الحرب القادمة قاب قوسين أو أدنى

الحرب القادمة قاب قوسين أو أدنى

تنبئ التطورات السياسية في المنطقة والحرب الدائرة على أكثر من جبهة في سوريا والعراق وليبيا، بدخول الشرق الأوسط حرب جديدة أشد تدميرا، وهي حرب تحتاجها الولايات المتحدة لإبقاء سيطرتها على المنطقة واستثمارها لصالح حرب أخرى في بحر الصين الجنوبي، أو ضد أي قطب دولي آخر، وتشبه المؤشرات الإقليمية الجديدة كثيرا بما مرت به المنطقة العربية والخليج تحديدا خلال حربي الثماني سنوات الأفغانية السوفييتية، والإيرانية العراقية. ويعتقد المراقبون أن التصعيد الأميركي الإيراني ليس إلا لعبة جديدة لإشعال فتيل حرب جديدة بالمنطقة، وعلى صانع القرار في الخليج ألاّ تنطلي عليه الأكاذيب الأميركية، حيث لم تقم واشنطن إلى الآن بإزاحة الخطر الإيراني عن المنطقة.

لهذا المقال جزء سابق نشرته في صحيفة أخبار الخليج البحرينية بعنوان “الحرب القادمة” (2017/6/4)، أشرت فيه نصاً إلى المراقبين الاستراتيجيين، والمتخصصين في الدراسات المستقبلية، الذين يؤكدون “أن المؤشرات التي بدأت تتراكم خلال الفترة الماضية تشبه كثيراً ما مر به العالم قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية، ورغم سيادة الاعتقاد بأن الدول النووية لا يمكن أن تدخل في مواجهة عسكرية جديدة، خوفاً من استخدام القوة المدمرة التي لم تكن متوافرة في الحربين العالميتين السابقتين، فإن هناك ارتفاعا ملحوظا في مؤشرات قيام حرب عسكرية، مباشرة أو بالوكالة، بين أقطاب كبرى”.

وبعد مرور عام على ذلك المقال، أعود للكتابة مرة أخرى حول ذات الموضوع، وهو الحرب القادمة، لتحديث المعلومات وقد تبلورت صناعة أسبابها ومبرراتها وسيناريوهاتها، وباتت قاب قوسين أو أدنى زمنيا وجغرافيا لمنطقتنا العربية عموما، والخليجية خصوصا.

وأبدأ مقالي هذا بالتأكيد على أنّ المؤشرات الإقليمية الجديدة التي بدأت تتراكم خلال الفترة الماضية تشبه كثيراً ما مرت به منطقتنا قبل حربي الثماني سنوات الأفغانية السوفييتية، والإيرانية العراقية في مطلع ثمانينيات القرن الماضي. فإن هناك ارتفاعا ملحوظا في مؤشرات قيام حرب عسكرية مباشرة أو بالوكالة بين أقطاب إقليميين ودوليين.

وتحت عنوان “أميركا تتجه إلى حرب مع الصين رغم معرفتها بنتائجها” نقل موقع قناة “روسيا اليوم” (2018/6/22) تصريحات جديدة لميخائيل ديلياغين، الأستاذ في العلوم الاقتصادية ومدير معهد مشكلات العولمة في موسكو، يقول فيها بأن خبراء الصين يحللون “على محمل الجدّ إمكانية اشتباك عسكري محتمل بين الولايات المتحدة والصين في بحر الصين الجنوبي في العام 2021-2020”، وجاء هذا التصريح في معرض حديثه عن ازدياد حدة الصراع حول “مَن هو سيد العالم”، بعد أن تمكّن الصينيون من أن يثبتوا أن “الأميركيين لم يعودوا أسيادا في المناطق المهمة للصين”.

الصين القطب الصاعد

وفي نفس الموقع الإعلامي يؤكد الكاتب الروسي سيرغي غولوفتشينكو أن الولايات المتحدة بدأت “حربها التجارية مع الصين. والبيت الأبيض، بالمعنى الحرفي، مستعد لاستهداف الصينيين لأي سبب ومن دون أي سبب. وتسبب قواعد الصين العسكرية في جزر بحر الصين الجنوبي سُعارا لدى واشنطن”؛ وبجانب هذه الجزر العملاقة التي تعدّ كل واحدة منها عبارة عن حاملة طائرات غير قابلة للغرق، ووظيفتها “حماية الاتصالات العالمية الجديدة بشكل موثوق من أي هجوم معتد، خاصة الأميركي”، هناك مشروع صيني أكبر تسبب للولايات المتحدة سُعارا أشد وقعا، وهو مشروع “حزام واحد-طريق واحد”، الذي بدأ مبكرا بمسمى “طريق الحرير”، ليتحوّل إلى أكبر مشروع مواصلاتي في التاريخ، يربط الشرق بالغرب، الصين بالعالم، بحرا وبرا، وتم العمل به بجهد استراتيجي فكري واقتصادي ولوجستي جبار. وقد أصبح المشروع واقعا وحقيقة.

