البقاع (لبنان) – بدأ الجيش اللبناني عملية أمنية أخرى في سهل البقاع الشمالي لإنهاء العنف المستشري والإجرام في هذه المنطقة القبلية التي تم إهمالها على مدى عقود من قبل الحكومة اللبنانية.
وانتشرت القوات اللبنانية، أواخر يونيو في بعلبك، أكبر مدينة في سهل البقاع الشمالي، واتخذت إجراءات أكثر صرامة عند نقاط التفتيش على الطرق الرئيسية في المنطقة. لكن لن تحقق هذه الإجراءات النتائج المرجوة في منطقة أصبحت ملاذا للأنشطة الإجرامية مثل زراعة المخدرات وسرقة السيارات وتزوير العملات، التي يدعمها الرضوخ للقوانين القبلية التقليدية، والتي غالبا ما تؤدي إلى نشوب صراعات دموية.
يتمثل جزء من المشكلة في أن المنطقة لا تزال مهملة ومتخلفة على الرغم من أنها واحدة من أكثر المناطق خصوبة وكانت تعرف في السابق باسم “سلة خبز الإمبراطورية الرومانية”.
وتتم زراعة المخدرات على نطاق واسع في سهل البقاع الشمالي، على الرغم من أن التجار، وليسوا المزارعين، هم من يحققون أرباحاً كبيرة، تكشف عنها قصورهم الفخمة المتناثرة حول التلال، في الوقت الذي تنتشر فيه المساكن الشعبية الفقيرة في القرى المجاورة.
وعندما تغلق الطرق الرئيسية في سهل البقاع الشمالي، فإنه سرعان ما سيتعثر طريقك لتجد نفسك تمر بالحقول الخضراء التي تعج بنباتات القنب الشجرية ذات الأشواك المدببة. وتعتبر زراعتها جريمة وفي كل عام تحاول الحكومة القضاء على المحصول قبل موسم الحصاد، ما يؤدي إلى نشوب معارك بالأسلحة بين الشرطة اللبنانية والمزارعين الذين يحاولون حماية مصدر رزقهم.
وخلال الثمانينات، في ذروة الحرب الأهلية في لبنان، كان سهل البقاع مليئا بزراعات المخدرات والأفيون. وفي أوائل التسعينات، بدأت الحكومة اللبنانية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي مبادرة استبدال زراعة المخدرات بزراعة المحاصيل المشروعة. وقدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن المشروع سيتكلف حوالي 300 مليون دولار لتطوير سهل البقاع، لكن المشروع لم يُنفّذ أبدا على أرض الواقع. وتم إسقاط المبادرة واستمرت زراعة الحشيش.
ويعرف سهل البقاع الشمالي أيضا باسم “ثكنات حزب الله”، وهي الميليشيا المدعومة من إيران التي جاءت من قرى التلال في سهل البقاع الشرقي عام 1982. حيث تمتلئ التلال المحيطة بالوادي بمعسكرات تدريب ومرافق عسكرية تبقى تحت الحراسة. وتظل الميليشيا الشيعية مصدرا رئيسيا لاستقطاب وتوظيف الشباب في المنطقة في ظل ندرة البدائل الأخرى.
وتبعا لذلك تم اتهام حزب الله بتعمده إبقاء منطقة سهل البقاع فقيرة لتعزيز التبعية له. وخلال ذروة الصراع في سوريا، دفع حزب الله حوالي 600 دولار شهريا للمجندين الذين تم تدريبهم لمدة شهر كامل في البقاع قبل إرسالهم إلى ساحات القتال الدموية هناك.
600 دولار يدفعها حزب الله للمجندين في البقاع قبل إرسالهم إلى سوريا
ويتساءل أحد أفراد عشيرة جعفر، واحدة من أكبر وأقوى القبائل في البقاع، “هل تعتقد أننا سنخاطر بحياتنا مقابل 600 دولار في الشهر إذا كان لدينا خيار آخر؟”، ويرد قائلا “إذا كانت لدينا خيارات بديلة للعمل في البقاع، كنت سترى الناس يغادرون حزب الله بالمئات”.
