كل ما يجري في المنطقة اليوم وما يحصل من تطورات مرده الدور المتعاظم لإيران على كل المستويات، فهي حاضرة في عمق الأزمات، وفي مختلف المواجهات، فمن أقاصي الخليج باتت إيران اليوم فاعلة ومؤثرة في قلب المشرق العربي، وراحت أخيرا تمد أذرعها في شمال أفريقيا. فقد بدأ تطبيق شعار “تصدير الثورة” فعليا بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003 على أيدي القوات الأميركية التي مهدت الطريق، بعد نحو عامين، لوقوع العراق في فلك نفوذ ملالي طهران. وشكّل العراق القاعدة الأساسية والحيوية التي مكنت إيران من وضع رجلها في العمق العربي، والانطلاق منه إلى المشرق. وخلال أقل من عشر سنوات، أصبحت الطريق سالكةً من طهران إلى بيروت. وقد حرص أكثر من مسؤول إيراني على المجاهرة والافتخار بذلك بإعلان أن “إيران أصبحت تسيطر على أربع عواصم عربية، بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء”، مضيفا أن “الثورة الإيرانية لا تعرف حدودا، وهي لكل الشيعة”، وأن “الحوثيين في اليمن هم نتاج الثورة الإيرانية” (وزير الاستخبارات السابق، حيدر مصلحي). وهي عمليا تمارس اليوم في بغداد هذا النفوذ في تركيب السلطة وأجهزتها، وتوزع الحصص، وتقاتل على الأرض في سورية، بخبرائها وسلاحها وقواعدها ومليشياتها، لإنقاذ سلطة بشار الأسد، وتقف، منذ سنوات، في خلفية المشهد السياسي اللبناني، عبر النفوذ العسكري والمليشياوي لحزب الله، إلى أن خرج قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، قاسم سليماني، إلى العلن بوقاحته المعهودة بعد الانتخابات أخيرا، ليعلن أن طهران باتت تسيطر على أكثرية 74 نائبا في البرلمان اللبناني من أصل 128. وفي اليمن، تجسد تغلغلها في دعم الحوثيين، وتزويدهم بمختلف أنواع الأسلحة والصواريخ في مواجهة “التحالف العربي” الذي تقوده السعودية. ناهيك عن دور إيران وتأثيرها في الساحة الفلسطينية، وتدخلها في شؤون البحرين وغيرها من الدول العربية والخليجية.
وأهم إنجاز بالنسبة لسلطة “الولي الفقيه” شرعنة حضورها المباشر والعلني، العسكري
والسياسي، كما الاستخباراتي والمذهبي في قلب عاصمة الأمويين في سورية، بعد أن تحولت إلى حام وضامن لسلطة “البعث” الأسدي. والمفارقة هنا أن أهم دولتين عربيتين، العراق وسورية، حملتا طوال خمسة عقود لواء القومية العربية انتهتا تحت نفوذ سلطة دينية قومية فارسية. وبات لحكام طهران موطئ قدم على ضفاف المتوسط، وهم يمسكون اليوم بمفاصل السلطة في دمشق، بقواعدهم العسكرية ومليشياتهم متعدّدة الجنسيات، وبنشاطهم الدؤوب يعملون على تجذير وجودهم وترسيخه، أيضا عبر التغيير الديمغرافي لدولةٍ أكثريتها من المسلمين السنة. ولأجل هذا الهدف، صرفوا مليارات الدولارات، على الرغم من العقوبات الاقتصادية القاسية التي فرضتها عليهم الولايات المتحدة والدول الأوروبية، ما انعكس سلبيا على الوضع الاقتصادي والمعيشي لدى الإيرانيين، وأدى إلى سلسلة من الانتفاضات ضد السلطة، وإلى مواجهات في الشارع في طهران، وفي أكثر من مدينة إيرانية ضد حروب إيران في الخارج، ورفضا لدعمها نظام الأسد وحزب الله. تسللت طهران بذكاء وبصبر وأناة إلى داخل العمق العربي، وسعت إلى الإمساك من دمشق بناصية القرار في بيروت وبغداد، والتحكم بالمواجهة (أو المهادنة) مع إسرائيل عبر جنوب لبنان. كان هذا خيارا استراتيجيا لها من أجل بسط نفوذها قوة إقليمية، فيما الانتفاضات وثورات الربيع العربي تجتاح دولا عربية، وتحديدا التي لا نفوذ مباشرا لطهران فيها، كمصر وتونس وليبيا، إلى أن اندلعت الثورة في سورية، فهبت إيران لنجدة ربيبها السوري، ونافذتها على المشرق منذ حافظ الأسد.
