يورط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كندا واليابان ودول الاتحاد الأوروبي في حرب تجارية بعد أن فعل المثل مع الصين ومع جيران الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية. السياسة الشعبوية التي تمارسها إدارة ترامب بخليطها الخاص من الشوفينية الأمريكية (أمريكا أولا) وغرور القوة العظمى والادعاء بحماية مصالح الطبقة العاملة ومحدودي الدخل، هذه السياسة تستسيغ فرض العقوبات التجارية على الحلفاء والشركاء والجيران ولا تكترث بالتداعيات الخطيرة في سبيل تحقيق انتصارات كلامية وظهور زائف للرئيس الأمريكي بمظهر المدافع الصلد عن حقوق بلاده ومواطنيه في وجه دول وحكومات توصف إما بالمستغلة أو بالمعتاشة على الكرم الأمريكي.
ينقلب ترامب على مرتكزات السياسة الدولية كما تبلورت خلال الفترة الممتدة من انهيار الاتحاد السوفييتي السابق (بداية تسعينيات القرن العشرين) وإلى اليوم، فيعلن انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة باريس للمناخ ويخرج فرديا من الاتفاق النووي مع إيران الذي أقر بمشاركة روسيا والصين وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وبهدف كبح جماح المشروع النووي الإيراني نظير الإلغاء التدريجي للعقوبات التجارية والاقتصادية المفروضة على الجمهورية الإسلامية. وفي الحالتين، الانقلاب على معاهدة باريس وعلى الاتفاق مع إيران، يرهن ترامب المصالح العالمية والأمريكية لأجندة القوى المحافظة داخل بلاده ولأجندة إسرائيل والسعودية والإمارات خارجها.
أوروبيا، تعمق النجاحات الانتخابية المتتالية لأحزاب اليمين المتطرف وللحركات الشعبوية، كما في إيطاليا مؤخرا، من أزمات السياسة الدولية. تغلق أوروبا أبوابها في وجه المهاجرين الباحثين عن ملاذات آمنة بعيدا عن كوارث الحروب الأهلية وانهيارات الدول الوطنية والإرهاب والفقر التي تغطي مساحات واسعة في الشرق الأوسط وافريقيا. صارت مراكب المهاجرين غير الشرعيين غير مرحب بقدومها إلى الشواطئ الأوروبية، وعادت الحكومات الأوروبية إلى تقديم الدعم الاقتصادي والمالي والعسكري لحكومات سلطوية وعنيفة في جنوب البحر المتوسط ولحكومات فاسدة في افريقيا جنوب الصحراء بغية إبعاد المهاجرين غير الشرعيين المحتملين والإبقاء عليهم رازحين تحت نير الظلم والعنف والفساد، ولتذهب حقوق الإنسان إلى الجحيم.
تغلق أوروبا أبوابها الخارجية في وجه المهاجرين، وداخليا تنزلق بلدان القارة العجوز إلى صراعات هوية بالغة الخطورة. أوروبا التي يريدها اليمين المتطرف وتبحث عنها الحركات الشعبوية، من ماري لوبن في فرنسا إلى فيكتور أوربان، تتناقض جذريا مع أوروبا اليمين التقليدي واليسار الديمقراطي. وهم «المجتمعات النقية» ثقافيا وعرقيا ودينيا لدى متطرفي اليمين والشعبويين يقابله تمسك القوى التقليدية برؤى ليبرالية قوامها المجتمع المتنوع والتعددية المرحبة بالآخر الثقافي والعرقي والديني. غير أن وهم النقاء كلما انتصر في صناديق الانتخابات أو ارتفعت غلته من أصوات الناخبين، شكك شعبيا في قابلية الرؤى الليبرالية للحياة وأرغم اليمين التقليدي واليسار الديمقراطي المعبر عنها تقديم تنازلات انتخابية وسياسية لمروجي وهم النقاء. اليوم، لن تكرر حكومة أوروبية كبيرة كانت أو صغيرة ما فعلته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في 2015 مع اللاجئين السوريين. اليوم، تتنصل الحكومات الأوروبية من استقبال اللاجئين وتعيد المهاجرين غير الشرعيين إلى بلادهم غير الآمنة خوفا من خسارة المزيد من أصوات الناخبين. اليوم، تطالب أحزاب وشخصيات سياسية ليبرالية وتقدمية بتبني سياسة «أوروبا أولا» ليس في مواجهة إدارة دونالد ترامب وحروبها التجارية أو في مواجهة الحكومات السلطوية من روسيا والصين إلى الخليج وتركيا ومصر، بل في وجه الفارين من جحيم الحروب الأهلية والإرهاب والفقر.
وبعيدا عن الولايات المتحدة وأوروبا، تشهد السياسة الدولية وللمرة الأولى منذ تسعينيات القرن العشرين اتساعا غير مسبوق لمساحات فعل ونفوذ حكومات لا تعنيها الديمقراطية ولا حقوق الإنسان وتستخف بقيم العدل والحرية والتسامح. تنشط الصين وكذلك روسيا بحثا عن حماية مصالحهما الاقتصادية والتجارية والسياسية، ولا تتحرج الأولى من دعم حكومات فاسدة في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية ولا تمانع الثانية في التورط العسكري هنا وهناك للإبقاء على حلفائها من الحكام المستبدين. إقليميا، تسيطر أجندات إسرائيل والسعودية والإمارات وإيران وتركيا على منطقة الشرق الأوسط وتزج بها إلى أتون مواجهات سياسية وصراعات عسكرية في سوريا ولبنان والعراق واليمن وليبيا. بل أن أجندات هذه الدول تطيل عمدا من عمر الحرب الأهلية في سوريا والحرب على اليمن وحروب الكل ضد الكل في ليبيا، غير عابئة بالدماء التي تسيل يوميا وبمشاهد الدمار المتكررة.
نحن أمام حالة فوضى حقيقية في السياسة الدولية تذكر بحقبة ما بين الحربين العالميتين (1918-1933)، حالة فوضى لن تنزوي قريبا.
عمرو حمزاوي
القدس العربي