أثار قرار اتخذته الهيئة الجزائية في محكمة التمييز الاتحادية في العراق، الأربعاء (4 يوليو 2018)، يقضي باعتبار إخلال الطبيب في تنفيذ واجباته تجاه المرضى قتلا خطأ، جدلا واسعا بين جميع الأوساط العراقية، وقد ينتهي بهجرة من تبقى من أطباء إلى خارج العراق.
وأصدر القاضي عبدالستار بيرقدار، المتحدث الرسمي باسم مجلس القضاء الأعلى، بيانا في هذا الشأن قال فيه إن “الهيئة الجزائية بمحكمة التمييز الاتحادية عدّت إخلال الطبيب بواجباته تجاه المريض وعدم إيلائه العناية الطبية اللازمة قتلا خطأ وينطبق وأحكام المادة (411/2) من قانون العقوبات”، موضحا أن “المبدأ التمييزي أشار إلى أن العقوبة لكل من يخل بواجباته يجب أن تكون رادعة لا سيما لمن يتهاون في علاج المرضى والراقدين في المؤسسات الصحية”.
وتلجأ الغالبية من المرضى العراقيين إلى مستشفيات الأردن والهند ولبنان ومصر وإيران لتلقي العلاج حاليا، بعد أن غادر الكثير من الكوادر الطبية منذ الغزو الأميركي للعراق بعد تعرضهم لعمليات خطف منظمة ومطالبة ذويهم بدفع فدية لإطلاق سراحهم بمبالغ فلكية، ومن تبقى في العراق من أطباء يعملون، الآن، تحت هاجس الخوف من العقوبات العشائرية، وجاء قرار الهيئة الجزائية في محكمة التمييز الاتحادية ليكمل الإطباق على رقابهم ويمنعهم من تقديم خدماتهم لمرضاهم في جو إيجابي لا خوف فيه.
وعدّ الصحافي والكاتب العراقي مظهر عارف، المقيم في الولايات المتحدة الأميركية، هذا القرار بأنه شرعنة لقتل الأطباء وحملة لتصفيتهم وتبرئة الميليشيات من الجرائم التي ارتكبت ضدهم وإخلاء العراق من الأكفاء والاعتماد على أطباء إيرانيين، إذ أصبح من السهل اعتقال أي طبيب وسجنه بمجرد شكوى كيدية، واصفا القرار بأنه في جوهره سياسي على خلفية تزايد احتجاجات الأطباء على سياسات الوزارة وانتشار الفساد وإحلال آخرين من خريجي الوساطة والمحسوبيات، الذين لا يسببون أي إزعاج للنظام، فضلا عن أطباء إيران الذين سيأتون للعمل في العراق وسط انهيار الأوضاع هناك بسبب العقوبات المفروضة على طهران وتشغيل الخريجين الجدد هناك ومنع التحاقهم بالانتفاضة الإيرانية.
نشطاء عراقيون يفكرون في إنشاء جمعيات شعبية للدفاع عن الأطباء ولمنع هجرتهم وبقاء العراق خاليا من الأطباء
واعتبر سفير العراق الأسبق في ماليزيا عدنان مالك أن إصدار هذا القرار، في هذا الوقت بالذات، هو جزء من الحملة الشعواء لإفراغ العراق من كوادره وعلمائه كي يكون كيانا متخلفا كما أعلنه جيمس بيكر عندما التقى طارق عزيز في العام 1991 بإرجاع العراق إلى العصور الوسطى بتنفيذ إيراني.
من يقرر القتل الخطأ
تناولت الأكاديمية وأستاذة علم الاجتماع في الجامعة المستنصرية سابقا الدكتورة منى العينه جي القرار من وجهة نظر اجتماعية، ولهذا فهي تقول إن رأيها ربما سيكون مختلفا، إذ أن القانون يسنّ في مجتمع عشائري تحكمه قوانين متعددة، والقانون العشائري هو أقوى من القانون الوضعي في مثل هذا المجتمع.
ولأن عملية تنفيذ القصاص تكون فورية، فإن سن مثل هذا القانون يتطلب إيقاف عمل القانون العشائري أو قوانين لسلطات أخرى في المجتمع مثل الأذرع العسكرية للأحزاب، التي تمارس تنفيذ قرارات وفق صلاحياتها وربما من دون الرجوع إلى مرجعياتها من قادة الأحزاب.
