قرار الموصل بالانضمام إلى الدولة العراقية في استفتاء عام 1918 (على أحد الأقوال) كان أساسه وجود دولة ومجتمع، وقد أدت الحكومة المركزية في الدولة الفتية آنذاك دوراً هاماً في رعاية تعايش غنيّ بين مجتمعات وأديان مختلفة.
اليوم لا توجد دولة في العراق والموصل تتحكم فيها مليشيات خوف وفساد، تهدد مجتمعها وأسباب بقائها على قيد الحياة كحاضرة، ومن حق الموصل البحث عن أسباب للبقاء.
شغَلنا -ونحن صغار- سؤال: لماذا تختلف الموصل عن محيطها بطباعها وتقاليدها ولهجتها؟ لم نكن نجد إجابة على هذا السؤال (ثقافة الحاضرة لم تسمح بذلك)، وكان لا يلبث أن يتلاشى أمام طموح الفتى الموصلي إلى التميز والتفوق (لا على مستوى مدينته فحسب بل على مستوى العراق)، وهو أهم وسام يبرزه الموصلي عند التعريف بكفاءته العلمية.
الحديث المشهور عن وضع الموصل بعد 1918 عنوان بلا مضمون لحدث لا علاقة لأهل الموصل به، خرائط سايكس بيكو انتزعت الموصل من نسيجها الاجتماعي الإقليمي، ومن جغرافية كانت هي عاصمتها وتضم حواضر عربية على رأسها حلبوماردين وصعرت وجزيرة ابن عمر وأورفه، وهي رقعة جغرافية زاخرة بالحضارات وبأحداث التاريخ والأديان والفنون والمدنية.
“الحديث المشهور عن وضع الموصل بعد 1918 عنوان بلا مضمون لحدث لا علاقة لأهل الموصل به، خرائط سايكس بيكو انتزعت الموصل من نسيجها الاجتماعي الإقليمي، ومن جغرافية كانت هي عاصمتها وتضم حواضر عربية على رأسها حلب وماردين وصعرت وجزيرة ابن عمر وأورفه، وهي رقعة جغرافية زاخرة بالحضارات وبأحداث التاريخ والأديان والفنون والمدنية”
وذلك ما صبغ مجتمعاتها بصبغة التعايش الديني والقومي والتنوع الفني والذوقي، وفي هذا إجابة على سؤال الطفولة البريء الذي لم تبقَ أمامه اليوم مغريات يتلاشى أمامها، ويصر على إجابة تعرّفه معالم درب وجد نفسه عليه دون اختيار.
لم تمنح الخريطة الجديدة حاضرة المنطقة وعاصمتها الجغرافية (الموصل) مكانتها القادرة على تبوئها، والتي كان لها اقتصاد عالمي يتمثل في صناعة النسيج المصدّر إلى أوروبا، وفن عالمي وصناعات حرفية فاقت في عددها وتنوعها ما كان في أقدم مدينة مأهولة في التاريخ وهي دمشق.
انقطعت الموصل عن ريادتها الإقليمية والعالمية لتصبح مدينة ثانوية في دولة فتية، أما ريادتها في هذه الدولة فقد فرضها على مستوى فردي أبناؤها بحبهم للانضباط والحرص على مصلحة الدولة، وهو إرث اجتماعي تراكمي في مجتمعهم.
استطاعت الموصل المنفصلة عن عمقها الاجتماعي الإقليمي التأقلم مع البيئة السياسية الجديدة، وجعلت من العروبة عروتها الوثقى مع العراق العربي وكانت ركيزتها، ومن الإسلام الحنيف عروتها مع إخوانها من القوميات الأخرى.
واعتزت بأنها كانت العمود الفقري الذي تنتصب به الدولة ورئتها التي تتنفس بها، والسر في ذلك أن الحواضر تخدم أي محيط وُجدت فيه شرط وجود دولة تحمي منظومتها الاجتماعية، وهي كالطبيب الذي يدواي الناس أينما حل شرط وجود المستشفى.
