من الواضح أن القرار الذي اتخذه الرئيس الأميركيدونالد ترامب في وقت سابق من هذا الشهر بسحب الولايات المتحدةمن الاتفاق النووي معإيران، والتحول نحو سياسة تركز على تجديد العقوبات والمواجهة؛ من شأنه أن يجعل مستقبل الشرق الأوسط أكثر غموضا. ولم تكن مشجعةً العلاماتُ في الأسابيع التي تلت صدور ذلك القرار.
والواقع أن قرار ترامب لا يمكن تبريره بأي خرق للاتفاق من جانب إيران؛ وهو بالأحرى عودة إلى سياسة المواجهة القديمة وغير الناجحة إلى حد كبير، والتي انتهجتها أميركا في التعامل مع إيران.
والفارق الوحيد -هذه المرة- هو أن إدارة ترامب تبدو عازمة على الذهاب إلى حافة هاوية الحرب -أو حتى ما هو أبعد من ذلك- من أجل فرض إرادتها.
إذا كان لدى الإدارة أية خطط للإبقاء على برنامج إيران النووي تحت السيطرة في ظل غياب الاتفاق النووي؛ فلابد أنها تُبقي هذه الخطط سرا. وإذا حكمنا -من خطابات هذه الإدارة- فسيبدو الأمر وكأن الغارات الجوية ضد منشآت نووية إيرانية من الخيارات المطروحة على الطاولة.
“لم يكن المقصود من الاتفاق النووي -الذي أبرمته إيران وأميركا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين وألمانيا والاتحاد الأوروبي- منع سباق تسلح نووي في المنطقة أو وقوع مواجهة عسكرية فحسب؛ بل كان المفترض أن يعمل كخطوة أولى نحو خلق نظام إقليمي جديد، يكون أكثر استقرارا ويشمل إيران”
لكن القصف لن يُفضي إلا إلى تأخير برنامج إيران النووي، وليس وقفه. فهل ينظر ترامب إذن في خوض حرب برية ضخمة لاحتلال البلاد وإسقاط النظام؟ نحن نعلم جميعا كيف كانت عواقب هذه الإستراتيجية عند تجربتها آخر مرة.
لم يكن المقصود من الاتفاق النووي -الذي أبرمته إيران وأميركا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين وألمانيا والاتحاد الأوروبي- منع سباق تسلح نووي في المنطقة أو وقوع مواجهة عسكرية فحسب؛ بل كان المفترض أن يعمل كخطوة أولى نحو خلق نظام إقليمي جديد، يكون أكثر استقرارا ويشمل إيران.
تأسس النظام القديم بموجب اتفاقية سايكس-بيكو إبان الحرب العالمية الأولى بين بريطانيا وفرنسا. وهي الاتفاقية التي خلقت -إلى حد كبير- الحدود الوطنية القائمة في المنطقة اليوم. وبعد مرور قرن؛ بات واضحا أن النظام القديم عفا عليه الزمن، لأنه لم يعد يوفر أي مظهر من مظاهر الاستقرار.
بدلا من ذلك؛ تنافست القوى الإقليمية الأكثر أهمية (إسرائيل وإيران والسعودية وتركيا) لفرض نفوذها في الحرب الدائرة بسوريا، وهي تنزلق بشكل جماعي نحو صراع يائس بلا طائل للسيطرة على المنطقة بأسرها.
ولأن أي دولة بمفردها لا تملك القوة الكافية لإزالة أو إخضاع الدول الأخرى؛ فإن هذا الصراع المتصاعد لا يَعِد إلا بسنوات -وربما بعقود- من الحرب.
ويمكننا إرجاع حالة عدم الاستقرار في المنطقة مباشرة إلى غزو العراق واحتلاله الذي قادته أميركا 2003؛ فبإسقاط نظام صدّام حسين اكتسبت إيران فجأة الفرصة لتنفيذ نوع من شبه الهيمنة في المنطقة، بدءا بجارتها ذات الأغلبية الشيعية.
وبعد سلسلة من الأخطاء التي ارتكبها الغرب في سوريا؛ أصبحت إيران قادرة على ترسيخ وجود بلا عوائق، ويمتد هذا الوجود على طول الطريق من إيران إلى البحر الأبيض المتوسط.
وعلى هذه الخلفية؛ جرى التفاوض على الاتفاق النووي، وكان المقصود منه إعادة دمج إيران في النظم الدولي، وبالتالي تشجيعها على الاضطلاع بدور إقليمي أكثر مسؤولية. لكن القرار الذي اتخذه ترامب منَع هذا الاحتمال، وترك دور إيران في مستقبل المنطقة مسألة مفتوحة للتخمينات.