وتتساءل، من سيقرر القتل الخطأ؟ وكيف نضمن عدم اتهام الأطباء باطلا وكيدا لاختلافاتهم كما يحدث في باقي تفاصيل الحياة العراقية؟ متوقعة أن يكون مثل هذا القرار أداة تصفية مشرعنة إن لم يكن مرفقا بنظام شامل للمؤسسة الصحية يتضمن توفير مستلزمات أساسية من مستشفيات وأجهزة ومعدات وعلاجات وكوادر تمريضية مدربة وغيرها مع وجود نظام قضائي نزيه للفصل في حالات الشكاوى أو سن قانون يحاسب بشدة أي إجراء عشائري يسبق التحقق من القتل الخطأ ويحدد أن القصاص من حق الدولة فقط.
ومن وجهة نظر مهنية طبيّة يرى استشاري جراحة العظام في واشنطن البروفيسور شاكر جواد أن إصدار مثل هذا القرار خطوة تحتاج إلى إنضاج أكثر وتوقيتها غير ملائم، حاليا لأنها قد تؤدي إلى نتائج سلبية خطرة تتراوح بين زيادة معدلات هجرة الأطباء وتعريض الأطباء لمطالبات عشائرية، خاصة أن المجتمع العراقي أصبح يتعامل مع مشكلاته بطرق بدائية عن طريق العشائر لا عن طريق القانون.
القانون في مثل الوضع العراقي الراهن يعني أنه بدلا من محاولة إثبات أن الطبيب غير مسؤول عن نتيجة إجراءاته الطبيّة ما دام قد اتبع الطرق الصحيحة في العلاج، ووفاة المرضى كانت بسبب طبيعة المرض أو حصول مضاعفات خلال العملية الجراحية أو طبيعة الإصابة وغيرها من العوامل التي لا يستطيع الطبيب تغييرها.
وينبّه شاكر جواد إلى أن الدولة يتوجب عليها أولا أن توفر كافة وسائل التشخيص الحديثة في مؤسساتها الصحية بما يتناسب وآخر التطورات الحديثة في العالم حتى لا يقع الطبيب في خطأ، لأن الخطأ في التشخيص يؤدي إلى خطأ في العلاج.
ولكي تمتلك الدولة الحق في محاسبة موظفيها على أخطائهم فيجب أن توفر لهم كل العلاجات الطبية والأدوية الحديثة والأجهزة الجراحية وأجهزة التعقيم بكميات كافية وبآخر التقنيات، والتدريب المستمر للأطباء ومساعديهم، إذ ليس بمقدور الطبيب وضع خطة علاج متكاملة من دون توفر أدوية ومستلزمات حديثة وكافية، فنحن هنا كمن يرسل الجندي إلى الحرب من دون عتاد كاف ثم نحاسبه لعدم قتله الكثير من الجنود.
ويفسّر صدور هذا القرار في هذا التوقيت بأنه محاولة لامتصاص نقمة الناس على الوضع الإداري المتردي لأجهزة الدولة ومحاولة إيجاد كبش فداء من أحد قطاعات الدولة، في حين أن على الأخيرة، بدلا من ذلك أن تنظر إلى كيفية تطوير البنية التحتية للنظام الصحي بحيث يكون كفؤ بكل جوانبه قبل أن تحاسب الطبيب العامل في ظروف غاية في السوء ضمن هذا النظام المهترئ أصلا.
للقانونيين رأي
يرى أحد القضاة العاملين داخل العراق، وطلب عدم ذكر اسمه، أن لا استهداف سياسيا وراء إصدار هذا القرار، وإنما هو إجراء لتطبيق قانون موجود فعلا بعد أن بلغ الاستهتار بحياة المرضی حدا خطرا، بخاصة وأن هناك أطباء جددا لا يمتلكون أي كفاءة ومهملون في عملهم فتم تطبيق القانون ليكون رادعا لهم.
ويشير القاضي في قوله إلى قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 وتعديلاته، ولكن فاته أن هذا القانون صدر في ظل منظومة صحية متكاملة ومؤسسات صحية متكاملة أو شبه متكاملة وأطباء أكفاء يقصدهم الناس من خارج العراق، لذلك لم يطبق كل تلك السنين إلا على حالات نادرة جدا.
وهذا ما قاله أيضا مدير المركز العربي للعدالة في لندن محمد الشيخلي لـ”العرب”، مشيرا إلى أن الطبيب يجب أن يعمل ضمن منظومة صحية متكاملة تكمل بعضها بعضا في أي دولة، وهذه المنظومة تبدأ بتوفير الدولة لكل الاحتياجات الأساسية في العمل الطبي من أسرة المرضى والأجهزة الطبية والتشخيصية وعوامل العناية المركزة بعد إجراء التداخلات الجراحية وغيرها، وفِي حالة إخلال أو تقصير أَي قسم ضمن هذه المنظومة، فإنه سيؤدي إلى عواقب وخيمة بحق المريض أو بحق الطبيب، ولا يجوز تحميل الطبيب مسؤولية تقصير بقية أقسام هذه المنظومة وحصرها بمسؤولية الطبيب كالقتل الخطأ.