دور الموصل هذا توقف بعد أن هدم الاحتلال الأميركي/الإيراني للدولة العراقية التي انتمت إليها الموصل في 1918، وأخلّ بعقد العلاقة بينها وبين ما كان دولة (وأصبح كيانا سياسياً)، ووضع منظومتها الاجتماعية تحت منظومة تكونت (عبر الأزمنة) خارج مفهوم الدولة والمجتمع (المرجعية الشيعية)، لتتوقف منظومة الحاضرة عن العمل وتعجز عن عملية الإصلاح والنهوض.
ليس في هذا مساس بالفرد الشيعي الذي تصرف تصرفاً “سنياً”، وتميز وبرع تحت سقف الدولة العراقية التي حمته من مشروع المرجعية الذي يهوي اليوم بتميزه وإنسانيته ومواطنته، أما وصف تصرفه “بالسني” فلأن الدولة هي مرجعية المجتمع السني الذي لا مرجعية دينية له.
استبدال منظومة كالمرجعية بمنظومة الدولة إخلال بالعقد الذي ينظم علاقة الحاضرة مع الكيان السياسي، وتهديد لمنظومتها الاجتماعية، وشمس الموصل الاجتماعية والثقافية يتوارى قرصها في الأفق. وهي اليوم أطلال لا يشبهها شيء، وتتحول من حاضنة آمنة للعقول إلى طاردة لها، ومن حاضرة إلى قرية كبيرة.
“بات مسرح حواضرنا المدمَّرة يمثل جغرافية جديدة وثقافة مشتركة، هي ثقافة سلوك الحواضر وإيجاد آليات إحياء المجتمع في غياب الدولة، وهي الثقافة المشتركة الحقيقية بين حواضرنا المدمرة ولعقود قادمة. من حق حاضرة الموصل البحثُ عن أسباب البقاء، ويبقى دائما على رأس أسباب البقاء (في ثقافة الحواضر) إعادة الدولة، شرط أن تكون إعادتها عملاً واقعياً”
ومع الاعتزاز بالقرية وأصالتها فإنه ليس في منفعة المعادلة الاجتماعية للوطن طغيان القرية على المدينة أو العكس، وفي العراق لم تبقَ مدن وإنما هناك تجمعات بشرية كبيرة ليست لها وظيفة اجتماعية.
الموصل ليست وحدها على مسرح انحسار الحواضر الذي يمتد على جغرافيتها الإقليمية السابقة، ومثلها حلب وحمص وحماة والرقة. ومن أولى أولويات الحواضر -زمن الأزمات- إدامةُ مقدرتها على البقاء كحواضر والأهبة للنهوض، فهي كالأرض اليابسة التي تستعيد حياتها بنزول الغيث، وتنبت من كل زوج بهيج ما لم يُعبث بكيمياء تربتها.
مرّت الموصل في حقب سياسية عربية وسلجوقية وأتابكية (شُيّد فيها الجامع النوري الكبير) وعثمانية، وواجهت أزمات لكنها بقيت حاضرة وبقيت جاهزة اجتماعياً للنهوض حال تغير الظروف.
بات مسرح حواضرنا المدمَّرة يمثل جغرافية جديدة وثقافة مشتركة، هي ثقافة سلوك الحواضر وإيجاد آليات إحياء المجتمع في غياب الدولة، وهي الثقافة المشتركة الحقيقية بين حواضرنا المدمرة ولعقود قادمة.
من حق حاضرة الموصل البحثُ عن أسباب البقاء، ويبقى دائما على رأس أسباب البقاء (في ثقافة الحواضر) إعادة الدولة، شرط أن تكون إعادتها عملاً واقعياً.
وهو ما أثبتت الحكوماتُ المتتالية -بعد الاحتلال- ومليشياتها المنتشرة في المدن (حتى اللحظة) التصميمَ على عدم حدوثه، ومن حق الحواضر حل أزماتها بعد غياب الدولة بالرجوع إلى أرصدتها الثقافية والاجتماعية ما قبل الدولة.
أما ما هو ليس من حق حكماء الحواضر على مجتمعهم وعلى قيمهم وتاريخهم؛ فهو القعود وانتظار الفناء داخل دولة لم يعد لها وجود على أرض الواقع.
الجزيرة نت