مُوج الساحة العراقية بتحولات وتغيرات معقدة تنامت وتسارعت في مرحلة ما بعد عام 2003 الذي شهد الحرب الأمريكية على العراق، وقرار احتلاله، وتغيير نظامه السياسي، وما رافق ذلك من تعقيدات وتحولات في البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية نتج عنها أزمات متعددة ومعقدة ذات تداعيات انعكست بشكل كبير على طبيعة ووحدة المجتمع العراقي، وقد تنوعت أسبابها وتعدد فاعلوها واختلفت أشكالها. يتمثل أبرز هذه الأزمات في أزمة العنف الطائفي التي اتضحت معالمها للعلن بعد عام 2003، ثم انتشرت في جسد المجتمع العراقي كوباء تغذيها أوضاع مرحلة الاحتلال، بصورة وضعت وحدة المجتمع والدولة العراقيين محل اختبار اختياراته فادحة النتائج.
ومن أجل التعرف على أزمة العنف الطائفي المستشري في العراق ينبغي معرفة أسبابه، ووسائله، وما يرتبه من عنف، ومن ثم التداعيات والآثار التي يُخلفها لكي يتم التوصل إلى وضع السبل المناسبة لمعالجة هذه الأزمة.
أسباب العنف الطائفي في العراق:
لم تكن أزمة العنف الطائفي التي شهدتها الساحة العراقية نابعة من فراغ، بل تجمعت أسباب عدة لتُفَاقِمَ هذه الأزمة، وتطيل أمدها، لعل أهمها:
أولا: موروث الفكر الطائفي: يستند الفكر الطائفي في العراق إلى موروث تاريخي يقوم على أساس صراع مفترض حول أحقية تولي الخلافة بعد الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) يُؤججه ما يُسمى بــــ”رجال الدين” لأسباب تتعلق بمصالحهم السياسية والاقتصادية. شكل هذا الفكر مخزونًا تاريخيًّا لا يضم سوى الشبهات التاريخية ذات البعد القائم على الأيديولوجية الدينية الخلافية بين المكونات والمذاهب الإسلامية، ترسخت عبر السنين لتشعل أزمة عنف متبادل.
ثانيًا: التحولات السياسية: نتج عن مرحلة الاحتلال الأمريكي للعراق منذ عام 2003 تحولات سياسية شملت بُعدًا طائفية دينيًّا–عرقيًّا ابتدأت بتشكيل ما يُسمى بــــ”مجلس الحكم” الذي توزع أعضاؤه على أساس ديني-عرقي بين سنة وشيعة عربًا وأكرادًا، وتشكيل الحكومة المؤقتة بتوزيع المناصب فيها على أساس طائفي، وتوفرت بيئة ملائمة لانتشار الأحزاب والحركات الدينية ذات التوجهات الطائفية الأحادية في ظل ظروف الفوضى التي خلفها الاحتلال الأمريكي، فساعدت هذه الأحزاب والحركات على كسب تأييد العديد من المواطنين على حساب الحركات والتيارات ذات التوجه الوطني.
ثالثًا: ضعف المستوى الثقافي: أدت الأوضاع السياسية والاقتصادية المتدهورة التي عاشها المواطن العراقي لعقود طويلة في ظل عدة حروب وحصار واحتلال أمريكي إلى ترك فئات واسعة من المجتمع قيد الانشغال بهموم الحياة لتقع أسيرة قوالب الثقافة الطائفية التي قدمتها الأحزاب أو الحركات الدينية والقومية لتزيد من التراجع الثقافي وضعف الوعي لدى أفراد المجتمع، ويتركه عرضة للانسياق خلف الزعامات الطائفية التي ظهرت في هذه المرحلة.
