كان قرار الرئيس ترامب بسحب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران أمراً متوقعاً، على عكس المرحلة التي تليه. وقد كانت التلميحات واضحة حول نية الرئيس الأمريكي بالانسحاب من الاتفاق النووي، ذلك العزم الذي انبثق عن السياسة أو السياسات. فمن ناحية السياسة، كان ترامب قد التزم خلال حملته الانتخابية عام 2016 بإلغاء الاتفاق الذي أطلق عليه مختلف النعوت من “جنوني” أو “مضحك” إلى “أسوأ اتفاق على الإطلاق”.
ولكن قرار الانسحاب يتخطى عالم السياسة. فقد أثار الاتفاق النووي جدلاً واسعاً حين طرحته إدارة أوباما عام 2015 – وليس لمجرد ارتباطه بالرئيس السابق باراك أوباما. فقد رأى النقاد أمثال كاتب هذه السطور أن الاتفاق لم ينجز إلا القليل لتقييد الأنشطة النووية الإيرانية، ناهيك عن أن مدته كانت قصيرة جداً. وقد اعتبرنا أن الاتفاق كان أُحادي الجانب حيث منح إيران تخفيفاً واسع النطاق من العقوبات مقابل ضبط نشاطها في مجال واحد فقط، وإن كان ذلك حيوياً. كما اعتقدنا أن هناك بديلاً: ليس الحرب، بل الانتظار، إلى أن تشتد وطأة العقوبات.
وبالتالي، تُعتبر استمالة التراجع عن الاتفاق وإعادة فرض العقوبات واضحة. فالاقتصاد الإيراني يترنّح بالفعل – فقد فقدَ الريال الإيراني نسبة كبيرة من قيمته، مما اضطُرّ النظام إلى فرض ضوابط على رأس المال، في حين أدّت التظاهرات التي انتشرت احتجاجاً على الظروف الاقتصادية وغيرها من الأمور إلى تكدير الوضع في البلاد. ويبدو النظام الإيراني ضعيفاً في الوقت نفسه الذي يبحث فيه صانعو السياسة الأمريكيون عن وسائل لمواجهة عدوانه في الشرق الأوسط. ولا تأمل إدارة ترامب بإحياء الضغوط التي كانت مفروضة على إيران قبل الاتفاق النووي فحسب، بل زيادتها أيضاً، وإعادة طهران إلى طاولة المفاوضات تمشياً مع نموذج “الضغط الأقصى” الذي طبقّه البيت الأبيض على كوريا الشمالية.
ولكن في السياسة كما في الحياة، ليس من السهل إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. فقد خسر النقاد في جدالهم حول الاتفاق النووي عام 2015، ومنذ ذلك الحين تبنت الكثير من دول العالم الاتفاق المذكور. وبصفتي مسؤولاً أمريكياً رفيع المستوى عُنيت بالسياسة تجاه إيران من عام 2006 إلى عام 2008، أعرف من خبرتي الشخصية أنه حتى عندما كانت الولايات المتحدة متوافقة استراتيجياً مع شركائها الدبوماسيين، كانت العقوبات تستدعي مثابرة دبلوماسية لا تلين لكي تكون فعالة. وقد نجحت الولايات المتحدة في الحصول على قرارات صادرة عن الأمم المتحدة لتكون قاعدة لنظامٍ أوسع نطاقاً من العقوبات المخصصة، التي منحت للآخرين غطاءً للتعاون – ووازنت حملة الضغط بعملية دبلوماسية، الأمر الذي سمح بمشاركة دول حتى على غرار الصين وروسيا.
أما اليوم فسيكون من الصعب تطبيق مثل هذا النهج الدبلوماسي. فحلفاء الولايات المتحدة في أوروبا سيكونون مستائين من تخلي الولايات المتحدة عن الاتفاق النووي، والأكثر من ذلك سيشعرون بالارتباك من تخلّي واشنطن عن المفاوضات الأمريكية -الأوروبية لإصلاح هذا الاتفاق، وهو الذي حدث بمبادرة خاصة من إدارة ترامب. وبعد إعلان الولايات المتحدة انسحابها، قد تتمثل أولويتهم الكبرى بتهدئة إيران، والحفاظ على الاتفاق على الرغم من الانسحاب الأمريكي منه، وتجنب المزيد من التصعيد للأزمة. أما روسيا والصين فهما في مكان مختلف كلياً – إذ تدهورت علاقاتهما مع الولايات المتحدة خلال العقد الماضي.
وستكون هذه المحاولة الأولى التي تقوم بها الولايات المتحدة لفرض نظام عقوبات ثانٍ وسط هذا التباعد الحاد مع حلفائها. ففي الحالات السابقة – أي مع روسيا وكوريا الشمالية وإيران في المرة الأولى – كانت الولايات المتحدة تختلف غالباً مع شركائها حول التكتيكات، ولكنها كانت تتفق معهم إلى حد كبير بشأن طبيعة التهديد وضرورة التصرف.
