في دقائق الفجر الأولى، ينطلق الشاب الثلاثيني الداني محمد، برفقة زملائه، إلى الغابة المحيطة بمدينة جرادة (شمال شرقي المغرب)، للغوص في باطن الأرض بحثا عن لقمة عيش بين صخور الفحم الحجري.
حاله مثل المئات من العاملين الذين وجدوا أنفسهم بعد مغادرة شركة مفاحم المغرب قبل عقدين من الزمن، يستغلون المناجم بطريقة تقليدية ويبيعون ما يجنونه لفائدة تجار كبار بمساعدة الوسطاء.
يقول محمد للجزيرة نت إنه لم يجد ملاذا من ويل البطالة غير اللحاق بالآلاف من العاملين في مناجم الفحم الحجري، رغم أن هذا الخيار بالنسبة له يعني تكبد مخاطر تهدد حياته في أية لحظة.
النشاط والحيوية اللذان يدبان في جسد محمد يخفيان قلقا مستمرا مما يخبئه القدر، ويشغله السؤال الذي بات يؤرق الكثيرين من زملائه مع تنامي أخبار الموت، وهو سؤال عن العامل التالي الذي سيلقى حتفه تحت الصخور والأتربة؟
الموت يطاردهم
أغلب “شهداء لقمة العيش”، كما يحب أهل جرادة أن يسموهم، قضوا بسبب انهيارات جزئية في المناجم، إذ لا تمنح لهم الصخور والأتربة التي تتهاوى عليهم أي مجال للنجاة بأنفسهم.
يقول ميمون حفصي، وهو عامل ضمن سبعة آخرين التقتهم الجزيرة نت في هضبة بالقرب من جرادة، إن المنجم الذي يشتغل فيه يبلغ عمقه 53 مترا، في حين يبلغ عمق مناجم أخرى أكثر من ذلك، ويمكن أن يصل العمق إلى مئة متر، حسب مستوى تمركز الفحم في الأرض.
في الأثناء، وصلته إشارة من أربعة من زملائه المنهمكين في باطن المنجم، إيذانا بامتلاء كيس الفحم لرفعه إلى الأعلى بواسطة رافعة تعمل بوقود “الديزل”.
ويجد زملاء حفصي أنفسهم في باطن الأرض مجبرين على شق مسالك أفقية، بارتفاع لا يتجاوز نصف متر، تضمن لهم التحرك زحفا.
ودرءا لأخطار الانهيارات يستعينون بأخشاب من غابة الصنوبر تآكلت هي الأخرى بفعل الضغط المستمر عليها، لكن هذه الأخشاب لا تكون دائما بالصلابة التي يعتقدها البعض، فتستسلم أمام الضغط الشديد للصخور والأتربة، فتنكسر لتردم الأتربة فوق الباحثين عن لقمة عيشهم.
وباستثناء الأخشاب التي يستخدمها العمال، لا توجد أي وسائل تضمن سلامتهم داخل المناجم، وهو ما يفسر أن الأمل في النجاة عند وقوع انهيار في منجم ما يكون ضعيفا، خاصة أمام صعوبة القيام بأعمال الإنقاذ داخل المناجم، بالنظر إلى هندستها المعقدة، التي لا يستوعبها غير العاملين فيها لسنوات.
ويتكبد العمال كل هذه المخاطر ليحصلوا في نهاية يومهم على دخل يتراوح بين مئة ومئتي درهم (بين 11 و 22 دولارا).
ويبيع العمال الكيس الواحد من الفحم الممتاز بمئة درهم (نحو 11 دولارا)، بينما الأقل جودة -والذي يشبه التراب في شكله- فيباع بنحو 25 درهما (نحو ثلاثة دولارات)، لفائدة تجار كبار يعيدون بيعه بأضعاف ثمنه في مدن أخرى، لاستخدامه في الحمامات الشعبية والتدفئة في فصل الشتاء، وإنتاج الطاقة الكهربائية في بعض وحدات إنتاج الطاقة، كالتي توجد بجرادة نفسها.
الموت في أرقام
وتشير أرقام رسمية إلى أن عدد العمال الذين كانوا يعملون بطرق عشوائية في استخراج المعادن، والذين لقوا مصرعهم في عموم المحافظة، بلغ منذ إغلاق الشركة التي كانت تستغل المناجم أبوابها في مطلع الألفية الثالثة؛ 48 قتيلا والعديد من المصابين.
عامل يستخدم الرافعة لاستخراج الفحم من باطن المنجم (الجزيرة)
وقبل عدة أسابيع، من الحادث الأخير الذي راح ضحيته شابان في منجم الرصاص بسيدي بوبكر، أثار مسؤول حكومي المخاطر المحدقة بالعاملين في هذه المناجم، خاصة العاملين في منجم الرصاص الذي يلجه دفعة واحدة المئات من العاملين، بالنظر إلى شكله الذي يشبه المغارة.
وأكد أن الخيار الذي تدرسه السلطات هو وضع أجهزة استشعار على منجم الرصاص، حتى تستشعر حركات التربة الدالة على حدوث انهيار وشيك، لتساعد العاملين على الإنذار والخروج من المنجم إلى بر الأمان.
وفي سياق تفاعل السلطات ورغبة منها في ضمان حد أدنى من شروط العمل اللائق في هذه المناجم، مكنت وزارة الطاقة والمعادن العمال من أربعة تراخيص استثنائية لاستخراج الفحم وتسويقه.
وحتى المناجم التي لم تعد صالحة بسبب نفاد احتياطاتها من الفحم، والتي تقدرها السلطات المحلية بنحو 2200 منجم، قام مجلس الجهة بتمويل صفقة ردمها، بمبلغ إجمالي قدر بأكثر من أربعة ملايين درهم (نحو 424 ألف دولار).
المصدر : الجزيرة