رابعًا: التهميش والإقصاء: تعرض بعض المكونات في العراق للإقصاء والتهميش واستمرار تطبيق قوانين ذات بعد طائفي عليهم، وتزايد السخط الشعبي لدى أوساط عديدة، وبروز ظاهرة الاحتجاجات والمظاهرات في عدد من محافظات وسط وشمال العراق المطالبة بإنهاء الإقصاء والتهميش الواقع عليها، وقوبلت بالرفض والقمع، وتم إنهاؤها بقوة السلاح، ما زاد من حدة الاحتقان الطائفي فيها.
خامسًا: الخلافات السياسية وجمود العملية السياسية: ارتبط مسار العملية السياسية بمستوى العنف الطائفي فكلما احتدمت الخلافات السياسية بين السياسيين والأحزاب والحركات السياسية ارتفعت وتيرة العنف الطائفي، لارتباط العديد من الأحزاب السياسية بالمليشيات الطائفية، إذ تستخدم العنف كوسيلة لتحقيق مصالحها السياسية، والاستمرار في استخدام الخطاب الطائفي لشحن وإثارة أتباعها ضد المكونات الأخرى.
سادسًا: ضعف سلطة الدولة: اتسمت الدولة العراقية الناشئة بعد عام 2003 بعدم قدرتها على فرض السيطرة على الأمور، وعدم استطاعتها استخدام القوة لمواجهة المليشيات والجماعات الطائفية والإرهابية التي تقود أزمة العنف في العراق والقضاء عليها.
سابعًا: تعامل الأجهزة الأمنية والقضائية: تكشف ممارسات الأجهزة الأمنية والقضائية مدى طائفية هذه المؤسسات في الاعتقال العشوائي، وانتزاع الاعترافات بالتعذيب والسجن دون تهم أو أوامر قضائية، وهو حال طالما تضمنته تقارير الأمم المتحدة وبتوثيق دقيق.
ثامنًا: الإعلام الطائفي: كان ولا يزال لوسائل الإعلام التابعة لمختلف التيارات والجماعات السياسية دور في تأجيج الشارع العراقي وتحريكه طائفيًّا، وغالبًا ما يزيد من التوترات التي تصاحبها وتتبعها عمليات عنف متبادلة بين المكونات والطوائف.
تاسعًا: الفتاوى الدينية: شكل صدور الفتاوى الدينية ذات الصبغة الطائفية سمة ظاهرة في مرحلة الاحتلال الأمريكي للعراق وما بعدها، وتنوعت هذه الفتاوى بالرغم من اختلاف مبرراتها، بين استباحة دماء أبناء الطوائف الأخرى، واستحلال أموالهم، وتحريم التعامل معهم اجتماعيًّا واقتصاديًّا وغيرها. بحيث صارت الفتاوى الدينية التي تُطلقها الزعامات والمراجع الدينية مرتكزًا أساسيًّا للجماعات وحتى الأفراد في ممارسة العنف ضد أفراد المكونات الأخرى وبمختلف الأشكال، لا سيما في ظل أجواء الفرز الطائفي والمذهبي التي يعيشها المجتمع العراقي.
عاشرًا: الفشل الحكومي: لم تستطعْ الحكومات المتعاقبة تحقيق برنامج وطني شامل يتعامل مع جميع مكونات المجتمع العراقي بصيغة واحدة، وإنما اتسمت السياسات الحكومية باللون الطائفي، ولم تتحقق التنمية الشاملة المطلوبة، واستمر التدهور الأمني واستشراء الفساد وتضييق الحريات العامة وتعطيل القوانين، فضلا عن الخلافات المستمرة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان.
حادي عشر: التدخلات الإقليمية: يُعد التدخل الإقليمي في الشأن العراقي -لا سيما النفوذ الإيراني- الداعم الأساسي للأحزاب والجماعات والمليشيات المسلحة المرتبطة به أيديولوجيًّا هو الفاعل الأبرز في أحداث العنف، واتهمت بارتكاب المجازر الجماعية في العديد من المناطق ذات الاختلاط السكاني، مثلما اتُهمت دول خليجية بدعم الجماعات المسلحة التي كانت تمثل جانبًا من مشهد استخدام العنف في الساحة العراقية، الأمر الذي يبرز التدخلات الإقليمية في دعم المتطرفين من الشيعة والسنة، والمساهمة في استمرار تنامي أزمة العنف الطائفي في العراق.
