تلقي الهزة الدبلوماسية الأخيرة بين الرياض وأوتاوا الضوء على السياقات المضطربة التي أصبحت تميز العلاقات بين السعودية ودول غربية تعتبر حليفة للمملكة، على خلفية قضايا حقوقية وسياسية تربك الرياض ودبلوماسيتها.
وإثر مطالبة كندا السعودية بإطلاق سراح ناشطين معتقلين، أعلنت الرياض استدعاء سفيرها في كندا، واعتبار السفير الكندي لديها غير مرغوب فيه، كما جمدت كافة التعاملات التجارية والاستثمارية الجديدة مع كندا.
ونشرت السفارة الكندية بالرياض تغريدة على تويتر عبرت فيها عن قلق بلادها البالغ إزاء الاعتقالات الإضافية لنشطاء المجتمع المدني ونشطاء حقوق المرأة في السعودية، ومن بينهم الناشطة سمر بدوي، وحثت على الإفراج فورا عن جميع النشطاء السلميين في مجال حقوق الإنسان.
وردت الحكومة الكندية بالتأكيد على أنها ستظل دائما تدافع عن حماية حقوق الإنسان، خاصة حقوق المرأة وحرية التعبير، وأنها تسعى لاستيضاح تصريحات سعودية عن تجميد التعاملات التجارية الجديدة.
وقالت المتحدثة باسم الحكومة الكندية ماري بير باريل -في بيان أصدرته اليوم الاثنين- إن كندا “قلقة بشدة” من الإجراءات التي اتخذتها السعودية.
ملف مربك
وفي بيانها “المتشنج” نددت وزارة الخارجية السعودية بما سمته تدخلا سافرا في الشؤون الداخلية، وبما يخالف الأعراف الدولية، ورأت أنه يعدّ تجاوزا كبيرا على أنظمة الدولة والسلطة القضائية، وإخلالا بمبدأ السيادة، و”هجوما” يستوجب اتخاذ موقف حازم يردع كل من يحاول المساس بسيادتها، وفق البيان.
ورأى متابعون أن رد الفعل السعودي بـقطع العلاقات الدبلوماسية مع كندا وتجميد كل المعاملات التجارية معها مبالغ فيه، ويدل على أن الملف الحقوقي بشقيه الداخلي أو الخارجي يمثل مصدر إزعاج كبير للرياض في المحافل الدولية، وإرباكا لعلاقاتها الدبلوماسية التي تتعرض للتآكل.
وتتعامل السعودية مع الانتقادات الحقوقية -خاصة الصادرة عن الحكومات- بحساسية شديدة، لكن هذه الانتقادات تواترت مؤخرا، وآخرها تلك التي وجهتها المتحدثة باسم المفوضية السامية لحقوق الإنسان رافينا شامداساني، التي عبرت عن دهشتها من التناقض “الصارخ” بين مظاهر الانفتاح الجديدة وقمع المدافعين عن هذا الانفتاح وحقوق الإنسان، وفق تعبيرها.
وباعتبار أن الجوانب التجارية والاقتصادية أولوية في العلاقات مع المملكة، دأبت الحكومات الغربية على عدم إثارة القضايا الحقوقية أو انتقاد سجل المملكة وممارساتها في هذا السياق، لكن المتغيرات الأخيرة جعلت حكومات عدة تنتقد المملكة، لا سيما بعد توالي معاركها السياسية والعسكرية في الداخل والجوار وتبعاتها الإنسانية والحقوقية.
وتعتقل المملكة حاليا مئات النشطاء الحقوقيين وعلماء الدين والمفكرين والاقتصاديين ورجال أعمال وناشطات مدافعات عن حقوق المرأة، بينهن سمر بدوي، وهتون الفاسي التي ألقت السلطات القبض عليها في يونيو/حزيران الماضي.
وللمملكة سجل في قطع العلاقات مع الحكومات التي تنتقدها؛ ففي مارس/آذار 2015 انتقدت السويد عدم احترام السعودية حقوق الإنسان، على خلفية قضية المدون رائف بدوي، وأوقفت تعاونها العسكري معها، فردت المملكة باستدعاء سفيرها في ستوكهولم؛ لتنشب أزمة بين البلدين استمرت فترة.
وتوترت العلاقات بين ألمانيا والسعودية أواخر عام 2017 على خلفية موقف برلين من احتجاز رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري في الرياض وحصار قطر، واستدعت المملكة سفيرها في ألمانيا للتشاور، كما جمدت الحكومة الألمانية مبيعات الأسلحة للرياض.
ورغم مظاهر العلاقات الجيدة بين لندن والرياض، فإن أصواتا عديدة تعلو داخل مجلس العموم البريطاني وخارجه تنتقد الملف الحقوقي للمملكة، وتتهم الحكومة البريطانية بمهادنة السعودية، خاصة في مجال حقوق الإنسان، وكذلك حرب اليمن التي تسببت في مآس إنسانية هائلة.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2016، تبنى البرلمان الأوروبي قرارا يدين انتهاكات التحالف بقيادة السعودية في اليمن، وطالب بفتح تحقيق في تلك الانتهاكات وخرقها القوانين الدولية، ومحاسبة مرتكبيها، والتوقف عن دعم التحالف، وهو موقف غير مسبوق من المؤسسات الأوروبية.
دبلوماسية الأزمات
ورغم السطوة الاقتصادية للمملكة على العديد من الشركاء، و”دبلوماسية الشيكات” التي تعتمدها؛ فإن الانتقادات للسياسات السعودية تتوالى من حكومات ودول عدة، على ضوء موجات الاعتقالات المتتالية في الداخل، والتي طالت معظم شرائح المجتمع من الأمراء إلى النساء، ومأساة حرب اليمن وحصار قطر.
وفتحت هذه الملفات -خاصة حصار قطر وتداعياته- جبهة انتقاد واسعة على المملكة التي كشفت نفسها للكثير من التقارير الإعلامية والحقوقية التي رصدت انتهاكات ومشاكل داخلية حقوقية وسياسية مزمنة ومستجدة فيها، باتت حديث المحافل الدولية ووسائل الإعلام.
وأدى التورط في هذه الأزمات إلى تقويض صورة المملكة على الصعيد الدبلوماسي، وإضعاف هيبتها الدبلوماسية في المحافل الدولية، واهتزاز صورة المملكة في العالم العربي وعلى المستويين الإقليمي والدولي، وحتى لدى الدول والحكومات الحليفة.
ويؤكد موقع إنترسبت الأميركي في مقال عن الدبلوماسية السعودية أن الأزمات التي تعانيها المملكة آخذة في التزايد “بشكل كارثي”، بسبب ما سماها “السياسة المتهورة” لولي العهد محمد بن سلمان التي قامت في الأساس على تأييد إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، واعتمدت على المال لاستمالة الحلفاء والتعتيم على الكثير من الملفات.
ويرى مراقبون أن التعاطي الدبلوماسي السعودي الراهن مع مسألة الانتقادات الحقوقية أو المتعلقة بالرد على المخالفين من شأنه أن يترك المملكة في عزلة، مع تزايد الهواجس وارتفاع منسوب الانتقادات.
المصدر : الجزيرة,مواقع إلكترونية