ووسط الأجواء المشحونة ضد نظام الملالي في المنطقة، لا يبدو أنه في صدد التخلي أو التفريط طواعية، بمشروعه التوسعي الضامن لنفوذه الإقليمي للاحتفاظ بطموحاته الامبراطورية، ولو بدا “لا أدرياً” وغير مهتم إزاء تدهور وضعه الداخلي، في ظل حراك شعبي عمالي
ونقابي يزداد باضطراد، على الرغم من مرور عامين مما يفترض إنه تحسّن اقتصادي نسبي، منذ إبرام الاتفاق النووي، ورفع العقوبات الجزئي، وعدم عودة الانتعاش إلى سوق العمل، حيث أفاد صندوق النقد الدولي أن 30% من قوة العمل الشبابية عاطلة، ولا تجد لها أي فرص عمل حقيقية، في وقت تزداد عزلة طهران عن الدفق المالي العالمي، واتجاه البنوك الدولية إلى النأي بنفسها عن السوق الإيرانية، وذلك خشية مواجهة مخاطر قضائية في الولايات المتحدة، في وقت لم ترفع بعد العقوبات الأميركية كلها من جهة، ومن جهة أخرى ربما كانت هناك عقوبات جديدة بعد انسحابها من الاتفاق النووي.
ولهذا فاقمت العقوبات الأميركية، ليس مخاطر استثمار عديدة في إيران فقط، بل ومخاطر التظاهرات والإضرابات الشعبية، ما قد يستدعي مخاوف قادة النظام، على الرغم من مكابراتهم، خصوصاً في القادم من أيام السخط والغضب، على وقع اهتزاز الاستقرار، وتزايد حركات الاحتجاج في عشرات البلدات والمدن، حيث سقط ضحية قمع الحركات هذه أكثر من 25 شخصاً.
وبعيداً من الأضواء، كانت قد كرّت سبحة إضرابات متناثرة في أنحاء إيران، في صفوف المعلمين في يزد (وسط إيران) وعمال الصلب في الأهواز (الجنوب) وعمال سكة الحديد في تبريز (شمال – غرب). وتشكل هذه الإضرابات امتداداً لمروحة واسعة من الاحتجاجات الناجمة من توترات اجتماعية واقتصادية وسياسية، ففي ديسمبر/ كانون الأول 2017 ويناير/ كانون الثاني 2018 المنصرمين، خرج الناس إلى الشوارع في تظاهراتٍ دامت أسبوعين احتجاجاً على خسارة ودائعهم في مؤسسات مالية مفلسة. وقمعت السلطات هذه الاحتجاجات، وهي الأوسع منذ حوالي عقد. ومذ ذاك، تبث نساءٌ تسجيلات فيديو تظهرهن يخلعن غطاء الرأس الإلزامي.
وفي الآونة الأخيرة، ووفق تقارير متعدّدة، بلغت تظاهرات الشارع الإيراني وإضراباته واحتجاجاته ذروة غير مسبوقة، منذ ثورة العام 1979 التي أطاحت نظام الشاه، ففي شهر مايو/ أيار الماضي وحده، شهدت إيران نحو 489 حركة احتجاج، بمعدل 69 إضراباً في اليوم، طاولت 242 مدينة و31 محافظة. وتنوّعت الإضرابات، إذ شملت 33 حركة احتجاج نفذها عمال، و9 من مواطنين نُهِبت أموالهم، فيما نظم سائقو شاحنات 406 إضرابات خمسة أيام (22– 27 مايو/ أيار)، بمعدل 75 حركة احتجاج في اليوم.
وفي وقت ألقى إضراب سائقي الشاحنات بظلاله على الشأن الاقتصادي الإيراني، كما أغلقت محطات وقود كثيرة في مدن إيرانية، نتيجة عدم تزويدها بالوقود؛ كذلك أعلن المعلمون الإضراب في مدينة يزد (وسط ايران). وعمال مصانع الفولاذ، وموظفو المستشفيات خرجوا من أعمالهم للمشاركة في مسيرات جنوب غربي مدينة الأهواز. ونظَّم عمال السكة الحديد تظاهرات على مقربة من تبريز. بينما تتصدى نقابة سائقي الباصات في طهران، للشركات الخاصة التي تمسك بمقاليد حركة النقل في شطر كبير من الطرق.
هذه الاحتجاجات هي حلقات في سلسلة طويلة من مئات الاضطرابات العمالية في إيران، وهي تشير إلى حال مقيم من تفاقم الأزمات، الوثيق الصلة بمشكلات إيران الاقتصادية والسياسية، فالعمال لا يحتجون على أرباب عملهم فحسب، بل وكذلك على الحكومة الإيرانية، ويضغطون على الزعماء الذين وعدوا بحلول، لكنهم أخفقوا في تحسين ظروف العيش منذ سنتين، أي منذ رفع العقوبات الاقتصادية عن البلاد، إثر إبرام الاتفاق النووي.
