“لقد حلمت بهذه اللحظة لأكثر من نصف عمري”، هذا ما همست به لي جاني حليم؛ الناشطة المناهضة لنظام الفصل العنصري منذ فترة طويلة، عندما اقترب منا نيلسون مانديلا منا في الصف.
كان ذلك في العام 1993، وكنت قد تخرجتُ حديثاً في ذلك الوقت، وتواجدتُ في جنوب إفريقيا للعمل مع المؤتمر الوطني الإفريقي أثناء فترة انتقاله من حركة تحرير إلى حزب سياسي، ثم في النهاية إلى حكومة.
مع أن قدومه كان متوقعاً، فإن الأنباء التي تحدثت عن وصول مانديلا إلى المقر الرث لحزب المؤتمر الوطني في غرب كيب تسبب في إثارة كبيرة. وقد هرعت من مكتبي وراقبت من الممر المفتوح الذي كان يطل على موقف السيارات حيث ترجلت حاشيته الصغيرة من سيارات المرسيدس التي يستقلونها. وكان رئيسنا الإقليمي، توني ينجيني، هناك ليفتح له باب السيارة. ونظرت إلى الأسفل بينما ظهر زوج من الأحذية المصقولة، تلاه بنطال مكوي جيداً، ثم أخيراً، الرجل نفسه.
بدا مانديلا مسترخياً وأنيقاً وهو يتجه إلى المبنى. وفي الطابق الأول، رتبنا نحن الموظفين والمتطوعين أنفسنا على عجل في صف كيفما اتفق، وتركزت أعيننا على مطلع الدرج في نهاية الممر. وبالنسبة لكل واحد منا، كان مانديلا يمثل شيئاً شخصياً عميقاً: تجسيداً للآمال والصراعات التي كنا نادراً ما نجرؤ على التحدث عنها بصوت عالٍ.
ثم ظهر. أطول مما كنت أتصور. كان في الخامسة والسبعين من العمر في ذلك الوقت، وكان نحيلاً بحضور قوي موسوم بالكرامة. وبدأ يشق طريقه إلى صف النشطاء، ويتحدث إلى كل واحد منهم.
بالنسبة لي، كان ماديبا، كما كان معروفاً بمودة، جزءاً من وعيي طيلة الوقت الذي أتذكره. وعندما كنت طفلاً وأذهب في زيارات إلى جنوب أفريقيا، كنت أستلقي على سريري القابل للطي على شرفة شقة جدي وجدتي وأنظر عبر المحيط المعتم إلى أضواء جزيرة روبن الخافتة، وأفكر فيه. وفي المدرسة، أعددت مشاريع كثيرة عن الفصل العنصري، وشاركت على مدى سنوات في المسيرات والاحتجاجات وشاركت في الحملات.
في العام 1990، عندما انتشرت الأخبار عن أن مانديلا سيطلق سراحه، ذهبت مباشرة إلى ساحة الطرف الأغر في لندن للاحتفال، وفي اليوم التالي بقيت مسمَّراً أمام شاشة التلفزيون لكي أشهد أول لمحة له. اليوم، أصبح وجهه من أكثر الوجوه المعروفة في العالم، أما في ذلك الوقت، فكان 24 عاماً قد مر منذ نشر آخر صورة لمانديلا. وكان القليل من الناس يعرفون كيف يبدو مانديلا، ناهيك عن نوع الرجل الذي أصبح عليه.
والآن، هناك كان، واقفاً أمامي، بيد ممدودة.
“هذا هو ستيفان الذي يعمل في مكتبنا الإعلامي”، قال توني ينجيني. “إنه من لندن”.
“آه، من إنجلترا”، قال مانديلا وهو يُثبِّتُ عليَّ عينين باسمتين ويهزّني يدي بحرارة. “ما الذي أتى بك إلى بلدنا؟” أوضحت له باختصار كيف كان والداي في الأصل من كيب تاون وكيف كنتُ ناشطاً في الحركة المناهضة للفصل العنصري. “شكرا لك على وجودك هنا”، قال، متوقفاً لالتقاط صورة قبل أن ينتقل إلى بقية الصف. وبعد ذلك لم أره مرة أخرى لمدة عام تقريباً.
كان ذلك قبل تسعة أيام من الانتخابات، وعلى الرغم من أن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي كان يعرف أن كيب الغربية لم تكن منطقة يمكنه الفوز فيها -خسرنا في النهاية أمام الحزب الوطني بنسبة 40 % تقريباً- فقد تقرر أن يأتي مانديلا إلى كيب تاون لعقد بعض الاجتماعات النهائية وحضور تجمع شعبي. وكنت مسؤولاً عن تنظيم شؤون الإعلام، أولاً بالتقاط صور له مع تلاميذ المدارس في ملعب جرين بوينت، ثم في اجتماع سياسي في “حديقة جراسي” وأخيراً في حدث أقيم في استاد رياضي في أثلون.
عندما وصل مانديلا إلى استاد غرينبوينت في ذلك الصباح المشمس، كنت هناك في استقباله هو وفريقه. وعندما رآني، ابتسم مانديلا، ومن دون تفويت أي تفصيل، سألني: “كيف حال إنجلترا؟”.