ويقول الصينيون عن مشروع “الطريق الحزام” إنه يهدف “لإصلاح المشهد السياسي والاقتصادي المعاصر على قاعدتين جديدتين، العدالة والعقلانية”، في مواجهة ادّعاءات العولمة التي أطلقها الأميركان منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، والتي كان هدفها الرئيسي تهميش الأقطاب الصاعدة (الصين وروسيا والهند).

لم يعد هناك شك بأن الصين تمكّنت باستراتيجية مُحكَمَة من إلغاء السيادة الأميركية على العالم، بقوتها الاقتصادية وتكتلاتها الاستراتيجية القوية التي باتت تتعامل مع الغرب بتفوّق يتجاوز الندية، بدءا بمنظمة شنغهاي للتعاون، ثم مجموعة “بريكس”، وثم البنك الآسيوي للتنمية، والذي يقوم بدور المنافس للبنك الدولي،على قاعدة “العدالة والعقلانية”. القاعدة التي لا يؤمن بها الغربيون بالإطلاق. والقاعدة التي حوّلها الأميركان إلى مجموعة شعارات هجينة وممسوخة وكاذبة متمثلة في ادعاءات حقوق الإنسان، ومواثيقها، لتكون سلاحا جديدا لعودة الاستعمار القديم إلى عنجهيته.

ونحن إذ نكتب عن الاحتمالات، التي تزداد تأكيدا كل يوم، حول نشوب حرب في أقصى شرق آسيا، فإن هدفنا هو تفسير انعكاساتها على منطقتنا العربية، في أقصى غرب آسيا، والتي تزداد أحداثها تصعيدا باتجاه حرب جديدة قادمة في منطقة الخليج، ستكون أشدّ تدميرا من الحروب السابقة. حرب تحتاجها الولايات المتحدة لإبقاء سيطرتها على المنطقة ومواردها وبحارها ومضائقها، إضافة إلى تحييد مواقف دول المنطقة على المستوى الدولي والأممي، في أيّ حرب ضد الصين أو أي قطب آخر.

ولمعرفة علاقة الحربين ببعضهما البعض، بات من المهمّ العودة لقراءة ذلك التاريخ القريب لحرب الثماني سنوات السوفييتية الأفغانية، وحرب الثماني سنوات العراقية الإيرانية الموازية لها (1988-1980)، وقراءة فترة ما سبق اندلاع الحربين بدءا بالحرب الإعلامية، والهجمات الإيرانية على الحدود العراقية، وصولا إلى الغارات الإيرانية على بغداد. وهناك أهمية بالغة جدا لقراءة ذلك التاريخ لمعرفة مدى تشابه أحداثه مع الأحداث الراهنة، التي ترمي لزجّ العرب في حرب مباشرة أو بالوكالة مع إيران، وهي حرب أميركية بامتياز.

ودون الدخول في التفاصيل التي عشناها يوما بيوم، بات أكيدا بأن حربي الثماني سنوات تلك كانتا حربين بالوكالة بامتياز، وكانت الولايات المتحدة الرابح الأكبر فيهما، دون أن تكون أرضها ساحة للمعارك، أو قواتها وجنودها وقودا لها، بينما خرجت الدول الأربع من الحربين مدمرة ومهزومة بملايين الضحايا من أبنائها وأرقام فلكية من مواردها واقتصاداتها.

تمكّنت الإدارة الأميركية أن تشحن وتموّل الحربين بأبناء وأموال الخليج، عبر مقايضات غبية تتوزع بين وعد الخلاص من الشبح الشيوعي الكافر من جهة، ووعد توفير الدعم الأميركي للمنطقة في مواجهة إيران التي بدأت حينها بتصدير ثورتها المشؤومة لمنطقتنا من جهة أخرى، بينما كان الأميركان يوفرون الدعم الاستخباراتي (بالأقمار الصناعية)، والدعم العسكري وكل أنواع الأسلحة إلى إيران عبر بوابة إسرائيل إيران غيت “Iran Gate”، لإبقاء الحرب مستمرة حتى النهاية المرسومة لها.

