مباريات متوالية، منافسات محتدمة، وجمهور عاشق لكرة القدم، يرصد السَّكنات والتفاعلات، الأمر أشبه بالبوصلة التي تحرك القلوب وتجذب الأنظار تجاه تلك التنافسية، وما يزيد احتدامها، وتهافت القلوب عليها، كم الأموال التي تصرف على هذه اللعبة. ورغم تتالي البطولات، تجتاح حمى كأس العالم بصورة دورية لتطال أرجاء العالم، لكن كثيرا ما عكرت الحسابات المعقدة لسير المباريات صفو المتعة المرجوة من متابعة هكذا بطولات، إذ كثيرا ما لا تنحصر المباريات باللعب للفوز وإمتاع المشاهدين، بل من أجل رأس المال واستقطاب حركته، فيُضبط الإيقاع، وتحدد ملامح اللعب بصرامة، ليتحول اللاعبون في بعض الأحايين، لآلات تنفذ الأوامر بدقة، ويصبح هامش المغامرة عالي الكُلفة، لينظر لكثير من اجتهادات اللاعبين باعتبارها خيانة لروح الفريق، وخرقا لمنظومة الدفاع الحديدية التي يرجى منها تحقيق الانتصار! (1)، فما هي العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي قادت التحول نحو لعبة محاطة بكل تلك الحواجز لتفقدها سحرها، أو لتصنع سحرا تحكمه محددات متجاوة للمتعة؟.
يحكي إدواردو غاليانو أن “تاريخ كرة القدم هو رحلة حزينة من المتعة إلى الواجب، فكلما تحولت هذه الرياضة إلى صناعة، كان يجري استبعاد الجمال الذي يتولد من متعة اللعب لمجرد اللعب”، وفي عالمنا اليوم، تستنكر كرة القدم الاحترافية وما هو غير مفيد، “وما هو غير مفيد في عرفها هو كل ما لا يعود بالربح، وليس هناك أي أرباح تجنى حين يتحول الرجل، لبرهة، إلى طفل يلعب بالكرة مثلما يلعب الطفل بالبالون ومثلما تلعب القطة بكرة خيوط صوفية، فيصبح راقصا يرقص بالكرة، لاعبا دون أن يدري أنه يلعب، ودون أن يكون هناك سبب أو توقيت أو حكم”.
ما يمكن ملاحظته بوضوح، هو التحول الذي طال كرة القدم اليوم نحو الاستعراض، فيه قلة من الأبطال وكثرة من المشاهدين، “إنها كرة قدم للنظر. وتحول هذا الاستعراض إلى واحد من أكثر الأعمال التجارية ربحا في العالم، لا يجري تنظيمه من أجل اللعب وإنما من أجل منع اللعب، لقد راحت تكنوقراطية الرياضة الاحترافية تفرض كرة قدم تعتمد السرعة المحضة والقوة الكبيرة، وتستبعد الفرح، وتستأصل المخيلة وتمنع الجسارة”، فلم تعد كرة القدم مجرد لعبة للاستمتاع، بل نظام للربح والخسارة، يجب أن يربح فيه الفريق دائما حتى لو وقف الأحد عشر لاعبا يحاوطون المرمى، لكي تربح جهات أخرى أكبر، سواء كانت دولة أو نظاما سياسيا أو رجال أعمال أو شركة إعلانات، فكرة القدم ليست فقط لعبة رؤوس الأموال، بل إن رؤوس الأموال غيرت كثيرا في نظامها وقوانينها وتكتيكاتها فضاعت إثارة اللعبة وسحرها وحل مكانها خطط اللعب الدفاعية لضمان الفوز، بل إن كرة القدم هي نموذج مصغر للرأسمالية العالمية.
