستند إلى موروث القياصرة العريق.
في كلّ الأحوال، كيف نفسّرُ هذه المخاوفَ الألمانية من قانونٍ صدر في دولةٍ فاشلةٍ، تقبعُ منذ خمسين عاماً خارج تاريخ فعل الإبداع البشري؟ ولماذا تمّ الطرحُ أمام القيصر الروسي؟ ولماذا كان ردّ القيصر أن على الغرب تحمّل أعباء إعادة إعمار المدن والقرى التي دمّرها مُصدِرُ هذا القانون وحليفه الراعي؟
لا يُعقل أن يكون بوتين قد طلب من بشّار الأسد إصدار هذا القانون، ولكن يمكن الجزم بأنّه، وبسبب دعمه المطلق وحمايته العسكرية والسياسية التي وفرها له سبعة أعوامٍ ونيّف، أوجد الأرضيّة المناسبة، أو البنية التحتيّة لهذه التراجيديا القانونية. وبغضّ النظر عن القانون وآليات تطبيقه وآثاره، فإنه كان بلا شكّ من أهمّ سعاة البريد الذين حملوا رسائل العنف والابتزاز خارج نطاق تطبيقه المكاني وحيّزه الحيويّ أصلاً.
قرأت ألمانيا بحقّ هذه الرسالة، وسواء أكانت هي المقصودة بها أم لا، فإنها وجدت نفسها معنيّة بها بلا ريب. وهي تحتضن نحو نصف مليون لاجئ سوري، هربوا من براميل النظام، وجزءٌ يسير منهم هرب من جور التنظيمات التي فرّخ قادتها في سجونه وأقبية مخابراته. كلّ واحد من هؤلاء يكلّف الخزانة الألمانية مبلغاً لا يقلّ وسطيّاً عن ألف يورو شهريّاً (بحسب مصادر متخصصة)، ما يعني نصف مليار شهريّاً وستة مليارات سنويّاً. وقد باتت آثار هذا الأمر على الاقتصاد والمجتمع والسياسة الألمانية من أهمّ الحجج التي يرفعها اليمين المتطرّف في وجه الأحزاب الكبرى، وقد تكون زيارة بعض أعضاء البوندستاغ (البرلمان) الألماني من حزب البديل إلى سورية أحد أسباب التسريع في صدور هذا القانون.
المعايير القانونية والدستورية في أوروبا هي ما يجعل هذا الملف حساساً وقابلاً للاستخدام والضغط. وتنص المادة الأولى من الدستور الألماني “تكون كرامةُ الإنسان مصونةً، وتضطلعُ جميعُ السلطات في الدولة بواجبات احترامها وصونها”. لم تتحدّث هذه المادّة عن كرامة المواطن الألماني، بل عن كرامة الإنسان. ومن هنا، يتمتع أي إنسان مقيم في ألمانيا بالدرجة نفسها من الكرامة والاحترام والحقوق (باستثناء الترشّح والانتخاب) التي يتمتع بها أي مواطن ألماني. يستتبع هذا أن تتحمّل الدول الأوروبيّة مسؤولياتٍ ماديّةً كبيرة لرعايتهم.
رسَم بوتين بدعمه طغاة الشرق الأوسط خطّاً بيانيّاً صاعداً لليمين المتطرّف في أوروبا، فأحزاب هذا اليمين أعجزُ من أن تقدّم برامج انتخابية مقنعة، تستطيعُ بها منافسة الأحزاب التقليدية التي تعاقبت على حكم أوروبا، ففي بلدانٍ يُشكلُ المسنّون نسبة كبيرة جداً من سكانها يجب على الأقل أن يكون لأي حزبٍ من ضمن برنامجه الانتخابي ما يتعلق بسنّ التقاعد وبالتأمين التقاعدي وتأمين رعاية المسنّين والعجزة، وهذا أمرٌ لم يستطع تقديمه مثلاً حزب البديل من أجل ألمانيا (AFD)، ولذلك ترفع هذه الأحزاب شعارات معاداة اللاجئين، باعتبارها بطاقة رابحة في أوساط الطبقات الفقيرة.