والأكثر إجحافا أن الحربين لم تنتهيا بانتهاء المعارك، وبإعلان انتصار الولايات المتحدة على الاتحاد السوفييتي، بل استمرت المخابرات الأميركية بعد ذلك في استثمار كل القوى الدينية المتطرفة، التي صنعتها للحرب الأفغانية، في معارك لاحقة بدأت بحرب البلقان في التسعينات من القرن الماضي، ولم تنته حتى يومنا هذا بحروب الإرهاب التي تجتاح وطننا العربي، والتي بات واضحا بأنها أخطر الأسلحة دموية وتدميرا في مشروع التغيير الجيوسياسي الأميركي سيء الصيت.

لعبة جديدة
نتوقف هنا عن سرد المزيد من التفاصيل حول ذلك التاريخ الذي نحن بأمسّ الحاجة لاسترجاعه واستيعابه اليوم لدراسة بعض الظواهر السياسية الإيرانية والأميركية الجديدة، والشبيهة لما حدث في تلك الفترة، والتي تدفع بقوة باتجاه توريط دول الخليج في حرب جديدة، مباشرة، وبالوكالة، أمام إيران وأذرعها وعصاباتها الإرهابية والميليشياوية المنتشرة في المنطقة.

ونتساءل هل يمكن أن تمر الأكاذيب الأميركية مرة أخرى على صانع القرار في الخليج، وهل سيُلدغ الخليجيون من ذات الجحر مرة أخرى؟ وبعد احتلال العراق (2003) نجح الأميركان في كسر ميزان القوى الأمنية في الخليج العربي بإهداء العراق إلى إيران على طبق من الفضة، بعد هزيمتها أمام العراق في حرب الثماني سنوات.

وبعد ما يُدعى بـ“الربيع العربي” نجح المشروع الأميركي في زعزعة النظام الرسمي العربي، ونشر الفوضى السياسية التي لازال غبارها يعمي الأبصار عن رؤية الواقع والمستقبل المرسوم لبلادنا؛ وتعيش اليوم المنطقة العربية حالة حرب إعلامية، تتلاعب بالعقول والقلوب، لدفع بلادنا إلى أتون حرب قذرة جديدة لا يعلم غير الله كم سيطول أمدها. فالدور الذي يلعبه الأميركان مع إيران ما هو إلا لعبة جديدة-قديمة، يجيدها الطرفان، وهدفها الرئيسي هو إشعال حرب ستأكل الأخضر واليابس على أرضنا العربية، بعيدا عن أرض إيران وغيرها من الدول المحرضة.

وبتحليل بسيط لحرب التصريحات الإعلامية الأميركية، الإسرائيلية والإيرانية، يمكن لأي محلل استراتيجي على علم ودراية معرفية وافية بتاريخ منطقتنا أن يستنتج بأن هناك اتفاقا أميركيا إيرانيا إسرائيليا على زجّ بمنطقة الخليج العربي في أتون حرب ستحوّل منطقتنا إلى رهينة يتم استثمارها لصالح حرب أخرى في بحر الصين الجنوبي، أو ضد أي قطب دولي آخر. حرب ستحرق أرضنا وشعبنا العربي، ولا مصلحة لنا بها.

إن أي حرب قادمة ستكون نزيفا بشريا واقتصاديا طويل المدى، ولن تكون نتائجها أقل تدميراً من الدمار الجاري في العراق وسوريا وليبيا، وستقلب كل موازين القوة في منطقة الخليج، كما ستُمحي حدود “سايكس بيكو” لتحلّ محلّها خريطة جديدة بمجموعة من الدويلات الطائفية على النموذج العراقي الذي صنعه الاحتلال الأميركي، لتنبثق من هذه الحرب خريطة الشرق الأوسط الجديد، والمنزوع من كل مصادر القوة. ورغم بساطة كتابة هذه الكلمات إلا أن الحرب القادمة ستكون بشعة ومدمرة، على جميع المستويات. دون أن ننسى مرة أخرى أن نؤكد بأن الحروب لا تحلّ المشكلات، والخلافات، أبدا، وإنما فقط ترحّلها إلى حروب قادمة.