ثاني عشر: ارتدادات الأزمات الإقليمية لا سيما أزمتي البحرين وسوريا بطابعهما الطائفي الذي تسبب في زيادة الانقسام بالمجتمع العراقي تجاهها: فإزاء أزمة البحرين وقفت القوى السياسية والمسلحة الشيعية مع المعارضة، بينما تعاطفت القوى السنية مع النظام الحاكم والعكس في التعامل مع الأزمة السورية.
وسائل العنف الطائفي:
تستخدم المليشيات والحركات المسلحة الطائفية وسائل متعددة عند ممارستها للعنف، تتمثل في:
1- الهجمات المفاجئة التي تقوم بها جماعات العنف ضد جماعات أو أفراد أو تجمعات سكانية من مكون طائفي أو عرقي آخر.
2- تفجير السيارات المفخخة والعبوات الناسفة في الأماكن السكنية والأسواق التي يغلب على متواجديها الطابع الديني أو العرقي الواحد.
3- عمليات الخطف والاحتجاز والتعذيب والقتل وأخذ الفدية من قبل فرق الموت، وغالبًا ما يُقتل الضحية بعد أخذ الفدية، واتسمت هذه العمليات بأنها ذات بعد طائفي.
4- عمليات الإعدام الجماعية، هذه الظاهرة كانت سمة المرحلة الحالية في ظل التصعيد الأمني، واتهمت بها أجهزة أمنية حكومية، وفي الأعم تطال السجناء من مكون معين، وينفذها أشخاص يرتدون الزي الرسمي للأجهزة الأمنية الحكومية.
5- إرغام العوائل على ترك منازلها تحت ضغط التهديد بالقتل، وترك المناطق ذات الطبيعة المختلفة ويتم تهجير المكون الأقل في هذه المنطقة أو تلك.
آثار وتداعيات العنف الطائفي:
انعكست أزمة العنف الطائفي سلبًا على الواقع العراقي سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا واجتماعيًّا، ويمكن تلمُّس آثارها وتداعياتها فيما يأتي:
أولا: تُعد أزمة العنف الطائفي أهم العقبات التي تُهدد التجانس الاجتماعي والوحدة الوطنية، وتعوق تقدم ملف المصالحة الوطنية، وتزيد من تعثر العملية السياسية، وتسببت في إعلان دعوات للانسحاب من العملية السياسية، وتقسيم البلاد أو الانفصال من أطراف عدة.
ثانيًا: تغيير التركيبة الديموغرافية للكثير من المدن والمناطق السكنية في مختلف أرجاء العراق، ما يعني اختفاء المناطق ذات السكن المختلط أو المشترك، لا سيما بين السنة والشيعة.
ثالثًا: خلفت وتخلف أزمة العنف الطائفي مئات الآلاف من القتلى والمعاقين من جميع مكونات المجتمع العراقي.
رابعًا: كانت هذه الأزمة سببًا في تهجير قسري ونزوح ما بين (2 إلى 4,5) ملايين مواطن ونزوحهم داخل وخارج العراق.
خامسًا: وقعت الأقليات الدينية والعرقية ضحية هذا العنف، وتم استهداف أماكن العبادة الخاصة بها، وأجبر الكثير من أفرادها على الهجرة خارج العراق.
سادسًا: هجرة الكفاءات والنخب المتعلمة التي طالتها الاستهدافات الطائفية وتزايد خطر الاغتيالات المنظمة ضدهم.
سابعًا: انتهاكات مستمرة لحقوق الإنسان، وتقييد الحريات الأساسية للمواطن العراقي.