وفي مدينة كازرون، شارك مواطنون في تشييع ثلاثة أشخاص قُتلوا نتيجة عنف السلطات، مردّدين هتافات مناهضة للنظام، بينها “الموت للديكتاتور” و”أخي الشهيد نثأر لك”. وشهدت أسواق في طهران ومدن أخرى، بينها قم وأصفهان، كساداً كبيراً وتوقفاً في حركة البيع والشراء، إذ أغلقت متاجرها نتيجة إضراب البائعين فيها. وتعرّض قطاع النقل لما يشبه حالة شلل تام، خصوصاً أن عمالاً في السكك الحديد يواصلون إضرابهم، احتجاجاً على عدم تسلّمهم أجورهم المتأخرة وأقساط التأمين الخاصة بهم.
وفي اعتراف لمركز بحوث تابع لمجلس الشورى (البرلمان) الإيراني، كشف عن إخراج أكثر من 59 بليون دولار من العملات الصعبة، من إيران خلال السنتين الماضيتين. ما يشكّل رقماً مهماً بالنسبة إلى الوضع المالي لإيران، مرجّحاً خروج بلايين أخرى، في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي. وخرج من إيران خلال الأشهر الـ12 الماضية، 39.2 بليون دولار، يعادل 83% من الدخل السنوي للبلاد من صادراتها غير النفطية. وأشار المركز إلى خروج 20.2 بليون دولار من إيران عام 2016، مبرّراً الأمر بعوامل بينها “عدم القدرة على التكهّن بالوضعَين السياسي والاقتصادي”، و”نقص الدعم للاستثمارات في السياسات العامة للحكومة”، و”الأخطار العالية للاستثمار”، وصعوبات في تنفيذ نشاطات اقتصادية.
في هذه الأجواء العاملة على نسف استقرار النظام، اتهم حسين داعي الإسلام، عضو “المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية”، نظام الملالي في طهران، بإشعال “أزمات وصراعات في المنطقة”. ويعاني هذا النظام “تضييقاً كبيراً في الشارع، لكنه يتظاهر بقوة زائفة”. مذكّرا بقول الجنرال حسن سلامي، نائب قائد “الحرس الثوري”، إن إيران لن تتخلّى عن نفوذها الإقليمي، معتبراً أن “سلامي بتصريحاته، أشار بوضوح إلى أن تصدير أصولية نظام الملالي وتدخلاته في الدول الأخرى، تندرج تحت عنوان استراتيجية تصدير الأزمات، في ظل الظروف التي يواجهها النظام في طهران، من انتفاضة الشعب التي ستستمر حتى سقوطه”.
اتهم النظام من جهته، ووفق تصريحات مرشده (خامنئي) في فبراير/ شباط الماضي، أعداء إيران والمعارضين الإيرانيين بأنهم وراء الاضطرابات العمالية. واستناداً إلى توازنات الأمر الواقع السلطوي في إيران، عادة ما تذهب الاضطرابات العمالية إلى خلخلة ركائز النظام
وهزّها حيث أدت إضرابات القطاع النفطي قبل 1979 إلى إبطاء وتيرة إنتاج النفط، فحرم العمال الطبقة الحاكمة من مواردها الاقتصادية، وساهموا في نجاح ثورة 1979. لذا، يسعى قادة النظام إلى عرقلة بروز اتحادات عمالية مستقلة، فهم يرونها مصدر خطر وتهديد. وحتى الأحوال المالية لأصحاب الياقات الزرق، أي عمال المصانع، وسائر أفراد الطبقة الوسطى، لم تتحسّن منذ نحو أربعة عقود، فمتوسط دخل أسرة مدينية يبلغ حوالى 800 دولار شهرياً، في وقت لا يزيد الحد الأدنى للرواتب عن مائتي دولار شهرياً. ما دفع عاملاً إلى القول بحدة “في أي بقعةٍ من العالم تجبر الشرطة عاملاً يتقاضى مبلغاً أربع مرات أدنى من خط الفقر، على العمل؟ هذه جريمة. هذا رقّ وعبودية”.
هكذا، وفي ظل معطيات واقعٍ كهذا، يبدو أن الدولة في إيران باتت عاجزةً عن استعادة دورها الطبيعي؛ سواء إزاء داخلها، أو بإزاء علاقاتها الخارجية مع دول الإقليم أو مع الدول الأخرى، لطالما استمر النظام الثيوقراطي يرخي الحبال لقيادات قوات “الحرس الثوري”، وفيالقه العسكرية ذات الطابع المليشياوي، وأدوارها الرئيسة في تمويل وكلاء خارجيين، وتسليحهم وتدريبهم، يقوم المشروع التوسعي الإيراني على أكتافهم، حتى أن العقوبات الأميركية، وربما بعض الأوروبية، بدأت تلاحظ ضرورة أن تشمل فرض عقوبات على رئيس البنك المركزي الإيراني وضرورة إضعاف التدفقات المالية الهائلة التي تتمتع بها قوات “الحرس الثوري” ومليشياتها المنتشرة في المنطقة، أو المناطق التي يراد إخضاعها لهيمنة نفوذ النظام، الهادف إلى التوسع باضطراد.