باري (إيطاليا) – شارك بطاركة من الشرق الأوسط، السبت، في اجتماع في باري بجنوب إيطاليا بدعوة من البابا فرنسيس، لمناقشة المحنة التي يعيشها مسيحيو الشرق بسبب الحروب وظهور تيارات إسلامية متشددة تستهدف وجودهم.
واستقبل البابا بحرارة البطاركة عند مدخل كاتدرائية القديس نيقولاوس، التي تضم رفات هذا القديس من مدينة ميرا (تركيا حاليا)، والذي مات في القرن الرابع الميلادي ويكرمه الأرثوذكس والكاثوليك.
وبعد صلاة قصيرة، استقل الجميع حافلة صغيرة من دون سقف لإقامة صلاة على شاطئ البحر حيث كانت تُتلى تراتيل بالآرامية والعربية.
وأعرب البابا فرنسيس في كلمة له عن مخاوفه من “تلاشي” الوجود المسيحي في الشرق الأوسط، ما سيؤدي إلى “تشويه وجه المنطقة”، معتبرا أن هذا التلاشي “يجري وسط صمت الكثيرين وتواطؤ الكثيرين أيضا”.
وقال البابا إن “اللامبالاة تقتل، ونريد أن نكون صوتا يقاوم جريمة اللامبالاة”. ومضى يقول “نريد أن نكون صوتا لمن لا صوت لهم، وللذين يحبسون دموعهم لأن الشرق الأوسط يبكي اليوم، وللذين يعانون في صمت بينما يدوسهم الساعون إلى السلطة والثروة”.
ويشعر غالبية رؤساء الكنائس الكاثوليكية بالقلق حيال مصير المسيحيين في منطقة الشرق الأوسط، بعدما أصبحوا هدفا للتنظيمات الإسلامية المتشددة التي استهدفت كنائسهم، ويواجهون تحديات عميقة ترتبط بحماهم، قبل إفراغ المنطقة من المسيحيين.
وباتت فرص الفراغ كبيرة وسط الصراعات المحتدمة بين التجمعات المسيحية نفسها بسبب تنوعها وتعدد ألوان طيفها، فضلا عن الانقسام التاريخي بين الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية.
مع أن الكنائس الغربية بمعزل عن هذه الصراعات، إلا أنها تدرك خطورة ذلك عليهم من زاوية الموجات المتتالية للهجرة والتراجع الكبير للحضور المسيحي في الشرق الأوسط، ما يشي بانهيار جسر حيوي يربط بين الغرب والشرق.
ودعا البابا إلى باري ممثلي غالبية بطاركة الكنائس في الشرق الأوسط، من بينهم بطريرك القسطنطينية بارتلماوس الأول (تركيا) والمتروبوليت هيلاريون ممثّلا لبطريرك موسكو كيريل، وأيضا بابا الأقباط تواضروس الثاني، وبطريرك الموارنة بشارة الراعي، بالإضافة إلى بطاركة آخرين من كنائس كاثوليكية.
ومثلت عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وبينهم سوريون مسيحيون، أحد محاور الاهتمام في اجتماع باري.
واعتبر بشارة الراعي أن على الدول الغربية “تشجيع″ اللاجئين السوريين على العودة إلى بلادهم، وأن ذلك “حق للمواطنين” يجب تمييزه عن الشق السياسي، أي ما تعلق بالموقف من نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
وتابع أن على الحكومات “تقديم مساعدة مالية للأشخاص الذين طردوا من أراضيهم ليتمكنوا من ترميم منازلهم”، بدلا من تكرار الكلام بأنه “ليس هناك سلام”، في الوقت الذي “باتت فيه عمليات القصف محددة جدا”.
ويشارك الراعي في موقفه رئيس أساقفة حلب للروم الكاثوليك جان كليمان جانبار الذي قال إن “النظام شيء، والأرض شيء آخر”.
وكان جانبار الذي لم يترك أبدا مدينته عند تعرضها للقصف أطلق حملة بعنوان “حلب تنتظركم” وأمّن تمويلا لعودة سكان من المدينة إلى منازلهم من خلال تبرعات سويسرية.
ويقول جانبار “لم يبق من أصل 170 ألف مسيحي في حلب قبل الحرب سوى 60 ألفا تقريبا”، مضيفا “أن الذين غادروا إلى الغرب لن يعودوا، لكن الأمر مختلف بالنسبة إلى الذين لجأوا إلى دول مجاورة”.
ومضى يقول إن “ما يحرمني من النوم هو الهجرة، وهي أسوأ ما يمكن أن يحصل لكنيستنا وبلادنا”، مضيفا أنه لم يعد من المناسب إقامة “ممرات إنسانية” إلى أوروبا. وأضاف “يعتقد البعض أن حصولهم على تأشيرة دخول (إلى الدول الغربية) هو بمثابة بطاقة إلى الجنة، لكنهم سيصبحون رقما بين عشرات الآلاف من اللاجئين”.
أما بطريرك أنطاكية للسريان الأرثوذكس إغناطيوس أفرام الثاني المقيم في دمشق فقال “بصفتنا مسيحيين لدينا شعور بأنه تم التخلي عنا”، مضيفا “برامج المساعدات الحكومية الدولية لا تصلنا، وبدلا من مساعدتنا نتعرض للاتهام بأننا من أتباع النظام”.
ورحب البطريرك بالاجتماع في باري، لكنه أعرب عن الأسف لمواقف البابا حيث قال إنه “يبدو وكأنه ينتقد طرفا واحدا فقط”.
وكان البابا فرنسيس اعتبر، الأحد، أن الوضع “لا يزال خطيرا” في سوريا، في إشارة إلى عمليات قصف جديدة للنظام وحليفته روسيا في جنوب البلاد.
ولا يقف الأمر عند تعطل عودة مسيحيي سوريا إلى مدنهم، ففي العراق عجز خمسون بالمئة من نازحي محافظة نينوى من المسيحيين عن العودة إلى منازلهم الخلافات بين حكومتي إقليم كردستان بغداد، خاصة مع سيطرة الميليشيات على الخدمات والأمن.
ويتوقع متابعون للشأن القبطي أن يعطي اجتماع باري انطلاقة جديدة للتقارب بين الكاثوليك والأرثوذكس، بعد تغيرات مهمة قام بها بابا الأقباط في مصر أطاحت ببعض قيادات الكنيسة المعروف عنها الطابع المتشدد ورفض التقارب بين الكنيستين.
وفتحت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية مؤخرا أبوابها بدير السريان للوفد الإيطالي الذي جاء للحج المسيحي بمصر كي يصلي بصحن الكنيسة، حسب الطقس اللاتيني الذي تصلي به الفاتيكان، وكانت له دلالة مهمة، فلأول مرة يقام قداس للكاثوليك في كنيسة أرثوذكسية.
لكن الباحث القبطي يوسف إدوارد قال إن الصلاة في كنائس مختلفة لا تعني أن هناك تقاربا حقيقيا، وحتى الصلاة من أجل الوحدة لا تعني أن هناك وحدة، واستشهد بقول البابا تواضروس نفسه بأن “الصلاة محبة ولا تعني موافقتنا على عقائد الكنائس الأخرى”.
وأكد إدوارد في تصريح لـ”العرب”، أن ما يحدث من لقاءات وصلوات “تقارب شكلي للإيحاء بأن المسيحيين متوحدون، أملا في أن تقلل تلك الصورة من استهدافهم من قبل المتشددين، وأن هناك خلفيات سياسية وثقافية واجتماعية تجعل الوحدة بين الكنائس الشرقية مسألة صعبة، فكيف ستكون الوحدة بين الكنائس الشرقية والغربية، وهل تستطيع كلتاهما تجاوز الخلافات اللاهوتية الفكرية؟”.
ويأمل إدوارد في أن تتغير قناعات الطوائف بما يتلاءم مع التطورات العالمية، لأن صورة فرانسيس بابا الفقراء مع البابا الإصلاحي تواضروس تعطي انطباعا للآخرين بأن الفرقة والانقسام لن يفيدا أيا من الطائفتين في الحد من معاناة المسيحيين حول العالم.
العرب