سابعًا: تمثلت التداعيات الاقتصادية في هروب رؤوس الأموال والتجار ورجال الأعمال خشية الابتزاز ودفع الفديات والاستهدافات على أسس طائفية، مثلما كان للتفجيرات في الأسواق وتهميش مناطق معينة من الحركة التجارية آثار سلبية على الحياة الاقتصادية في البلاد.
سبل المعالجة:
مَثَّلَ هذا أزمة خطيرة تُهدد حاضر ومستقبل المجتمع والوطن العراقيين، ولمواجهة أزمة تنامي ظاهرة العنف الطائفي في العراق لا بد من اتخاذ ما يلي:
1- وضع برنامج حكومي وطني شامل متفق عليه من قبل كافة القوى الوطنية وبمساعدة إقليمية ودولية يضمن إعادة إصلاح التشريعات والمؤسسات الحكومية، ويُساهم في قيام دولة المواطنة التي يشعر فيها الفرد بحاجته إلى الدولة أكثر من حاجته إلى الطائفة.
2- تفعيل تطبيق القوانين التي تمنع وجود وتشكيل الحركات والتجمعات على أسس طائفية، ومكافحة كافة التشكيلات والمليشيات الطائفية، لا سيما التي عرفت بمشاركتها بأعمال العنف الطائفي.
3- ترسيخ النظام الديمقراطي التعددي الفاعل باعتباره سبيلا يمنع الاستئثار بالسلطة من قبل جهة أو مكوّن معين على حساب المكونات الأخرى.
4- السعي لبناء نظام يحفظ حقوق جميع مكونات المجتمع العراقي ويقوم على أساس المساواة وتكافؤ الفرص.
5- تفعيل ملف المصالحة الوطنية الشاملة ومعالجة القضايا الخلافية التي تعوق العملية السياسية، وتعرقل مساعي التقارب بين المكونات الاجتماعية.
6- بناء قوات أمنية تقوم على أساس شمول أفراد جميع المكونات فيها وإبعادها عن ممارسة أي طقوس أو شعائر دينية تثير الحساسيات الطائفية.
7- حصر السلاح في نطاق الأجهزة والمؤسسات الأمنية، ووضع برنامج شامل لنزع الأسلحة المنتشرة بأيدي المواطنين والجماعات والمليشيات المسلحة.
8- الترويج لثقافة التسامح، وتعزيز روح المواطنة ومحاسبة الأفراد والجهات التي تروج لأي ثقافة طائفية.
9- تفعيل ودعم وسائل الإعلام ذات التوجه الوطني التي تدعم ثقافة التسامح وتعزيز روح المواطنة، ومقاضاة وسائل الإعلام التي تثير الفتنة الطائفية في العراق.
10- التركيز على المشتركات التي تجمع أبناء المجتمع، والتأكيد على عدم إثارة أيٍّ من القضايا الدينية والتاريخية التي تثير النزاعات الطائفية.
11- إلغاء نظام المحاصصة الطائفية في العملية السياسية، والاعتماد على الكفاءة في توزيع المناصب والمهام السياسية والإدارية.
12- إعادة الأسر والعوائل المهجرة قسريًّا إلى مناطق سكناهم، وتعويض المتضررين من جرّاء أعمال العنف الطائفي ماديًّا ومعنويًّا.
وخلاصة القول، إن أزمة العنف الطائفي في العراق تُعد عقبة أساسية أمام بناء دولة المواطنة القوية التي تمثل حاجة ملحة لإنقاذ العراق من الأزمات المتوالية التي يُمر بها بين حين وآخر وأضرارها تمس الجميع، ولا تستثني حتى مثيريها، إذ سرعان ما تطالهم تداعياتها. وتقع مسئولية معالجتها على مختلف مكونات المجتمع العراقي حفاظًا على وحدة العراق الذي يعاني أزمات مستمرة ومعقدة.
د. مثنى العبيدي
المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية