بعد تمدد النظام الإيراني في المنطقة وإظهاره لذلك، من بحر العرب إلى البحر المتوسط، ومن بيروت إلى صنعاء مرورا بدمشق وبغداد، يبدو الآن في حالة تقهقر. لقد تمدد أكثر مما يجب، ولذا كان يجب أن يتقهقر.
لقد سيطرت إيران على العراق بعد خروج القوات الأميركية سنة 2011، بعد أن كانت توافقت مع أميركا على “تقاسم النفوذ والسيطرة”، وعملت على تحكيم قوى طائفية بالسلطة، وتعزيز وجودها على شكل مليشيات، وأسهمت في القتل والتدمير وفرض الانقسام الطائفي.
وكانت عبر حزب الله تؤكد وجودها في لبنان، وهو الحزب الذي بات بلا دور بعد أن اندحرت قوات الاحتلال الصهيوني، وأتت حرب سنة 2006 لتدفعه للموافقة على القرار 1701 الذي ينهي الصراع على الحدود الجنوبية للبنان ويفرض سحب قوات حزب الله ثلاثين كيلومترا شمالا. دخل الحزب إثر ذلك الصراع اللبناني خصوصا بعد انسحاب القوات السورية، وليفرض هيمنته على لبنان بديلا عن الهيمنة السورية التي انتهت بانسحاب هذه القوات.
التصريحات الإيرانية المتعلقة بالسيطرة على عواصم عربية، لا تنم عن عنجهية، بل “فرش أوراق” في سياق الحوار مع أميركا، حيث كان الأمر يتعلق بالتوافق على الدور الإقليمي لطهران في إطار منظور يقوم على “التحالف” بين الطرفين”
وإذا كانت إيران في “تحالف وثيق” مع النظام السوري منذ استلام الخميني السلطة، مع محافظة حافظ الأسد على توازن عبر التحالف مع السعودية، فقد أدى قتل الحريري وانكشاف سعي أميركا للإطاحة بالنظام، إلى توقيع “اتفاق إستراتيجي” بين البلدين، وازنه النظام السوري بتوقيع “اتفاق إستراتيجي” مع تركيا، الدولة التي باتت مرتكزه (مع قطر) في مواجهة الحصار الأميركي الذي فُرض عليه.
كسرت هذه الموازنة بعد أشهر من بدء الثورة، حيث تحول الموقف التركي من الضغط على النظام لدفعه لإصلاح ذاته وبناء “دولة تعددية”، إلى التحضير لتغييره واستباق الآخرين الذين كان يعتقد الأتراك بمسارعتهم لتغيير النظام، ونقصد هنا خصوصا أميركا التي كان الأتراك قد كسروا حصارها للنظام وأصبحوا ملجأه لتجاوز السعي لإسقاطه (أعلن داود أوغلو في تصريح سابق أن تركيا هي من ثبت حكم بشار الأسد سنة 2005).
وعلى ضوء ذلك، أصبح النظام بحاجة شديدة إلى إيران (وانفتح على روسيا لحمايته في مجلس الأمن ودوليا)، وتصاعدت هذه الحاجة بعد أن تهشمت قواته التي قاتل بها (البنية الصلبة) حيث بات يعتمد بشكل متصاعد على قوات ترسلها إيران من حزب الله والمليشيا الطائفية العراقية والحرس الثوري، وأشتات من العالم. لتصبح إيران بعد تصاعد وجودها هي المسيطرة على القرار في دمشق كذلك.
من ثم تحرك الحوثيون للسيطرة على اليمن بعد الشلل السياسي الذي أصاب النظام نتيجة أن الجيش والأجهزة الأمنية ظلت تحت سيطرة علي عبد الله صالح، وقد تحالف الحوثيون مع علي صالح لتحقيق سيطرتهم، وقاتلوا بقواته تحت إشراف قواهم.
هذا التمدد هو الذي جعل قادة إيرانيين يعلنون أنهم يسيطرون على أربع عواصم عربية، وأن وجودهم العسكري يمتد في كل المنطقة من بحر العرب إلى البحر المتوسط. وكانت تصريحاتهم لا تنم عن عنجهية بالتحديد، بل عن “فرش أوراق” في سياق الحوار مع أميركا تحت عنوان البرنامج النووي الإيراني. حيث كان الأمر يتعلق بالتوافق على الدور الإقليمي لإيران في إطار منظور يقوم على “التحالف” بين الطرفين كما أشرت في مقال سابق.
وكان يبدو واضحا الخلاف بين الطرفين حول الأمر، حيث تريد إيران أن يكون لها الدور الإقليمي المهيمن، وتريد أميركا أن تضمن عبر التحالف معها أمن الخليج العربي، وتشكيل سد أمام أخطار محتملة يمكن أن تكون قادمة من الصين. بهذا لم تكن ترى أن لإيران كل هذا الدور، بل يجب أن يحجم وفقا لما تراه هي.
“يبدو أن جبهة القلمون فُتحت بعد أن توحدت الكتائب المسلحة وربما تنفتح الأيام القادمة جبهة دمشق ليتحقق اختراق يفضي إلى اختلال كبير بميزان القوى. لقد بات واضحا أن قوى النظام تتهاوى، وأن دعم إيران بات ضعيفا نتيجة أزمتها المالية”
وكان الضغط الاقتصادي هو الذي يفرض على إيران تقديم التنازلات حول برنامجها النووي، حيث باتت عاجزة عن الحصول على أموال مبيعاتها النفطية التي هي المصدر الأساسي للدولة، بعد أن جرى فرض عقوبات على البنك المركزي الإيراني، خصوصا بعد أن استنزفت في الحروب والصراعات في سوريا ولبنان، لكنها حاولت أن تظهر مقدرتها على الهيمنة على المنطقة الممتدة من البحر المتوسط إلى اليمن لكي تكون قوية في التفاوض على حدود دورها الإقليمي.
في العراق، حاول نوري المالكي اللعب بداعش (تنظيم الدولة الإسلامية) لكي يفرض عودته رئيسا للوزراء بعد الانتخابات التي جرت العام الماضي، والتي لم يحصل فيها على أغلبية ولا على رضى حلفائه، لكن تبين أن لداعش امتدادا آخر، حيث كانت مدخل “العودة الأميركية” إلى العراق. وعبر “الحرب على داعش” كانت أميركا تعمل على فرض مسكها بالسلطة من جديد، وإعادة “توطين” آلاف الجنود كما كانت تخطط حين احتلال العراق.
ولهذا أصبح تكتيكها هو تدعيم دور “السنة” في العملية السياسية، وإخضاع رئيس الوزراء لسيطرتها، وأساسا تغيير معادلة القوى “على الأرض”، من خلال إضعاف دور المليشيا الطائفية الشيعية وتأسيس مليشيا مقابلة. ومن ثم إطالة أمد الصراع “ضد داعش” من أجل تحقيق ذلك. وإذا كان قد تحقق بعض “الانتصارات” في مناطق عديدة، فقد حاولت إيران أن تتجاوز التكتيك الأميركي عبر زيادة دور الحشد الشعبي، ودورها المباشر، لهذا خاضت الحرب في تكريت دون تشاور مع أميركا، ودون غطاء جوي أميركي.
لكن المعركة أفضت إلى عكس ما أرادت، حيث “علقت” في حرب هزت وضع الحشد الشعبي وأفقدته زخمه، ولم تحسم المعركة إلا بتدخل الطيران الأميركي بعد أن فرضت أميركا شروطها. وهذا ما جعلها تتقدم الآن من أجل تسليح العشائر في الأنبار، وبالتالي إعادة التوازن “على الأرض”. وأميركا تسارع الآن من أجل أن تحقق التغيير الضروري لمصالحها في العراق، وبالتالي أن تفرض تراجع سيطرة إيران، لكن دون أن تلغيها.
في اليمن، وبعد أن ظهر “انتصار” تحالف الحوثيين وصالح نتيجة انحياز الجيش لصالح والتحشيد المسلح للحوثيين المدعومين من إيران، فقد أفضى التدخل السعودي ضمن تحالف عاصفة الحزم إلى تدمير جزء مهم من قوة الحوثيين وصالح، ونهوض المقاومة الشعبية في العديد من مناطق اليمن، خصوصا في الجنوب. وأصبح واضحا أن هزيمة هؤلاء باتت قريبة، رغم محاولات إيران التهديد والتحرش. وبذلك يبدو واضحا خسارة إيران لوضعها اليمني.
تبقى سوريا، حيث أصبح واضحا أن توافقا قد تحقق بين كل من السعودية وقطر وتركيا انعكس بمسألتين، الأولى توحيد الكتائب المسلحة في الشمال السوري، وثانيا توحيد الدعم، وربما تقديم أسلحة. ولهذا توحدت القوى المتناقضة، والتي كان تفككها يشل الصراع ضد النظام طيلة سنتين (وكان بعضها ينشط أصلا ضد قوى الثورة)، وحققت تقدما مهما في الشمال. كما أن توحد الكتائب المسلحة في الجنوب منذ أشهر سابقة قد أفضى إلى تقدم مهم كذلك.
“مؤشرات كثيرة على أن تقدم إيران قد انكسر، وأن الأوراق التي أرادت اللعب بها في التفاوض مع واشنطن قد تلاشت: باتت تخسر في العراق واليمن وسوريا معا، وباتت في مفاوضاتها معنية بقبول الحدود التي تقررها أميركا”
ويبدو أن جبهة القلمون قد فُتحت بعد أن توحدت الكتائب المسلحة كذلك، وربما تنفتح في الأيام القادمة جبهة دمشق ليتحقق اختراق يفضي إلى اختلال كبير في ميزان القوى. لقد بات واضحا أن قوى النظام تتهاوى، وأن الدعم الإيراني بات ضعيفا وبقوى غير مدربة، وبات الدعم المالي محدودا نتيجة أزمة إيران المالية. بهذا يبدو النظام، وتبدو إيران، في أضعف حالاتهما. وسوف ينعكس ذلك على وضع حزب الله، الذي فقد كثيرا من قدراته العسكرية في سوريا، وفقد “بريقه” وربما يبدأ في فقدان قاعدته الاجتماعية.
كل ذلك يشير إلى أن التقدم الإيراني قد انكسر، وأن الأوراق التي أرادت إيران اللعب بها في التفاوض مع أميركا قد تلاشت. باتت تخسر في العراق واليمن وسوريا معا، وباتت في مفاوضاتها مع أميركا معنية بقبول الحدود التي تقررها أميركا.
وإذا كان توقيع الاتفاق النووي سيتم في 30 يونيو/ حزيران القادم، فربما يكون التوافق على “الوضع الإقليمي” هو ما يجري الآن، لكي يتحقق الاتفاق الشامل وترفع العقوبات عن إيران بعد أن بات وضعها الاقتصادي في حالة صعبة. وهنا يمكن القول إنه سيبقى لها دور في العراق، لكن تحت السيطرة الأميركية. وسيكون دور الحوثيين ثانويا في اليمن، وبالتالي لن يكون لها تأثير هناك. وفي سوريا ربما يكون السيناريو محددا في خروج إيران، بترتيب مع روسيا. وهو الأمر الذي سينعكس على وضع حزب الله في لبنان وعلى مجمل الوضع اللبناني بما يعيد التوازن فيه.
إيران تتقهقر، نعم. ولكن لمصلحة سيطرة جديدة لقوى لا تختلف كثيرا، وليس لما يخدم الثورات التي يبدو أن المطلوب هو تناسيها “لكي تموت بهدوء”، رغم أن ثورات الشعوب لا تموت. فقد نهضت ضدها كل هذه القوى، وبالتالي مهما جرى من تغيير في السيطرة فإن السعي لتحقيق التغيير سيبقى قائما.
سلام كيلة
الجزيرة