وبالتأكيد، يحتفظ حزب الله بتأييد عدد كبير من السكان الشيعة في البقاع وكان على الجماعة أن تعمل بجد وبتملق لاسترضاء القبائل التي تربت على الولاء للعشيرة كهدف أسمى وأعلى بكثير من الولاء لحزب سياسي أو حتى للدولة.
ولكن تتفاقم التحديات التي يواجهها حزب الله بسبب شكوى قديمة من أن قيادة الحزب يهيمن عليها أفراد من جنوب لبنان، في حين أن المجندين يتم تعيينهم من البقاع.
وفي قرية القصر الواقعة على الحدود في الطرف الشمالي من سهل البقاع، لا توجد هناك حدود رسمية مع سوريا، حيث يمر الجسر الخرساني الذي يبلغ طوله 1.2 متر ويمتد فوق مصرف للري يأخذ أحدها من لبنان إلى سوريا، لكن لا توجد علامات أو أعلام أو أفراد أمن يشيرون إلى المرور من بلد إلى آخر.
واستفاد شيوخ القبائل المطلوبون من قبل السلطات اللبنانية من سهولة الوصول عبر الحدود إلى سوريا، وقد طلب بعضهم الحماية من خلال عرض القتال دعما للنظام السوري.
وفي ظل خضوعهم للتدريبات العسكرية وتعاملهم مع المعدات الروسية وتقاضيهم راتبا شهريا مقداره 200 دولار، قاتل حوالي 300 من رجال القبائل الشيعية جنبا إلى جنب مع القوات الخاصة الروسية ضد مقاتلي تنظيم داعش في أماكن أبعد ما تكون عن لبنان، مثل تدمر ودير الزور، وهو ما جعلهم يحظون بامتنان واحترام موسكو ودمشق.
وقامت مجموعة من الجعافر في يونيو بشرب الصودا وتدخين الغليون في مقهى صغير يقع على بعد كيلومتر واحد داخل سوريا تظلله الأشجار التي تتمايل في النسيم الحار، كان جميع الرجال مسلحون، بعضهم ببنادق من طراز “آيه كي 47”، وآخرون يحملون مسدسات أوتوماتيكية. وكان معظمهم مطلوبين من قبل السلطات اللبنانية بتهمة زراعة الحشيش والاشتباك مع القوات اللبنانية.
وقد سخر هؤلاء من الحملة الأمنية الأخيرة التي شنتها السلطات اللبنانية ضدهم، مشيرين إلى أنهم على علم بالحملة قبل عدة أيام، مما أتاح لهم الفرصة لمغادرة منازلهم والذهاب للاختباء.
ومع ذلك، كان أهم شيء يسيطر على أذهانهم هو عداء قاتل قديم اندلع بين أفراد عشيرة الجعفر وعشيرة جمال المنافسة. وكانت أسباب النزاع غامضة، لكن الجعفريين قالوا إن أحد أقاربهم أصيب برصاصة في مؤخرة رأسه على يد أحد أفراد قبيلة جمال، وهو الحادث الذي تسبب في نشوب المعارك لمدة يومين.
ويقول قائد مجموعة الرجال، ويطلقون عليه “الحاج”، “هنا، انظر إلى هذا”، مظهرا مقطع فيديو على هاتفه لأحد أفراد قبيلة جعفر وهو يطلق النار على قرية “الصافورية” حيث تعيش قبيلة جمال. وأظهر فيديو آخر تم تصويره باستخدام كاميرا الرؤية الليلية لمبان مشتعلة في القرية، يقول الحاج ساخرا “لقد هرب الجميع من قريتهم”.
ولا شك في أن قبيلة جمال ستعود، وسيستمر الخلاف بين القبيلتين حتى يتم التصالح بينهما. أما بالنسبة إلى الحملة الأمنية، فهي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، إلا إذا بدأت الحكومة اللبنانية في التعامل بجدية مع أوجه القصور الاجتماعية والاقتصادية في منطقة شمال البقاع.
العرب