تعاني منطقتنا العربية عموما، والخليجية خصوصا، من غياب ذاكرتها التاريخية، ومن عدم استيعاب المفهوم الاستراتيجي للعبة المصالح الغربية، الخالية تماماً من “العدالة والعقلانية”. ويبدو أن هناك من لا يزال يعيش على أحلام واعتقادات قديمة بأن الغرب لازال وسيبقى حليفاً لن يقبل بإسقاط دول الخليج العربي (النفط). ومن المؤسف عدم استيعاب مدى خطأ هذا الاعتقاد، وأن هذه القراءة التي خلقتها ورسختها اتفاقية “سايكس بيكو” في باطن العقل الخليجي انتهت صلاحيتها، ولم تعد تناسب خطط واستراتيجيات الغرب للمنطقة منذ انتهاء الحرب الباردة في 1989. لذلك من المؤسف أن يكون هناك من يعتقد بأن أي رئيس للولايات المتحدة، يجيد التلاعب بالألفاظ والعقول والقلوب، ويجيد الخدع السحرية (جلا جلا)، سيدعم منطقتنا في مواجهة إيران، المدعومة بالسياسات الأنجلو أميركية، والمتأهبة للانقضاض على المنطقة في اللحظة التاريخية التي تناسب مصالحها لتلتقي مع المصالح الأميركية في الصراع حول “مَن هو سيد العالم”. والنموذج العراقي لهو أبشع من أن يتم تجاهله.

خطر الدور الإيراني

ومن منطلق التحالفات الخفية، الأنجلو أميركية-الإيرانية، يجب ألاّ يغيب عن بال العرب بأن إيران تلعب اليوم أخطر أدوارها في سوريا واليمن، ولم يعد خافيا حجم الخلافات التي بدأت تتشكّل في الساحة السورية بين روسيا وسوريا من جهة وإيران من جهة أخرى، والتي زادتها حدة الغارات الإسرائيلية المستمرة، التي يقال بأنها لضرب أهداف إيرانية في دمشق، والتي جاءت بعد “تفاهم جديد تم إبرامه بين روسيا وإسرائيل مؤخرا”. مما يدل بوضوح على مدى الخطر الذي تشكله إيران “على استراتيجية روسيا في سوريا على المستويين العسكري والسياسي، ففي الوقت الذي تسعى فيه روسيا لإنجاز تسوية في سوريا في إطار دولة علمانية وفدرالية مع الاحتفاظ بقواعدها العسكرية الساحلية، تتطلّع إيران لإنجاز تسوية في سوريا تؤكد دورها الإقليمي في إطار مشروع أيديولوجي قومي فارسي ودولة طائفية” (عمر الرداد، عميد سابق في المخابرات العامة الأردنية، ومحاضر في الأمن الاستراتيجي الإقليمي، منتدى فكرة 2018/6/25).

وهناك في سوريا واليمن، واللتين باتتا منطقتين كفيلتين “بتوريط الدول الإقليمية والدولية فيهما”، كما جاء في تقرير لمجموعة الأزمات الدولية، هناك يتم حاليا تجنيد إيران ورسم دورها القادم، لزجّ المنطقة في حرب جديدة، باتفاق إسرائيلي أميركي إيراني، كما تم تجنيدها سابقا لحرب الثماني سنوات ضد العراق. أما ساعة الصفر فهي من الأسرار القومية للأقطاب الدولية التي تتنازع على سيادة العالم.

لذلك نضع هنا أصعب سؤال أمام من يعتقد بأن أي رئيس أميركي خلال القرن الحادي والعشرين يمكن أن يكون حليفا وعونا للعرب. يا ترى لماذا لا يُخرج الأميركان إيران من العراق، لتحييد قوة إيران المزعومة، التي يتم ترهيبنا بها، عوضا عن التهديدات الإعلامية الجوفاء التي لم تحقق حتى الآن أي فعل رادع ضد إيران؟ أليس الموقف الدولي مع حوثيي إيران من صعدة إلى صنعاء، ثم الحديدة، دليل حي ونموذج للتواطؤ الأنجلو أميركي مع إيران ضد العرب؟ قد تفتح الإجابة على هذين السؤالين أبواب المعرفة المغلقة أمام الشعوب والقيادات الخليجية، دون أن ندفن رؤوسنا في الرمال خوفا من مواجهة الحقيقة.

وختاما، وبكلمات بسيطة نعيد مأثورة الرئيس المصري السابق، حسني مبارك، والتي أطلقها من منفاه بعد فوات الأوان، “المتغطي بالأميركان عريان” يا جماعة. فلن تخرج هذه الأمة من عنق الزجاجة إلا بقوة عربية مؤمنة، وفكر عربي استراتيجي، خاليين تماما من النكهة الأجنبية.

وفي ظل شح المعلومات، ستبقى الأحداث مرشدنا لفهم وتحليل الأجندات والمشاريع والاستراتيجيات الدولية التي يزداد سعيرها مع ازدياد قوة المواجهة بين الأقطاب الدولية. آملين أن تحدد بلادنا العربية موقفاً قويا وداعما بجانب العدالة والعقلانية الدولية، ضد الظلم والابتزاز الدولي.

العرب