“يا للرائحة الكريهة،
حتى الكلاب تهرب
النابوليون قد وصلوا
آه للملونين، للمزلزلين
لا يمكن حتى للصابون أن ينظفهم
نابولي أيتها البراز، نابولي أيتها الطاعون
أنت عار على إيطاليا كلها”
-(أغنية رددها المشجعون في ملاعب ميلان وتورينو ضد فريق نابولي)
في عالم كرة القدم اليوم كل شيء محسوب ومخطط له سابقا، لكن الخفي في ذلك العالم أكثر من المرئي، فداخل ذلك المبنى الذي يسمى “الملعب” تتداخل الرياضة بالحب بالعنف بالحرب بالسياسة بالأموال، بينما يجلس رجال الأعمال والرؤساء والحكام في المقصورات الفخمة المحصنة ضد الرصاص ليشاهدوا خلطتهم السرية وأثر ما فعلوه على الملعب. لكنّ شيئا آخر يظهر جليا في ذلك الملعب الأخضر وإن كان غير مرئي لكن الجميع يعرفه وكأنه متفق عليه ضمنيا: “هو جدار تبدو ذكرى جدار برلين مضحكة أمامه، فهو ينتصب لكي يفصل الذين يملكون عمن يحتاجون، وهو يقسم العالم بأسره إلى شمال وجنوب، ويخط كذلك حدودا في كل بلد وضمن كل مدينة، وعندما يتجرأ جنوب العالم على اجتياز هذا الجدار ويدخل حيث لا يمكنه الدخول، يذكره الشمال، مستخدما الهراوة، أين هو مكانه” (1).
يحكي غاليانو، أنه في منتصف الثمانينات، عندما بدأ نادي نابولي يلعب أفضل كرة قدم في إيطاليا بتأثير مارادونا السحري، كان رد فعل شمال البلاد هو أنها استلت أسلحة الازدراء القديمة، وعلى مدرجات ملاعب ميلان أو تورين، كانت تُرفع اللافتات المهينة “أيها النابوليون، أهلا بكم في إيطاليا” (1). لكن هذا التفريق بين الشمال والجنوب بين العالم الأول المتحضر والعالم الثالث الفقير المتخلف لا يوجد في الملعب الأخضر وحده، ففي صالات الفيفا وترشيحات استضافة بطولة كأس العالم مثل ما حدث بين المغرب وملف أميركا مؤخرا، وفي تعامل الفيفا مع رؤساء الدول والأنظمة السياسية المضيفة للبطولة، تبرز تلك الحقيقة الجلية، وهي أن كرة القدم العالمية ونظام الفيفا هو أكبر صديق للنظام العالمي الحالي والذي يتخذ الرأسمالية عقيدة اقتصادية له (2).
ولكي يتضح مفهوم الصداقة بين كرة القدم والرأسمالية، لا يوجد أفضل من بطولة كأس العالم كمثال، ولأن البطولة الحالية تستضيفها روسيا، يمكن أن ننظر كيف تعاملت روسيا مع بطولة كأس العالم. حيث أظهرت بعض الإحصاءات الأخيرة (3) أن اقتصاد روسيا الذي ضربه الركود قد دفع معدل الفقر في البلاد إلى أعلى مستوى له منذ تسع سنوات، في الوقت الذي تكافح فيه البلاد لمواجهة أزمة اقتصادية خانقة.
بنظرة تفصيلية، متوسط دخل 19.2 مليون روسي أو 13.4٪ من السكان أقل من 9452 روبل (139 دولارا أميركيا) في الشهر، وهو الحد الأدنى لمستوى الكفاف الذي حددته الحكومة الروسية، ويمثل هذا الرقم زيادة بنسبة 20٪ على أساس سنوي، حيث يعيش 16.1 مليون شخص تحت عتبة الفقر حسب إحصاءات عام 2014 (3).
وفي سبتمبر/أيلول عام 2016، حذر البنك الدولي من زيادة “مقلقة” في الفقر في روسيا نتيجة الانخفاض الحاد في دخل الفئات الاجتماعية الأكثر ضعفا بما في ذلك المتقاعدين. وتقلصت الأجور الحقيقية في البلاد بنسبة 6.9٪، وانخفضت مبيعات التجزئة بنسبة 5.9٪، وقالت وكالة التصنيف الروسية التي تأسست حديثا إنها لا تتوقع نموا اقتصاديا حتى عام 2018. فماذا حدث في 2018؟
قبل ذلك، كانت روسيا تستعد لاستضافة بطولة كأس العالم، حيث قامت بضخ قدر هائل من الأموال قُدرت بنحو 13-14 مليار دولار، وكان تصريح نائب رئيس الوزراء الروسي حينها أركادي دفوركوفيتش بأنها ليست نفقات هائلة، وإنما هي في الأساس استثمارات ضخمة مثمرة ستؤثر في حياة الناس بشكل مباشر وغير مباشر، وعلى المدى القريب والبعيد. بينما توقع دفوركوفيتش أن العائدات من فرصة استضافة بطولة كأس العالم والاستثمار من خلاله تقدر بين 26 مليار إلى 30.8 مليار خلال العقد المستمر ما بين 2013 -2023 (4).