إلا أن تعاظم الدور الإيراني في سورية راح يقلق دول الإقليم ويخيفها، وأيضا الدول الكبرى، على الرغم من أنه لم يتمكّن من حماية النظام الأقلوي المستبد من خطر الانهيار أمام انتقاضة الشعب السوري. وهنا سارع القيصر الروسي، فلاديمير بوتين، إلى التدخل العسكري في خريف 2015، إنقاذا للأسد، وقام بأسوأ وأعنف الأدوار التي لم يتمكن ولي الفقيه الإيراني من القيام بها. علما أن التدخل الروسي شكل مصلحة للطرفين، كل من منطلقات وأهداف مختلفة. تريد طهران أن ترسخ نفوذها المستحدث، وموسكو تريد أن تستعيد حضورها القديم ونفوذها في المنطقة، بعد خروجها من آخر معقل لها في ليبيا في خلال الانتفاضة على معمر القذافي عام 2011. استغلت موسكو الفراغ الذي خلفه إرباك الإدارة الأميركية السابقة، وفرضت حلها العسكري على الجميع، بدءا من المعارضة السورية المسلحة، انتهاء بإدارة أوباما نفسها، مرورا بكل الأطراف الإقليمية الداعمة للنظام والمعارضة على السواء. ولكن للحل السياسي اعتبارات أخرى، ولا يمكن لبوتين أن يفرضه كما يشاء، وتحديدا على الإدارة الأميركية الحالية التي تريد من موسكو أن تفرض الحل الذي تريده واشنطن، وهو حل لا يتضمن، بطبيعة الحال، أي دور لطهران. لا يمكن أن يقبل الرئيس دونالد ترامب الذي أعلن الحرب مجدّدا على إيران،
وانسحب من الاتفاق النووي وأعاد فرض العقوبات عليها، بأي دور لطهران وببقائها في سورية. على بوتين بالتالي إخراجها، وهذا ما يريده العرب، وهذا ما تريده أيضا إسرائيل التي لا مشكلة لها مع بقاء بشار في السلطة، لكنها لا تقبل بوجود عسكري إيراني في سورية، وخصوصا على الحدود الجنوبية. وهي لهذه الأسباب تقصف مواقع إيرانية في أرجاء سورية، وتقصف أيضا مواقع وقوافل لحزب الله. ويجري هذا كله بموافقة روسيا، وعلى مرأى منها. واللافت أكثر وأكثر أن إيران نفسها تلتزم الصمت إلى حد كبير، فهي من جهة غير قادرة على الرد العسكري، ومن جهة أخرى، هي بحاجة إلى روسيا، لكي تعول على دورٍ لها، يبقي على نوع من التوازن في الدور والنفوذ مع الولايات المتحدة، غير أن انكفاء أوباما وغضّ نظره قد تحول، مع ترامب، إلى قرار بالحصار. ولذلك، يبدو أن إيران بدأت فعليا بسحب قواتها من درعا والقنيطرة، على الرغم من أنها كانت تنفي باستمرار وجود قواتٍ لها هناك، وإنما فقط خبراء عسكريين. وهناك مؤشراتٌ تفيد بأنها تمهد للانسحاب من عموم سورية، كما أن ما يحرج طهران أكثر هو أن خروجها من سورية هو أيضا هدف روسي، يتقاطع في العمق مع الهدف الأميركي. والمراهنة على التناقضات بين أميركا ودول أوروبا لم تعد ذات فائدة، إذ لدى الشركات الأوروبية نحو ثلاثة أشهر فقط لإنهاء استثماراتها في إيران والمغادرة.
تلتقي واشنطن وتل أبيب وموسكو، على ما يبدو، على بقاء الأسد، ولو مرحليا، وتتفق، في الوقت نفسه، على وضع حد لنفوذ طهران في سورية، وضرورة خروجها منها.
سعد كيوان
العربي الجديد