لكن اليوم الذي بدأ بشكل مشرق انتهى بمأساة عندما أدى حادث التدافع في ملعب أثلون إلى مقتل ثلاثة أشخاص وتسبب بأكثر من اثنتي عشرة إصابة. ومع انتشار أخبار الكارثة، كان أحد رؤسائي يشعر بالقلق حيال الكيفية التي يمكن أن تظهر بها الحادثة في وسائل الإعلام. وقال متحسراً: “يمكنني أن أرى عناوين الأخبار الآن. سوف يسألون كيف يمكن أن يدير حزب المؤتمر الوطني الأفريقي البلد عندما لا نستطيع حتى أن ننظم تجمعاً شعبياً”.
لكن قلق مانديلا لم يكن يتعلق بتأثير وسائل الإعلام. كانت أفكاره الوحيدة تتركز على الذين قتلوا وعائلاتهم. وقام على الفور بتغيير خططه المسائية ليقوم بزيارة المصابين في المستشفى. لم تكن لديه حاجة لاستشارة الأطباء لتوجيهه إلى ما قد يكون الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله. كان يعرف ذلك بشكل غريزي.
بعد أن أغلقت صناديق الاقتراع في يوم الانتخابات، كان مانديلا في مزاج تأملي. “كان يجب أن أقفز من الفرح، ولكني أشعر بفقط بسكون”، كما تردد أنه قال لصديق: “هناك الكثير جداً من المسؤولية. الكثير جداً مما ينبغي عمله”.
وبعد أسبوع من الانتخابات، كنت في بريتوريا لحضور تنصيب مانديلا، وهو اليوم الذي أهدى فيه المناسبة إلى “جميع الأبطال والبطلات في هذا البلد وبقية العالم الذين ضحوا بطرق عديدة، وقدموا حياتهم حتى نستطيع أن نكون أحرارا. لقد أصبحت أحلامهم حقيقة. والحرية هي مكافأتهم”. وفي ذلك اليوم المليء بالنشوة في العام 1994، بدا كما لو أن أي شيء يمكن أن يتحقق: أن الناس، إذا اجتمعوا معاً، يمكنهم حقاً أن يغيروا العالم.
ربما كان ذلك واحداً من عناصر إرث مانديلا الأكثر ديمومة. فقد أظهر، بنزاهته وشجاعته وقوته، وفي مثال عملي، ما يمكن لفرد واحد أن يحققه، وبذلك غرس الإيمان بأن الظلم، سواء كان كبيراً أو صغيراً، يمكن أن يُهزم.
على مدى العقدين التاليين، رأيت مانديلا من بعيد مرات عدة. شاهدته بينما كان هو والملكة يرقصان في الحفل الذي أقيم في قاعة ألبرت في العام 1996، ومرة أخرى في عيد ميلاده التسعين في هايد بارك في العام 2008. وفي العام 2010، عدت إلى جنوب أفريقيا للاحتفال بالذكرى العشرين لإطلاق سراحه. كان عمره آنذاك 91 عاماً، وكان أضعف من القدرة على القدوم إلى موقع الاحتفال خارج بوابات سجن فيكتور فيرستر، لكنه ظهر لفترة وجيزة في البرلمان.
في حديثه في ذلك اليوم خارج بوابات السجن، قال سيريل رامافوزا، نائب الرئيس آنذاك، للحشد الصغير الحاضر بأنه “عندما كان مانديلا يسير خارجاً عبر هذه البوابات، كان سراحُنا نحنُ يُطلَق أيضاً”.
لكن أهمية الإفراج عنه كانت محسوسة أبعد كثيراً خارج حدود جنوب إفريقيا. وفي العالَم الجديد لما بعد الحرب الباردة الذي يختبر فترة تحول سريعة وخالية من اليقين، أعطى إطلاق مانديلا شعوراً متجدداً بالأمل والتفاؤل. وكما كتب الكاتب بريتين برايتنباخ في ذلك الوقت: “ربما يكون هناك الآن معنى أكثر منطقية لمرورنا المظلم على الأرض”.
على الرغم من أنه لم يكن مفاجئاً، ضربني خبر وفاة ماديبا في كانون الأول (ديسمبر) 2013 بقوة غير متوقعة. شعرت بفراغ هائل -على الصعيدين الشخصي والعالمي.
في معرض إلقائه محاضرة مانديلا السنوية يوم الثلاثاء، في ذكرى ميلاد الراحل في 18 تموز (يوليو)، نسج باراك أوباما على إرث مانديلا لتذكير جمهوره بأن “النضال من أجل العدالة الأساسية لن ينتهي أبداً”، وليحثهم على عدم الاستسلام للتشاؤم. وقال: “لقد مررنا بأوقات أكثر قتامة. مررنا بوديان أكثر انخفاضاً. وأنا أؤمن برؤية نيلسون مانديلا… أؤمن برؤية المساواة والعدالة والحرية”.
في ذلك الأسبوع، عند افتتاح معرض مانديلا المئوي في لندن، صادفت النسخة التي كان يمتلكها مانديلا من الأعمال الكاملة لشكسبير. وكان الكتاب مفتوحاً على المشهد الثاني من الفصل الثاني من مسرحية “يوليوس قيصر”، وكانت إحدى الصفحات معلَّمة في الهامش باسم مانديلا وبالتاريخ: كانون الأول 1977.
كان النص في الصفحة: “الجبناء يموتون مرات عديدة قبل مصارعهم. والشجعان لا يذوقون طعم الموت سوى مرة واحدة. من بين كل العجائب التي سمعتها حتى الآن، يبدو الأكثر غرابة أن يخاف الرجال، وهم يرون أن الموت، وهو نهاية ضرورية، سيأتي عندما يأتي”.
ستيفان سيمانوفيتز
الغد