لكن ما لم يذكره أحد أن هناك وجها مظلما لتلك الاستثمارات، كأي استثمارات رأسمالية توفر فرص عمل مؤقتة، ثم تنعش القطاع الخدمي، دون تقدم أو تغير حقيقي في حياة الفقراء، بينما أكثر المستفيدين من تلك المشروعات هم الأغنياء ورجال الأعمال ورجال الحكومة في الأساس، أما كأس العالم الماضي والتي استضافته البرازيل يكشف وجها أشد قبحا (5). فالبرغم من أن البرازيل اتبعت أسلوب روسيا نفسه تقريبا، فقد أنفقت البرازيل نحو 11 مليار دولار على تحضيرات بطولة المونديال، فإن منظمة “Terre des Hommes”، وهي منظمة غير حكومية مقرها سويسرا، تقول إن نحو 170،000 شخص فقدوا منازلهم أثناء الاستعدادات لكأس العالم في البرازيل بسبب بناء أو تجديد الملاعب والطرق والمطارات ومشاريع البنية التحتية الأخرى (5).
كما تقول المنظمة إن آلاف العائلات أُعيد توطينهم قسرا في أكواخ أساسية بدون كهرباء وماء، وتقول السيدة ساشر من المنظمة: “إنه من غير العدل أن تلتزم الدولة المضيفة بفاتورة جميع البنى التحتية اللازمة، في حين أن الفيفا -التي تتمتع بتخفيضات ضريبية وإعفاءات من الدول المضيفة لكأس العالم- تخرج بلايين الدولارات من هذا الحدث”. أما بالنسبة إلى روسيا التي تتباهى حكومتها بالاستثمارات فإن منظمة “Terre des Hommes” قد أعلنت بالفعل عن بدء عملها على بحث يخص الأوضاع المعيشية لأطفال الشوارع وأثر بطولة كأس العالم على أوضاعهم المعيشية، وكذلك ستبدأ مشروعا يخص العمال الذين تعرضوا لظروف عمل صعبة قد تصل إلى الموت أثناء بناء الملاعب والبنى التحتية الخاصة بالبطولة، كما تضيف ساشر أن “أغلب تلك الاستثمارات طويلة المدى هي قصيرة المفعول ولا يستفيد منها الفقراء شيئا، بل أغلب الصفقات تذهب للإعلانات والشركات الكبيرة ورجال الحكومة” (5).
“في مونديال 1986 احتج فالدانو ومارادونا ولاعبون آخرون لأن المباريات الرئيسية كانت تجري في منتصف النهار، تحت شمس تحرق كل ما تلمسه، لكن الظهيرة في المكسيك هي ساعة الغروب في أوروبا، وهو التوقيت الذي يناسب التلفزيون الأوروبي، وقد روى حارس المرمى الألماني هارالد شوماخير ما كان يجري:
– أتعرق.. تجف حنجرتي.. ويكون العشب مثل البراز اليابس.. قاسيا وغريبا ومعاديا وتسقط شمس عمودية على الملعب وتنفجر فوق رؤوسنا، لا تتشكل لنا ظلال.. يقولون إن هذا جيد من أجل التلفاز” (6).