كانت جزئيّة القانون رقم 10 ولا شكّ إحدى نقاط البحث بين ميركل وبوتين، وتشعّبات الملف السوري تجعلهُ حاضراً في أغلب بازارات المصالح السياسية والاقتصادية الدوليّة. وفي المقابل، هل يمكن التسليم بأن روسيا في موقع أقوى من ألمانيا، أو من أوروبا مجتمعة، حتى تمارس عليها هذا الابتزاز في ملفّ اللجوء، أم أن لدى أوروبا أوراقا كثيرة تستطيع اللعب بها في مواجهتها؟
“ليست ميركل من الشخصيّات المصنّفة تحت وزن الريشة، كما بشّار الأسد، ليستعرض بوتين عليها أو على بلدها عضلاته”
يرى الناظر إلى طبيعة العلاقة ما بين الكتلتين أن الأوروبييّن في موقع أقوى من موقع الروس، بدليل أنهم يستطيعون فرض عقوباتٍ اقتصاديّة عليها، وهي لا تستطيع الردّ بالمثل، فماذا تملك روسيا غير الغاز الطبيعي، لتصدّره إلى أوروبا؟ ليس السلاح بضاعة رائجة هنا. وإذا احتاج الأوروبيّون سلاحاً، فبالتأكيد لن يشتروا الخردة الروسيّة التي لم تتطوّر كثيراً منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. بالعكس، تحتاج روسيا بكل تأكيد التكنولوجيا الغربية والآلات والمواد المصنّعة بأعلى المواصفات التقنية التي لا يمكنها أبداً مجاراتها.
كذلك يمكن لأوروبا عموما، وألمانيا خصوصا، تحمّل ملف اللاجئين عدة أعوام، بل يمكنها الاستفادة من أبناء هذه الكتلة البشرية بشكل ممتاز، بعد جيل واحد، بافتراض أنها لن تستفيد من أيديهم العاملة الآن. ولكن، ماذا لو رفضت أوروبا، أو دولها المحوريّة على الأقل، الانخراط في إعادة إعمار سورية، هل ستخسر كثيراً، وهل سيكون بإمكان الروس الاستثمار بأنفسهم مثلاً، أم هل استثمارهم ممكن من دون موافقة الأميركيين المطلّين عليهم من كل جانب؟ الصراعُ جدليٌّ إذن بين الطرفين، ومن يجد في نفسه القوّة سيحاول الاستفادة أكثر على حساب الآخر.
يبقى أن نتذكّر أن القيصر يسعى إلى استعادة هيبة الدبّ الروسي التي انهارت مع انهيار الاتحاد السوفييتي. وفي المقابل، ليست المستشارة ميركل من الشخصيّات المصنّفة تحت وزن الريشة، كما بشّار الأسد، ليستعرض بوتين عليها أو على بلدها عضلاته. إنها سيدة الماكينات الألمانيّة التي أنجزت المعجزة الاقتصاديّة، بعد هزيمتها في الحرب العالميّة الثانية بعشرين عاماً، بينما انهارت روسيا التي انتصرت بها بعد أربع وأربعين سنة فقط.
ما يهمّنا، نحن السوريين، من هذا البازار كيفيّة انعكاسه على قضيّتنا المُشرعة الأبواب على رياح التأثير الدولية والإقليمية، وكيفية استفادتنا من مجمل المتناقضات، كي نصنع خياراتنا الوطنيّة ونرسمها ضمن الإمكانات المتاحة وهوامش الحركة الضيّقة.
هي أسئلة مطروحة للبحث والنقاش المستمرّين، وليس بالإمكان دوماً طرحُ الإجابات، ولا إيجادُ الحلول، فالسؤال يكون أحياناً جواباً في الوقت نفسه.
حسان الأسود
العربي الجديد