ويرى أن قرار الهيئة الجزائية في محكمة التمييز سيفتح باب التوسع لمقاضاة الأطباء برغم ما يتعرضون له من تحديات وضغوط أثناء العمل ومساءلات قانونية وحتى عشائرية، وسيكون سابقة خطرة تتيح لأي ادعاء بخطأ طبي إلى مساءلة الأطباء، وسيضيف تحديا خطرا للعمل المهني الطبي.
ويقول الشيخلي إن ما أورده قانون العقوبات العراقي بالمادة 411/2 يقتضي تعمقا في التحقيق لحصر المسؤولية في الخطأ الطبي وهذا يجب أن يستند إلى قرار لجنة طبية متخصصة فيها خبراء من الكفاءات الطبية بأعلى من الطبيب موضوع الاتهام، وهذا لا يعفي الدولة أو وزارة الصحة من المساءلة في عدم إكمالها للمنظومة الصحيحة للدولة.
ويفكر نشطاء عراقيون في إنشاء جمعيات شعبية للدفاع عن الأطباء ولمنع هجرتهم وبقاء العراق خاليا من الأطباء. وقدرت نسبة الأطباء الذين هاجروا خارج العراق بعد عام 2003 نحو 60 إلى 70 بالمئة من أصل العدد الكلي المسجل لدى نقابة الأطباء العراقيين البالغ 34 ألف طبيب، فضلا عن هجرة أعداد غير معروفة للكوادر الطبية الوسطية، بحسب إحصائية رسمية لوزارة الصحة العراقية.
العراق يفرغ مما بقي فيه من أطباء
بغداد – لم يشهد نظام الرعاية الصحية في العراق تحسّنا كبير رغم أنه من أكثر القطاعات حيوية في البلاد.
وأدى تردي الوضع إلى هجرة الكثير من الكفاءات الطبية العراقية، ومن بقي منهم يجد نفسه اليوم مخيرا إما الهجرة أو تغيير المهنة، وإما العمل في ظروف أشد صعوبة.
ويروي شفيق نعيم السامرائي، الذي كان يعمل كطبيب أخصائي في جراحة الأنف والأذن والحنجرة في أحد المستشفيات الحكومية بالعاصمة بغداد، تجربته، في حديث نقلته وكالة الأنباء الألمانية “دويتشه فيله”، مشيرا إلى أنه لم يكن يتصور يوما أن مهنته الإنسانية ستجلب له المتاعب وسيرغم على تركها.
واعتزل شفيق مهنة الطب منذ عامين إثر مضايقات من قبل أفراد إحدى العشائر بسبب حادثة أرغمته على دفع فدية مالية تعادل 40 ألف دولار أميركي، بعدما أجرى عملية جراحية لتصحيح كسر في أنف أحد مرضاه، لكن توفي المريض بعد نحو شهر نتيجة تأثره بتخثر الدم.
ويؤكد الطبيب العراقي “على الرغم من نجاح العملية (..) وحتى إن لم يكن خطأك فعليك أن تدفع المال تجنبا للمشاكل”.
ويقول السامرائي بمرارة مستحضرا تلك اللحظات العصيبة “هذه الحادثة دفعتني إلى أن اعتزل مهنة الطب وألتجئ إلى عمل آخر خوفا على حياتي في ظل سلطوية العشيرة.. كنت أريد خدمة أهلي وبلدي ولكن الأعراف العشائرية حالت دون ذلك”.
وخلال الأيام الماضية، نظم الأطباء مسيرات احتجاجية، على خلفية وفاة الطبيب سليم عبدالحمزة متأثرا بطعنات تعرض لها من قبل مسلحين مجهولين اقتحموا عيادته الخاصة في منطقة المعامل ببغداد.
وجاءت العملية بالتزامن مع اختطاف طبيبين أحدهما يعمل في مستشفى الحكيم في مدينة الصدر والثاني في عيادته الخاصة ببغداد الجديدة، وفي نفس الأسبوع قتلت طبيبة أسنان بمركز صحي في منطقة الوشاش في بغداد.
لكن، رغم مأساوية الوضع الذي يعيش في خضمه الأطباء في العراق، فإن هناك العديد من الأطباء الآخرين والكوادر الطبية الذين استفادوا كثيرا منه، وفتح لهم نقص الأطباء المتخصصين الباب للسمسرة والمتاجرة بحياة المرضى.
العرب