ويتساءل إدواردو غاليانو هل بيع الاستعراض أهم من نوعية اللعب؟ لكن تأتي الحقائق لتكشف أن من قاد مونديال 1986 هو غيلليرمو كانييدو، نائب رئيس شركة تليفيزا ورئيس القناة الدولية للشركة، وكانت تليفيزا هي الشركة الاحتكارية الخاصة التي تسيطر على وقت فراغ المكسيكيين وتسيطر كذلك على كرة القدم الميكسيكة، “ولا يهم أكثر من الأموال التي يمكن لتليفيزا أن تتلقاها ومعها بالطبع الفيفا، مقابل البث إلى الأسواق الأوروبية” (6).
“وتليفيزا لا تملك بين يديها البث المحلي والدولي لكرة القدم المكسيكية فحسب، وإنما تملك كذلك ثلاثة من أكبر أندية الفئة الأولى: فالشركة هي صاحبة نادي أميركا، أكثر الأندية سلطة وقوة، ونادي نيكاكسا وآتلانت”، هكذا أصبح في العالم بأسره وعبر سبل مباشرة وغير مباشرة “التلفزيون هو الذي يقرر أين ومتى وكيف يجري اللعب، فقد باعت كرة القدم نفسها جسدا وروحا وملابس إلى الشاشة الصغيرة، واللاعبون هم الآن نجوم التلفزيون. فمن يمكنه أن ينافس استعراضاتهم؟”.
الآن، يمكن لملايين الأشخاص أن يشاهدوا المباريات، “لأن الأمر لم يعد يقتصر على الآلاف الذين تتسع لهم الملاعب، والمشجعين تكاثروا جدا وتحولوا إلى مستهلكين حتميين لكل ما يرغب محتكرو الصور في بيعهم إياه، ولكن على خلاف البيسبول وكرة السلة، فإن كرة القدم هي لعبة متواصلة، وهي لا توفر انقطاعات كثيرة تفيد في تمرير الإعلانات، فاستراحة واحدة لا تكفي، وكان هناك اقتراح لتعديل لطيف على هذا الأمر وهو أن تتحول مباراة كرة القدم إلى أربعة أشواط ليتناسب الأمر مع الإعلانات!” لكن لم يُنفذ هذا الحل، وجاءت حلول أخرى لزيادة الأرباح.
بجانب عالم التلفاز والإعلام والأستديوهات التحليلية وما يدور في ذلك العالم من صفقات وإعلانات وتمرير آراء سياسية وأخرى اجتماعية وثقافية، هناك سوق آخر يُعتبر هو السوق الأساسي في عالم كرة القدم وبدونه لن يكون لسوق الإعلام والسلع وصفقات الدعاية ورموز الشركات على قمصان اللاعبين فائدة. هذا السوق هو سوق بطولات فرق كرة القدم خاصة في أوروبا، والذي بفضل السوق الحر وعالم الرأسمالية أصبح يقدم فرقا تحتوي كثيرا من التنوع الثقافي والإثني، بما يتناسب مع عالم العولمة الجديد، فمع وجود نظام الاحتراف أصبح اللاعب سلعة ومنتجا يمكن شراؤه ليعزز من قوة الفريق، وعلى هذا المنوال أصبح لدينا مجموعة صغيرة من الفرق الغنية، التي تمتلك كثيرا من الموارد، والتي بفضلها تظل في مقدمة الفرق، ولديها دائما ما تجادل به من ألقاب لتحصل على المزيد من الموارد سواء كانت أموالا أو تمويلات أو لاعبين محترفين (7).
فعلى سبيل المثال، هناك خمسة عشر ناديا من أصل 20 ناديا في دوري الدرجة الأولى الإنجليزي لكرة القدم، الدوري الإنجليزي الممتاز، يملكها رجال أعمال يمتلكون أصولا بملايين الجنيهات خارج المملكة المتحدة. وبالنسبة إلى هؤلاء الممولين، فإن النادي الذي يمتلكونه عبارة عن شركة يجب تصميمها لزيادة مقدار الربح الذي يمكنهم تحقيقه من ذلك. ولا يتأخر أحد الممولين في دفع ملايين على اللاعبين، ويصل العائد على شكل طلب أكبر على التذاكر وحقوق البث التلفزيوني والراعي الرسمي ووضع رموز السلع على قمصان اللاعبين (8).
