في عام 2002 نشرت دورية «الشؤون الخارجية» الصادرة عن المجلس الأميركي للشؤون الخارجية،صاحبة المقام الرفيع بين الدوريات السياسية المرموقة، مقالا تتساءل فيه عن كيف سيتعامل العالم مع عصر تنخفض فيه أسعار النفط إلى مستويات سحيقة. المدهش أنه قبل أن تنزل الدورية إلى الأسواق، كانت الأسعار آخذة في الارتفاع وسط عجب المراقبين. تكرر العجب مرة أخرى بعد الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية عام 2008، حينما ساد التوقع بأن تنخفض الأسعار منطقيا نتيجة انخفاض الطلب العالمي على النفط، ولكن ما أن جاء عام 2009 ثم 2010 حتى قفزت الأسعار إلى مستويات جرى الحلم بها في عقود سابقة فقد تعدى سعر البرميل 100 دولار. من عاش العقود الماضية عليه تذكر أن نادي روما تخيل مثل هذا السيناريو عام 1974، وأيامها أقام في الدنيا فزعا كبيرا من نضوب المواد الأولية نتيجة السفه العالمي في استخدام عناصر الطبيعة. كان الباب مفتوحا على مصراعيه لكثير من التشاؤم.
آخر الغرائب جاءت أثناء انعقاد المؤتمر الافتتاحي لمعهد دول الخليج العربية في واشنطن (The Arab Gulf states Institute in Washington) الذي اختار لبداية عمله موضوع «الدبلوماسية النفطية: الاقتصاد السياسي لأسعار النفط المتقلبة Petro Diplomacy: The Political Economy of Volatile Oil Prices». فقد عرض أحد المشاركين لتوقعات شركات ومنظمات ومؤسسات ومراكز بحوث دولية فيما يتعلق بأسعار النفط، فكانت النتيجة أن أيا منها لم ير سببا واحدا لكي تهبط أسعار النفط عن 100 دولار للبرميل، بينما كانت هناك أسباب كثيرة لكي يصل إلى 150 دولارا. لم ينته الشهر حتى بدأ الهبوط الكبير للأسعار الذي اقترب في شهر فبراير (شباط) من العام الحالي إلى 40 دولارا للبرميل، ومن ثم بدأت التساؤلات عن الوقت الذي يصل فيه السعر إلى أقل من 30 دولارا. النتيجة ساعة انعقاد المؤتمر أن سعر البرميل في المتوسط وصل إلى 65 دولارا للبرميل!
الأمر الرائع في الموضوع، أنه بات هناك أخيرا معهد للبحث والدراسة والتوصية بالسياسات في واشنطن، يكون مجال عمله الأساسي دول الخليج العربية الست الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي. فهناك فارق كبير بين أن يكون هنا أو هناك دارس أو باحث متخصص في هذه المنطقة، أو يقوم مركز من المراكز بوضع برنامج لدراسة المنطقة ينتهي وجوده مع تغير الظروف، أو أن تكون دراسة المنطقة كواحد من هوامش دراسة الشرق الأوسط. وجود هذا المركز الجديد، وفي العاصمة الأميركية، يعطي دول الخليج العربية والولايات المتحدة ساحة لتلاقح الأفكار، و«بناء جسور التفاهم» كما يقول شعار المعهد الجديد حول فهم التحولات واقتراح السياسات سواء لصانع القرار في أميركا أو في الخليج.
موضوع الافتتاح كان مثيرا هو الآخر، لأن أسعار النفط لا توضع في فراغ، ورغم الدور الحاكم الذي يلعبه العرض والطلب في الموضوع، فإن القانون يظل عاجزا عن شرح كيف يمكن لزيادة في العرض لا تصل إلى 3 في المائة، أن تحقق انخفاضا في السعر قدره أكثر من 50 في المائة؟! الجائز في الأمر، أن تعدد المتغيرات وكثرتها، والتوقعات والمضاربات وتنوعها، تجعل مسألة توقع السعر نوعا من «ضرب الودع» أو «فتح الفنجان». ولكن، ذلك ليس ما يقوله الدارسون الذين لديهم صبر عجيب على إعادة الدراسة لتبرير ما عرفناه بالفعل. ولكن ذلك لا يمنع بعضهم من المغامرة حيث تنبأ أحدهم في المؤتمر بقدر غير قليل من اليقين أن يصل سعر البرميل إلى 80 دولارا مع حلول شهر سبتمبر (أيلول) القادم. الحجة هنا أن الظروف الراهنة سوف تجبر روسيا على تخفيض إنتاجها، وساعتها يمكن للمملكة العربية السعودية أن تتدخل بحيث يجري ابتلاع الفائض في العرض فتعود الأسعار للارتفاع.
لا أعلم عما إذا كان ذلك صحيحا أم لا؛ ولا أظن أنه من الممكن استبعاد مثل هذا السيناريو؛ ولكن ما هو داخل في إطار التخصص للكاتب أنه فيما عدا قرار «الحظر البترولي» كما حدث عام 1973، فإن قرارات السياسة الخارجية لا ترتبط كثيرا بقرارات تحديد أسعار النفط، خصوصا بالنسبة للمنتجين الكبار الذين يهتمون أكثر بالمصالح الجيوسياسية. فضلا عن ذلك، فإنهم جميعا لديهم احتياطيات ضخمة تبلغ في حالة السعودية مثلا 750 مليار دولار، مضافا لها 150 مليارا في الجهاز المصرفي السعودي، وهناك ثقة في الجهاز المصرفي العالمي بما يكفي لكي يكون ما هو متاح للمملكة يتعدى تريليون دولار. لذا، فإن انخفاض الأسعار لا يبدو أنه سوف يكون له تأثير على السياسة السعودية في المنطقة، كما أنه لم يكن له تأثير على السياسة الإيرانية؛ ولا ندري تأكيدا عما إذا كان القرار الروسي بالامتناع عن التصويت في مجلس الأمن عند اتخاذ القرار الخاص باليمن، راجعا إلى الأوضاع النفطية الروسية، أو أنه يرتبط بتوازنات القوي عند مدخل البحر الأحمر.
الأمر المدهش الجديد هو أن التطورات التكنولوجية في النفط الصخري، خصوصا في الولايات المتحدة، كانت هي التي أدت إلى زيادة العرض ومن ثم انخفاض الأسعار. وفي البداية، كان الذائع أن انخفاض السعر يجعل تكلفة النفط الصخري عالية بحيث يخرج من السوق، ومن ثم يقل العرض فترتفع الأسعار مرة أخرى. ولكن أحد المشاركين بدد هذه القواعد الذائعة بشدة في السوق النفطية لأن التطورات التكنولوجية لم تتوقف، بل إنها جعلت تكلفة النفط الصخري لا تتحمل فقط سعرا للبرميل قدره 40 دولارا بل ما هو أقل بكثير، وأن الآبار التي خرجت من العملية الإنتاجية نتيجة انخفاض الأسعار مع ارتفاع التكلفة كان محدودا للغاية إلى درجة لم تؤثر بشكل جوهري على العرض المتاح. معنى ذلك أن المباراة بين العرض والطلب والتطور التكنولوجي سوف تظل دائرة. وطالما أن كلا منهما يتحكم فيه عدد كبير من المتغيرات، فإن اليقين بصدد الأسعار سوف يظل غائبا، ومع ذلك، فإن أحدا لن يتعب أو يمل من المغامرة.
فيما يخصنا في العالم العربي، ربما كان علينا التنبه إلى أن الأسعار لا تعبر عن أكثر من النفط الخام، أما النفط الذي يجري تكريره والاستفادة من مشتقاته في المصانع المختلفة يجعل العائد من نوع آخر، لأن القيمة المضافة تدخلنا في عالم السلع المصنعة. أكثر من ذلك، أن عددا من الدول العربية دخل في سوق نقل النفط والغاز، كما دخل في أسواق التوزيع والاستهلاك في الدول الصناعية. أسعار النفط في هذا العالم الكبير من الأسواق المتنوعة لم تعد تجعل هناك سببا «للخضة»، عندما تنخفض الأسعار!
عبد المنعم سعيد
الشرق الاوسط