بيد، ستحترم الشركات الأوروبية وغيرها من الأطراف المتعددة الجنسيات، العقوبات الأمريكية المتجددة على إيران خوفاً من حرمانها من إمكانية الدخول إلى الأسواق الأمريكية. وبالفعل امتنعت العديد منها عن معاودة الدخول إلى السوق الإيرانية لمجرد احتمال تجدد العقوبات وعوائق أخرى متأصلة في إيران. ولكن المخادعات والتحايلات التي لا مفر منها، والمقاومة من قبل الحكومات والشركات المملوكة للدولة، ستُبطل امتثال هذه الشركات للعقوبات.
ولن تكفي بيانات السوق وحدها لتضخيم أي ضغوط تستطيع الولايات المتحدة فرضها بمفردها ثم ترجمة تلك الضغوط إلى نتائج في مجال السياسات العامة، بل ستكون الجهود الدبلوماسية ضرورية ككل.
وستكون هناك حاجة إلى الدبلوماسية أيضاً للتحكم بما يلوح في الأفق من مقايضات في السياسات. فالصين والهند هما من أكبر عملاء النفط لدى إيران، علماً بأن الصين تواجه خلافات مع الولايات المتحدة في المحادثات بشأن التجارة وكوريا الشمالية، مما يتطلب تحديد الأولويات من قبل صناع القرار في الولايات المتحدة. أما الهند فتعتبرها الولايات المتحدة شريكاً رئيسياً في استراتيجيتها في المحيطين الهادئ والهندي، مما يستوجب توسيع شبكة التحالفات الأمريكية في آسيا.
ولعل النقطة الأهم هي أن الولايات المتحدة لم تضع انسحابها من الاتفاق النووي في أي سياق للسياسة الأوسع نطاقاً. فالبلاد تفتقر إلى استراتيجية لمواجهة إيران، وإلى شركاء تستطيع التعاون معهم في هذا المسعى. وفي الوقت الذي كانت فيه واشنطن تدرس الاتفاق النووي، كانت إيران تعمل على توسيع نفوذها عبر الشرق الأوسط، كما أن احتمالات نشوب حرب بين اسرائيل وإيران أو بين السعودية وإيران آخذة في التزايد.
وفي المرحلة المقبلة، يجب أن يكون لدى إدارة ترامب ثلاث أولويات، هي:
أولاً، يجب على الولايات المتحدة أن تضع أخيراً استراتيجية شاملة بشأن إيران لا تقتصر على التعامل مع أنشطة إيران النووية، بل تسعى أيضاً إلى إفشال المكاسب الإيرانية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، والتصدي لإنتاجها ونشرها للصواريخ. يجب على الإدارة الأمريكية أن تكون مستعدة لأن تفسر لحلفائها كيفية اندراج قرارها بالانسحاب من الاتفاق النووي ضمن استراتيجية أكبر تجاه إيران والشرق الأوسط بدلاً من الحديث عن العقوبات بشكل منفصل.
ثانياً، ينبغي على البيت الأبيض أن يواصل السعي إلى إبرام اتفاقية بين الولايات المتحدة وأوروبا من أجل تعزيز الاتفاق النووي، وأن يكون مستعداً لتعليق العقوبات إلى حين التوصل إلى اتفاق. ومن المؤكد أن يتحول فحوى هذه المحادثات من استكمال الاتفاق النووي [بملحقات إضافية] إلى وضع ربما خارطة طريق مشتركة للوصول إلى تفاهم جديد. ولكن يجب على الولايات المتحدة ألا تضرب الإنجازات التي حققتها خلال الأشهر القليلة الماضية عرض الحائط. ويمكن اعتبار أي اتفاق من هذا القبيل بمثابة خطوة أولى وأساسٍ دبلوماسي لمفاوضات جديدة مع إيران والأطراف الأخرى، وهو احتمال بعيد المنال.
وأخيراً، يجب على كبار المسؤولين الأمريكيين الانخراط في جولة دبلوماسية مكثفة لتوضيح معالم المرحلة المقبلة للشركاء الدوليين دون الاقتصار على الحلفاء الأوروبيين الرئيسيين والشركات الأجنبية، والبدء في العمل الشاق للحد من الخلافات الدبلوماسية التي سيسارع الخصوم إلى استغلالها. وقد لا تجد الولايات المتحدة حلفاء يتقبّلون كثيراً مطلب تجديد العقوبات، ولكن الاستماع إلى مخاوف الدول الصديقة، والتقدم إليها بطلبات محددة، وضمان أن لا تشكل التدابير المتخذة خطراً على أمنها ومصالحها الاقتصادية، قد تساعد في الحد من التداعيات الدبلوماسية.
وبغض النظر عن موقف النقاد الأجانب والمحليين من القرار الذي اتخذه ترامب في وقت سابق من أيار/مايو، فهم يشاركونه رغبته في منع إيران من تحقيق أي مكاسب نووية وإقليمية. ولكن ترجمة هذه الرغبة المشتركة إلى سياسات مواتية تتطلب الآن كل الحنكة الدبلوماسية التي يمكن أن يستجمعها فريق ترامب الجديد للأمن القومي.
مايكل سينغ
معهد واشنطن