ليس من المستغرب إذا أن تكون أكبر الأندية الأوروبية من العلامات التجارية الأعلى قيمة في عالم كرة القدم، ريال مدريد ومانشستر يونايتد وبرشلونة وبايرن ميونيخ وليفربول وتشيلسي. أما نادي مانشستر سيتي، فقد أنفق ما يقرب من مليار جنيه إسترليني على مجموعة من لاعبيه على مدى عدة سنوات من قبل شركة متعددة الجنسيات مقرها أبوظبي تملكها العائلة المالكة في الإمارات، وذلك بهدف جعلها علامة تجارية مماثلة للعلامة التجارية الأكبر في عالم كرة القدم، كما حدث ذات الأمر مع باريس سان جيرمان المملوك من قطر.
مما جعل أصحاب ملكية مانشستر سيتي العرب والملياردير الروسي تشيلسي رومان أبراموفيتش يطلقون لقب “هواية باهظة الثمن” على لعبة كرة القدم. لكن بالنسبة لمالكي أندية كرة القدم، وفي سياق البرامج التلفزيونية والمليارات الإعلانية، ناهيك عن العمليات المالية العالمية الاستغلالية في كثير من الأحيان، ومهما كانت الأموال التي تنفق على اللاعبين، لا توجد مشكلة على الإطلاق. وبينما قد يقذف “إمبراطور الإعلام” روبرت مردوخ المليارات للإبقاء على الدوري الممتاز متألقا في سماء أوروبا، فإن هذا لا يمكن إلا أن يحقق المزيد من المليارات من خلال مشجعي كرة القدم العاديين الذين سيدفعون ثمن تذاكر دخول المباريات مهما ارتفع ثمنها، أو سيقومون بالاشتراك في إحدى القنوات التي تعرض مباريات فرقهم المفضلة (8).
بفضل كل تلك المليارات والعروض التلفزيونية، أصبح راتب اللاعبين عشرات الملايين من الدولارات، وأصبح حلم كل طفل أن يصبح لاعب كرة، ليس لأنه يحب الكرة، بل لأنها طريق مضمون للشهرة والثراء. لكن أليس من غير العدل أن يحصل الممرضون ورجال الإطفاء وحتى الأطباء والمهندسون على رواتب أقل من رواتب لاعبي الكرة؟ تأتي الإجابة من قلب النظام الرأسمالي العالمي الذي يحكمه قانون الندرة، وهو أنه كلما زادت ندرة اللاعبين المحترفين والمهرة في قلب صناعة بحجم صناعة كرة القدم، زاد راتب هؤلاء اللاعبين (9).
في تصريح للمدرب جوزيه مورينيو قال إنه لا يرى أي سبب يمنع مجموعة من اللاعبين العالميين، عندما يتم إخبارهم بالضبط عن أدوارهم، من الحفاظ على قدراتهم بشكل كافٍ لمواصلة اللعب في كل مباراة بالمستوى المطلوب، وهو مستوى الربح (10). أما اللاعب الروسي نيكولاي ستاروستين فكان يشكو من كرة القدم الموجهة بجهاز التحكم عن بُعد قائلا: “اللاعبون جميعهم يبدون الآن متشابهين. إذا ما بدلوا لهم قمصانهم فلن يتعرف عليهم أحد، فجميعهم يلعبون بصورة متشابهة” (11).
أليس هذا أكبر دليل على أن كرة القدم أصبحت أقل إثارة وجمالا وتحولت إلى مجموعة تكتيكات وخطط؟ لكن كيف انتهت كرة القدم إلى ذلك، كما يقول غاليانو “رحلة من المتعة إلى الواجب”؟ لكي تصبح كرة القدم صناعة يجب أن تُدار بطريقة الشركات، وهي الطريقة الأنجع في العالم الآن لتحويل أي شيء إلى مجموعة إجراءات يسهل التعامل معها وترجمتها إلى أرقام وأرباح، فقسمت تلك الشركات كرة القدم إلى مجموعة من الوظائف والأدوار، وهي:
اللاعب: “يركض لاهثا على شفير الهاوية. في جانب تنتظره سماوات المجد، وعلى الجانب الآخر هوة الدمار. رجال الأعمال يشترونه، يبيعونه، يعيرونه، ويسلم هو القيادة لهم مقابل الوعد بمزيد من الشهرة ومزيد من المال، وكلما نال شهرة وأموالا أكثر يصبح أسيرا أكثر، فهو يخضع لانضباط عسكري صارم، وينال كل يوم عقوبة التدريب القاسية، وعشية المباريات المهمة يحبسونه في معسكر اعتقال حيث يقوم بأعمال شاقة، ويأكل أطعمة غبية ويسكر بالماء وحده وينام وحيدا”.