ولكن تجنبا لأي لبس؛ ستظل إيران تمثل جزءا لا يتجزأ من الشرق الأوسط على نحو أو آخر. إنها حضارة قديمة لا يمكن ببساطة تهميشها أو تجاهلها، ما لم يكن المرء راغبا في استدعاء المزيد من الفوضى.
بعد التخلي عن إطار التأثير على إيران بالوسائل الدبلوماسية والاقتصادية؛ يصبح البديل الوحيد لدى إدارة ترامب الآن هو تغيير النظام. ومن الواضح أن صقور البيت الأبيض -مثل مستشار الأمن القومي جون بولتون- لم يلتفتوا إلى أي من الدروس المستفادة من كارثة أميركا في العراق.
ونظرا للفشل في جلب الاستقرار إلى العراق أو سوريا؛ لابد أن يكون واضحا أن تصعيد المواجهة مع دولة أكبر كثيرا منهما -مثل إيران- أمر يتنافى تماما مع العقل.
“إذا كان لدى الإدارة أية خطط للإبقاء على برنامج إيران النووي تحت السيطرة في ظل غياب الاتفاق النووي؛ فلابد أنها تُبقي هذه الخطط سرا. وإذا حكمنا -من خطابات هذه الإدارة- فسيبدو الأمر وكأن الغارات الجوية ضد منشآت نووية إيرانية من الخيارات المطروحة على الطاولة”
من المؤسف أن الاتفاق النووي قد لا يتمكن من البقاء بعد إعادة فرض العقوبات الأميركية؛ ذلك أن الشركات الأوروبية لن تتخلى عن السوق الأميركية -وهي أكبر حجما من السوق الإيرانية- لكي يتسنى لها أن تحافظ على العلاقات مع إيران.
وبمجرد أن تفقد إيران شريان الحياة الاقتصادية الممدود إليها من أوروبا وأجزاء أخرى من العالَم؛ فإن طهران قد تقرر إعادة تشغيل برنامجها النووي، أو حتى الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي؛ وهو ما سيزيد مخاطر اندلاع الحرب.
فضلا عن ذلك؛ تعمل روسيا وأميركا على تقويض جهود منع الانتشار النووي عبر تحديث ترسانتيهما النووية. وبينما تحدّث قادة الدولتين ذات يوم عن الحد من الأسلحة المتفق عليه والتحقق من نزع السلاح؛ أصبحوا الآن أكثر اهتماما بالرؤوس الحربية النووية المصغرة، التي يمكن استخدامها لتحطيم المرافق الحصينة تحت الأرض.
عندما تتصرف القوى النووية الرائدة في العالَم على هذا النحو؛ يصبح احتمال نشوب حرب كبرى أخرى بالشرق الأوسط أكثر إثارة للرعب. فمع تزايد تورط روسيا في سوريا؛ أصبح خطر وقوع صِدام بين قوات روسية وغربية بالمنطقة متناميا فعلا. وليس الأمر وكأن روسيا قد تتخلى ببساطة عن موقع القوة الجديد بالتخلي عن إيران الآن.
لا شيء من هذا يبشر بالخير من منظور أوروبا التي ستتأثر بشكل مباشر بتصعيد التوترات بالمنطقة، نظرا لقربها الجغرافي والتزاماتها التاريخية تجاه إسرائيل. وفي هذه الحالة؛ يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يقود الجهود الرامية لإيجاد حل تفاوضي يعالج نوايا الهيمنة لدى القوى الإقليمية وقضية الحد من الأسلحة النووية والتقليدية.
في الوقت الراهن؛ يتعين على أوروبا أن تؤكد مكانتها كصوت العقل، عبر التمسك القوي بفكرة إعادة ترتيب الشرق الأوسط سلميا، وبصرف النظر عن مدى صعوبة المهمة في الوقت الحالي.
يدرك الأوروبيون تمام الإدراك العواقب المترتبة على صراعات الهيمنة التي لا تنتهي؛ فقد تأسس الاتحاد الأوروبي كاستجابة لقرن من الحروب المرعبة التي دفعت أوروبا إلى حافة هاوية تدمير الذات.
وكان الدرس منذ ذلك الوقت واضحا: لن يتسنى ضمان إقامة نظام إقليمي سلمي إلا بالمصالحة والتعاون، أما طريقة ترامب (فرض الهيمنة) فلا تعني إلا الفوضى.