حارس المرمى: “يسمونه كذلك الغولار وحارس الحاجز وحارس القوس، ولكننا نستطيع أن نسميه الشهيد، الوثن، النادم، أو المهرج الذي يتلقى الصفعات. إنه وحيد محكوم عليه أن يشاهد المباراة من بعيد. ينتظر وحيدا إعدامه رميا بالرصاص بين العوارض الثلاث. يحمل على قميصه رقم واحد، فهو الأول في دفع الثمن، وهو المذنب دائما، وعندما يرتكب أي لاعب خطأ يستجلب ضربة جزاء يتحمل هو العقوبة. كل اللاعبين مسموح لهم بأخطاء فاحشة إلا هذا المسكين، فمحكوم عليه بالتعاسة الأبدية”.
الحكم: “هو المتحكم وهو الطاغية البغيض الذي يمارس دكتاتوريته دون معارضة ممكنة، والجلاد المتكبر الذي يمارس سلطته المطلقة بإيماءات أوبرا، الصفارة في فمه، ينفخ الحكم رياح القدر المحتوم ويمنح الأهداف أو يلغيها، البطاقة في يده يرفع ألوان الإدانة.. لا أحد يركض أكثر منه، فهو الوحيد المضطر إلى أن يجري طوال الوقت، وكتعويض عن كل هذه التضحية، تعوي الحشود مطالبة برأسه”.
المدير الفني: “عندما صارت كرة القدم نظاما تكنوقراطيا، جاء المدير الفني ومهمته منع الارتجال، ومراقبة الحرية ورفع مردودية اللاعبين إلى حدودها القصوى بإجبارهم على التحول لرياضيين منضبطين.. المدرب يقول: سنلعب. أما المدير الفني فيقول: سنعمل. والحديث يدور بالأرقام، بين 5-3-1 مرورا ب4-4-2 إلى أن تطورت الخطط لصيغ سرية أكثر تعقيدا من الثالوث المقدس”.
الاختصاصيون: “معلقو التلفزيون يتابعون الصور التي تظهر على الشاشة، ولكنهم يعرفون جيدا أنهم لا يستطيعون منافستها، فيقاطعون نقل المباراة عدة مرات لكي يشيروا على اللاعبين ما يجب عليهم عمله، لكنّ اللاعبين لا يتمكنون من سماعهم لأنهم مشغولون بارتكاب المخالفات، أما المحللون فدورهم بعد نهاية المباراة يستخدمون لغة تتراوح فيها سعة الاطلاع العلمي والخبرة السابقة وما بين الدعاية الحربية والنشوة الغنائية، وهم يتكلمون دائما بصيغ الجمع لأن كل واحد منهم كثيرون”.
هكذا، تصبح كرة القدم الاحترافية كل يوم أكثر سرعة وأقل جمالا، وتميل إلى التحول إلى الاحتفال بالسرعة والقوة، “والدفاع خوفا من الخسارة. كثير من الركض، وقليل أو لا شيء مطلقا من المجازفة، لأن الجسارة ممتعة لكن غير مربحة، وأصبح دور طاقم الموظفين المتخصصين في الفرق هو تفادي الهزيمة، بدلا من اللاعبين الذين يجازفون بإلهام وينقادون للارتجال”
إدواردو غاليانو، كرة القدم بين الشمس والظل.
أما بخصوص الفساد داخل عالم كرة القدم اليوم، فرئيس نادي بيروجيا الإيطالي الذي اُتهم في عام 1993 بشراء الحكام، شن هجوما معاكسا قال فيه منددا:
“ثمانون بالمئة من كرة القدم يعمها الفساد”.
إبراهيم هلال
الجزيرة